29-مايو-2017

رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد (ياسين عايدي/ الأناضول)

بطريقة مباغتة تشبه ساعة الصفر في الانقلابات، وفي توقيت مفاجئ أربك السياسيين وباغت التونسيين، أطلق يوسف الشاهد رئيس الحكومة التونسية، قبل نحو أسبوع، حملة إيقافات ضد رجال أعمال ومهرّبين كبار، وفق قانون الطوارئ، وذلك بتهم الفساد المالي والاعتداء على أمن الدولة.

لم تصرّح الحكومة بالمدى الزمني للعملية ولا بالقائمة الاسمية للموقوفين، فيما يبدو أنها فضلت سياسة تسريب المعلومات لوسائل الإعلام والإعلاميين المقرّبين منها ليقوموا بمهمّة الإعلام عن حملة الإيقافات المباغتة التي طالت رجل الأعمال الشهير شفيق جراية، وهو أحد أهم مموّلي حزب نداء تونس الحاكم الذي ينتمي إليه يوسف الشاهد!

طالت حملة الإيقافات رجل الأعمال شفيق جراية، وهو أحد أهم ممولي حزب نداء تونس الحاكم الذي ينتمي إليه الشاهد!

وبعد يوم واحد من انطلاق الحملة، قال الشاهد في تصريح مقتضب: "بين تونس والفساد، اخترت تونس". وفي اليوم التالي أعلنت لجنة المصادرة، المستحدثة منذ 2011، مصادرة ممتلكات 8 رجال أعمال "حققوا أرباحًا غير مشروعة بفضل علاقاتهم مع عائلة الرئيس المخلوع وأصهاره". فهل أعلن يوسف الشاهد بحقّ حربًا ضد الفاسدين؟ لعلّ الإجابة بالنفي المطلق تعارضها حملة الإيقافات الأخيرة، غير أن الإجابة بالإيجاب لا زال مشكوكًا فيها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: مكافحة الفساد أو الحرب الكاذبة في تونس

وعندما يشاهد التونسيون شخصيات متورّطة في ملفات فساد مالي تعلن دعمها لحملة الشاهد، ومع استمرار الحالة الضبابية المستمرّة، فالخشية الكبيرة أن تكون هذه الحملة انتقائية وموجّهة ضد مجموعات فاسدة لحساب لوبي فساد لا يزال محصنًا ومحميًا، بل ربما يكون هذا اللوبي وراء حملة الإيقافات الأخيرة ضمن معركة كسر العظام بين مافيات الفساد!

ضبابية بين مكافحة الفساد وجرائم أمن الدولة

انطلقت حملة الإيقافات التي لم تصدر لليوم قائمة رسمية حول المشمولين بها، مع انفجار الوضع في محافظة تطاوين، وخيار الحكومة بفض اعتصام الكامور بالقوّة، ما أدى لاندلاع مواجهات بين المحتجين وقوات الامن أدت لمقتل محتج وحرق مقار للشرطة والدرك (الحرس). ولا ينحصر الرابط بين التطورات الدموية في تطاوين وحملة الإيقافات في التزامن الوقتي، لتظهر حملة الإيقافات كورقة من الحكومة للتغطية على فشلها في التعامل مع اعتصام الكامور، بل يبدو الرابط أكثر متانة.

وكشفت تسريبات إعلامية لوسائل إعلام قريبة من الحكومة -وهو ما أكدته لاحقًا الأجهزة الرسمية- أن عددًا من الموقوفين تتعلّق بهم تهم الاعتداء على أمن الدولة، وتحديدًا حول تورطهم في أعمال التحريض في تطاوين. وكشفت النيابة العسكرية أن رجل الأعمال شفيق جراية تحديدًا متهم بالاعتداء على أمن الدولة الخارجي، والخيانة، والمشاركة في ذلك، ووضع النفس تحت تصرف جيش أجنبي زمن السلم.

وعلى الأرجح أن قائمة الاتهامات الموجهة لشفيق جراية تشمل ملفات عديدة تتجاوز أحداث تطاوين، بخاصة مع علاقاته المعروفة بأطراف ليبية ومنها على وجه الخصوص عبد الحكيم بلحاج رئيس حزب الوطن الليبي وقائد عملية تحرير طرابلس في صيف 2011، إذ اتهم شفسق جراية، في هذا السياق سابقًا، بارتباطه بأطراف "إرهابية".

