01-يناير-2017

(Getty) جندي روسي مع كلبه في عملية بحث عن ألغام في حلب

لا يجد متابع الشأن في سوريا بعد الاحتلالين الروسي والإيراني لحلب -خاصة السوريين- نفسه في موضعِ المهذَّب، الحريص على قاموسهِ اللغوي، إن كانَ كاتبًا أو صحفيًا، بل سرعانَ ما ينزلق المعنى بوضوحهِ إلى الفجاجةٍ، تنحازُ فيها اللغة إلى الشتيمة أكثر من التنميق، إلى السفورِ أكثر من المقنّعِ والتورية، إلى الهشاشةِ المعبّرةِ عن العجز، وإلى الكفر لا الإيمان، إلى الصِدام مع المدنّس والمقدّس على حدِ سواء، والاختلاف مع الوقائع والاحتكامِ إلى الغيبيات بوجود علاقة مهتّزةٍ مع الله، ظاهرها العتب وباطنها التشكيك بقدرته على الإتيانِ بمعجزة تُبدّل الحال، وتجعلُ الحقيقةَ المرةَ، تمرُّ، بوصفها كابوسًا، استطاعتْ قوةٌ قَدريةٌ إنهاءهُ، بحيث يمكن ثانية للإنسان أن يرجعَ إنسانًا سَويًا، وينزع عن روحهِ البهيمية التي علقت بها، وأعطتها عقلًا معطّلًا وسلاحًا وسلطةً نافذة، فصارت تقتل وتحرق، وتدفنُ مثيلاتها حيةً، وتغتصب بما تحمله "اغتصاب" من تلويث وتشويه، يقودُ المغتَصَب إلى فضِّ الشراكةِ مع الحياة لو جاز له، وفكِّ الشراكة معَ القوةِ الجَبرية، تلكَ الهالةِ التي طالما رافقتهُ وآمنَ بها كطرفٍ مُغيثٍ، لكن في لحظة ضعف "تاريخية"، تنقلبُ السردية الطويلة على أصحابها، ويصبحُ المُغيثُ المفترض أن يغاثُ، كلاهُما في سفينة، لم تخض الفيضان، ولم تطل الجبال لترسو، إنّما غرقت في النار. 

في سوريا، باتت اللغة تنحاز إلى الشتيمة أكثر من التنميق، إلى السفورِ أكثر من المقنّعِ

أين الله؟!

تساؤل مريب وذو شجونٍ في الآن ذاتهِ، فالذين يَتَسمونَ بأسماءَ تقربهم من الله، ويسمونَ قطعانِهم وأسلحتهم وحافلاتهم، لتصبحَ تلكَ الأسماء المنحدرة من جذرٍ واحدٍ بلاء ونقمة بين أبناء المنهجِ والعقيدة، بحيث ينشغلونَ ببعض، ويوجهونَ سيوفهم إلى أعناقِ المختلفين، فثمةَ مستلزم أولي هو إعلاء كلمةِ "الممول" والذي هو دولة أو دول، لاترفع شعارًا يوسمُها بـ"الإرهاب" وبما تخاف منه على جيوشها أو مناوراتها، لكنها تجدُ ذلكَ في أدواتٍ، بعضها جاءَ لينصرَ إيمانهُ، وبعضها جاء لينصر جيبهُ، وبعضهم جاءَ ليقتل الله نفسهُ بادعائهِ أنُّه نائبه ووكيلهُ وحامل لواء تشريعه: ابتداءً من التدخين إلى جواز الترحم على صادق جلال العظم مثلًا، إلى تفكيكِ المعاملِ إذا كانت تضخُّ إيراداتِها لـ"النظامِ النصيري".

اقرأ/ي أيضًا: دكتوراه لجدّتي الأمّية

يُقابلُ هذا ضخٌّ في ساقيةِ ثنائية سنة/ شيعة، ويكونُ الشيعةُ بمظلوميتهم بمقتل الحسين أقربُ إلى إيران وأكثرُ سَندًا من السنةِ التي تندبُ السعودية خذلانهم، ويذرفُ السلطان أردوغان دموعه الجماهيريةِ لأجلهم، ويتباكىَ الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية عليهم، ويطلب من ترامب البتَّ بأمر الجولان واعتبارها إسرائيلية، ويصرّح الإيراني باحتلالهم أربع عواصم، وييتفاءل الجبير جابر عثراتِ السنة: "بشار لن يستمر في الحكم عاجلًا أم آجلًا"، وبينَ تجييش واضح وفاضح، يجعلُ كلمة "احتلال" هي الأكثر حظوة في التداولِ السياسي القادم، تصبحُ كلمة إعلاء كلمة الله على حسابِ إبادة مدينة، تتجاوز معنى المدينةِ إلى ما يؤسس لشرخ في ذات الإنسان، وتذويبٍ لهويتهِ، وبالتالي شيطنةٍ لكلِّ خطوةٍ باتجاه الحرية التي هي نجاة من الجحيم في أحد أوجهها، يتعادلُ الروسُ كدولة مع الميليشيا كعصابة، تلكَ تقوّض النظام وتعدمهُ معنويًا فتتحدث باسمه، وتلجمُ في الظاهر قوىَ كبيرة، تَنحّتْ عن دورها، فعظمت دور الآخر، وكثُرت خطوطها الحمر، فصارت رمادية، لصالحِ خطوطِ النار من الجو، وشراسةِ الذين جاؤوا بأحزمةِ الطائفة وعصّبوا رؤوسهم، ونشروا "يا حسين" في كلِّ زاويةٍ، منكلينَ "بقتلته"، الذين فَروا بما تبقىَّ بأطفالهم ومن دونهم، ليغسلوا أيديهم من دمِ الضحية قبل أكثر من 1400 عام!