كما شملت الحملة كذلك مهرّبين كبارًا بعديد المناطق التونسية في الوسط والجنوب، ويُرجح ازدواجية التهم الموجهة إليهم بين الجرائم المالية من جهة في علاقة بأنشطة التهريب، وبين وجرائم أمن الدولة، حيث يبدو أن الارتباط بين هذين النوعين من الجرائم عضويًا في هذا الجانب. وإن ما كان الحديث عن الاعتداء على أمن الدولة، فيبدو أن المسألة حساسة بما جعل الفاعلين السياسيين والتونسيين إجمالًا لا يشككون في صحة هذه الاتهامات، على الأقل بصفة أولية، وذلك بعكس اختلاف التقديرات حول ملف مكافحة الفساد عمومًا، والذي هو مربط الفرس.

ضرورة الحرب على الفساد

تصدّرت مكافحة الفساد قائمة أولويات اتفاق قرطاج المُحدث لحكومة "الوحدة الوطنية" المكوّنة في صيف 2016، حيث خلف الفساد تركة ثقيلة على الاقتصاد التونسي موروثة من نظام بن علي بما هو نظام مافيوزي بامتياز، إذ أكد تقرير للبنك الدولي بعد الثورة، بأن حجم السيطرة على الدولة زمن بن علي كان مهولًا، إذ استحوذت 220 شركة مرتبطة ببن علي وعائلته قبيل الثورة على 21% من الأرباح السنوية في القطاع الخاص التونسي (أي 223 مليون دولار) وهو ما يعني أكثر من 0.5% من إجمالي الناتج المحلي.

وقد زاد الفساد انتشارًا في تونس بعد الثورة، مع توسع الشبكات الزبونية في سياق ديناميكية الفضاء السياسي والاجتماعي بعد الثورة، وبات الحديث عن دمقرطة الفساد بالتوازي مع دمقرطة المجال العامّ. وقد فشلت حكومتا الترويكا، التي كوّنها معارضو بن علي من إسلاميين واشتراكيين ديمقراطيين سنتي 2012 و2013، في التعامل مع سرطان الفساد، بين محدودية الإرادة السياسية، ومدى الحسم في مواجهته بطريقة جذرية من جهة، ومحدودية سيطرة الحكام الجدد على أجهزة الدولة، وضعف تأثيرها على الدوائر المالية والإعلامية لخوض معركة لعلّها أعتى من معركة إسقاط النظام.

في تلك الفترة، رمّم النظام القديم نفسه عبر الواجهة الحزبية "نداء تونس"، الذي لقي دعمًا من الشبكات السياسية والمالية والإعلامية التابعة لنظام بن علي، وذلك مع عدم تفكيك منظومة الاستبداد والفساد في سنوات ما بعد الثورة، بالتزامن مع تأخر تفعيل مسار العدالة الانتقالية، وهو ما جعل التداخل بين عالم المال والسياسة في أوجه من جديد، بل بات رجال الأعمال أكثر نفوذًا من ذي قبل، وباتوا أكثر انخراطًا في المجال السياسي.

لم تغيّر الثورة موازين القوى جذريًا، لكنها جعلت كل الحكومات بمختلف توجهاتها، تخشى الشارع وتعمل على كسب ثقته

وحينما أمسك نداء تونس بزمام السلطة بعد فوزه في انتخابات 2014، كان لازمًا عليه التعامل مع الانهيار الاقتصادي، والذي يتحمل الفساد جزءًا كبيرًا من المسؤولية عنه. فباتت مكافحة الفساد ضرورة بالمعيار الاقتصادي بغض النظر عن وجود إرادة من أجل "أخلقة" المجال السياسي، وهي ضرورة أمام المانحين الدوليين الذين دائمًا ما يطالبون السلطات التونسية بإثبات جديتها في مواجهة الفساد، وكذلك أمام المواطنين.

لم تغيّر الثورة موازين القوى جذريًا، ولكنها جعلت كل الحكومات، بمختلف اتجاهاتها، تخشى الشارع وتعمل على كسب ثقة المواطن الذي يعرف جيدًا أن الفاسدين أكلوا من قوته لعقود. ولذلك، فإن مكافحة الفساد هي معركة فرضت نفسها مع تواصل مسار الانتقال الديمقراطي وتركيز المؤسسات الدستورية والرقابية.

اقرأ/ي أيضًا: مكافحة الفساد في تونس.. يسخرون منّا

ولقد سبق حملة الإيقافات الأخيرة، تقرير دولي صادر عن مجموعة الأزمات الدولية، أثار جدلًا واسعًا في تونس. كشف هذا التقرير عن أن مظاهر "الإثراء" من المناصب السياسية والإدارية، و"المحسوبية" و"السمسرة"، أصبحت تنخر الإدارة والطبقة السياسية في تونس، وأن عموم المواطنين أصبحوا يعتبرون أجهزة الدولة أجهزة "مافيوزية". كما جاء في التقرير الذي أعدته المنظمة اعتمادًا على أكثر من 200 مقابلة مع فاعلين اقتصاديين وسياسيين ونقابيين وغيرهم، أن مجلس نواب الشعب أصبح "مركز التقاء الشبكات الزبائنية"، وأن عديد النواب أصبحوا "مختصين في السمسرة وترقية الأعمال".

لماذا حرب الشاهد مشكوك فيها؟

تفاعلت الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة على حدّ السواء بإيجابية مع حملة الايقافات، بعد ساعات من انطلاقها، كما استقبلها الشارع التونسي بابتهاج كبير يعكس تعطّشه لقيام السلطة بسلوك حازم وجدّي في مواجهة الفاسدين، خاصة مع استمرار الأزمة الاقتصادية وكلفتها الاجتماعية والمعيشية على التونسيين. غير أن هذه الحرب المعلنة ضد الفاسدين تشوبها الانتقائية، ولعلها قد تخفي معركة كسر عظام بين لوبيات الفساد ومراكز النفوذ داخل الحزب الحاكم، وهو ما جعل أحزاب المعارضة تؤكد لاحقًا أن الشاهد لا يقود حربًا ضد الكلّ، بل ضد جزء من الفاسدين لفائدة جزء آخر.

ولسيطرة الفساد السياسي على المشهد التونسي، قد لا تعني الحرب ضد الفساد في حقيقتها إلا حربًا ضد الطبقة الحاكمة والشبكات المرتبطة بها، فعلى شبيل المثال، شفيق جراية، أبرز الأسماء التي تم القبض عليها، هو نفسه أبرز الممولين لحزب نداء تونس الحاكم، ويتمتع بشبكة علاقات داخلية وإقليمية واسعة، تشمل القطاعات السياسية والمالية والإعلامية. ووفق تصريحات لقيادات سابقة في حزب نداء تونس، استطاع شفيق جراية شراء ذمم ما لا يقلّ عن 25 نائبًا في البرلمان من بينهم رئيس كتلة الحزب سفيان طوبال.

ولعلّ سطوة شفيق جراية ونفوذه جعلاه لا يتردّد في التصريح بصفة علنية في برنامج تلفزيوني بأنه استطاع شراء ذمم عديد الإعلاميين، بل تحدّى قبل أشهر رئيس الحكومة يوسف الشاهد بأنه لا يستطيع إدخال برشني (ماعز صغير) للسجن، وذلك تعقيبًا على تصريح سابق للشاهد حول نيته ادخال الفاسدين للسجن.

وحين الحديث عن شفيق جراية، عادة ما يجيء الحديث عن غريمه وهو رجل الأعمال كمال اللطيف الذي يصفه عديد التونسيين بأنه الرجل رقم واحد في تونس. لا يظهر اللطيف إعلاميًا، وصوره على الإنترنت محدودة، غير أنّه معلوم بتحقيقه اختراقات داخل أحزاب حاكمة، بل وأخرى معارضة، وبقيادته لشبكات مالية متداخلة، مع تمتعه بنفوذ واسع داخل أجهزة الدولة.