مَن يُصدّق الكذبة

تَدريجيًا الفصائلُ المقاتلة، تدرجت بحسبِ الروس من المعتدلةِ إلى الإرهابية، ليكونَ قتلها، وقتل حاضنتها مباحًا، بل هدفًا للوصول إلى "سوريا الأسد" مرةً أخرى، ذلك أن المقاربات بين نظام يبطش ومعارضة مشتتة برايات وفتاوى بحسبِ داعميها تكون لصالح القوي، سيما وأنَّ أعدقاء سوريا أقلُّ كفاءةٍ من أصدقاء الأسد وأكثر سخاءٍ في توطيدِ مكانتهِ بعدَ خَصيهِ وقلعِ أنيابهِ. 

لقد نجحت من ذي قبل رواية أنَّ خروج المتظاهرين من الجوامع هو إدانة لها، وتفريغ من محتواها المدني، لينبري مثقفون بإعطاء صكّ القتل للقاتل، ليمارس دوره "المقدس" في وأدِ "الوهابية" ولجمِ امتداد السعودية السنيةِ، في حين نشطت المستشارية الإيرانية بافتتاح الحسينيات بمباركة رسمية وفي مناطق فقيرة وعاطلة عن العمل والحياة المناسبة. 

يسألونكَ لماذا لا تبكي على أطفال اليمن، متناسين أن الذين يقتلون اليمنيين هم أنفسهم من يقتل أطفال سوريا؟

بقيَّ المتطرف الرئيس "داعش" يتنقل ككيس الدمامل من منطقة لأخرى، دونَ أن يلقىَ ما يلقاه المعتدلُ، وانتقلَ الموشك على الانهيار، المخصيُّ، ليفعلَ ما يفعلُه بفحولة غيرهِ إلى الإمعانِ في الفتك في غياب شبهِ تام لإيعاز بالتوقف، لتصحَّ الهمجية عنوانًا عريضًا للعالم المتملص من الأخلاقيات وحقوق الإنسان، ما يعطي انطباعًا صارخًا بتقبلِ سفسطةِ بشار الأسد عن "الزمن والتاريخ"، و "ما قبل حلب ليس ما بعد حلب"، كما لو أنَّ بابًا فُتح على جاهلية همجية جديدة، وهو الباب نفسهُ الذي سيودي بالعالم المتقاعد عن التزاماتهِ إلى الجحيم.

اقرأ/ي أيضًا: كيف قدم الرئيس السيسي درسًا في الدبلوماسية؟

استمرأ كُتاب وشعراء وفنانون الكذبة، فهنأوا بعضهم "بانتصار" حلب، واجتروا ما اعتادوا عليه، في وقت يمكن لهم أنْ يغتسلوا من الدم العالق بهم، بوصفهم قتلة لوقوفهم إلى جانب القتلة على حساب الضحايا، لكنّهم راحوا بصفاقة، يعيدونَ إلى الأذهان "المقاومة والممانعة"، ويشيدونَ ثانية جسورًا من الوهم لهم ولسيدهم العليل، الذي ذهب أحدهم للنظر إليه كمخلّص ومظلوم ونبي للعصر الجديد.

لا تفسيرَ للتنكر لكلِّ هذه المجازر، والتسويف لها بأنها تحدث في أماكن يتواجد فيها مقاتلون متطرفون من قبل مثقفين عرب إلّا دليلًا على تقبّلِ فكرة العبودية والتنصل من استحقاقِ الأخلاق والانتصار للحقوق، والانحياز للشعوب التي بالضرورة، تكونُ صاحبة الحق المغبونة، والحتمية التاريخية تؤكدُ انتصارها.

سعىَ العالمُ بتحولهِ الجديد إلى إيجاد بديل يشحذُ عليه أسلحته وفكرهُ، لترويج فكرته بجعل المنطقة كلها شريرة، وموئل إرهابيين لحماية نفسه من عدو مفترض، كانَ الأجدى لو سعى لبرنامج إنساني متكامل يستثمر في الأرواح، بدلًا من الاستثمار في أجسادهم البريئة التي تقضي غالبًا "بالخطأ"، يساند هذا التحول جوقة من المصفقين سوريين وعرب، بإمكانهم نهش لحم أخيهم والتنكيل به، سواء معنويًا كما يفعل المثقف، وماديًا ما يفعلهُ الرعاع الطائفيون، الذين كلما قلت: أطفال حلب، سألوكَ لماذا لا تبكي على أطفال اليمن، متناسين أن الذين يقتلون اليمنيين هم أنفسهم من يقتل أطفال سوريا؟

استثمار بائس في المقاربات والمقابلات، ينتصرُ فيها المطبلون لروايات ممجوجة لا تأخذ بالحقيقة وتسند جرة الطغاة المتهالكة، وتجعلُ أعناق الجميع على نطعِ الأيام القادمة التي لاتحملُ جديدًا خيّرًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رأس السنة في غزّة.. ليلةُ السُّخَام

ديسمبر/كانون الأول.. ذلك الإثنين المجنون