ويعود الصراع داخل حزب نداء تونس في جزء أساسي منه لصراع نفوذ بين هذين الرجلين القويين. وقبل أسابيع، أعلن جراية صراحة بأنه عقد اتفاقُا مع كمال اللطيف بأن "يمسك كل منهما كلابه" في إشارة لهدنة إعلامية بينهما، وهي هدنة معلنة في خضم حرب بينهما لإحكام السيطرة على حزب نداء تونس الحاكم وتوسيع نفوذهما عمومًا.

من هذا المنطلق، فقلب يوسف الشاهد الطاولة على شفيق جراية ربما لا يكون إلا إجهازًا من كمال اللطيف على غريمه، وعليه سيصبح الأمر مجرد تصفية حسابات ضمن حرب الشقوق داخل الحزب الحاكم.

وما يزيد من الشكوك حول حسم يوسف الشاهد في حربه على الفساد هو أن قائمة الإيقافات شملت رجال أعمال من خارج المنظومة البرجوازية التقليدية المتورطة في الفساد، ومهربين كبار ممن ينشطون في الاقتصاد غير المهيكل. فلم تشمل الحيتان الكبيرة التي وردت أسمائهم في تقارير عديدة حول الفساد، وتحديدا رجال الأعمال الذين تحصلوا على قروض من بنوك عمومية دون ضمانات زمن بن علي، ولم يقوموا لليوم بتسديد ديونهم مما جعل هذه البنوك في حالة افلاس.

وشفيق جراية، والمعروف بـ"شفيق بانانا" نسبة لنشاطه في توريد الموز، كان في الأصل عاملًا باليومية، استطاع تكوين ثروة بتقربه من عائلة الطرابلسي، زوجة بن علي. أما ياسين الشنوفي، وهو رجل أعمال شملته حملة الإيقافات أيضًا، وقد ترشح سابقًا للانتخابات الرئاسية، فهو في الأصل ضابط في جهاز الجمارك كوّن ثروة بعد قيادته لشبكة فساد داخل هذا الجهاز الحيوي. وبقية الموقوفين هم مهرّبين كبار.

في النهاية، لا ينتمي الموقوفون للطبقة البرجوازية التقليدية في تونس، أي المتمركزة في العاصمة وسوسة وصفاقس، أي في المناطق الحضرية الرئيسية، فمن تم إيقافهم هم وافدون على عالم المال، ولذلك لعلّه ذهب هؤلاء الفاسدين ضحية اللعب مع الكبار ومزاحمتهم، أو هكذا يرّدد جزء كبير من التونسيين، أو لعلّه قرّرت السلطة التضحية ببعض حلفائها بغاية الايهام بإقدامها في المعركة المعلنة ضد الفاسدين.

تتزايد الشكوك حول جدية السلطة الحالية في الحرب ضد الفساد، مع إصرارها على تمرير قانون المصالحة الاقتصادية

حيث تتزايد الشكوك جول جدية السلطة الحالية في الحرب ضد الفساد مع إصرارها على تمرير قانون المصالحة الاقتصادية، الذي يكرس الإفلات من العقاب، ويمنح عفوًا للإداريين المتورطين في الفساد، ويوفر فرصة ذهبية لرجال الأعمال "الكبار" للخروج بأخف الأضرار من قضايا الفساد التي تلاحقهم في المحاكم.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تفضح شهادة الطرابلسي منظومة الفساد في تونس؟

كما أن عددًا من السياسيين الذين أكدوا دعمهم لحملة الإيقافات، هم متورطون في ملفات فساد لم يقم يوسف الشاهد بفتحها بعد، على غرار ملف "بنك لازار" بالنسبة لياسين إبراهيم رئيس حزب آفاق تونس المشارك في الائتلاف الحكومي. كما أن رئيس الجمهورية نفسه الباجي قايد السبسي متورط في ملف فساد منذ 2011، بخصوص تحويل أسهم شركة يملكها صهر بن علي، وذلك بالإضافة لملفات فساد تشمل وزراء ونواب من الحزب الحاكم طرحها نواب المعارضة، ولا زالت أمام أنظار القضاء الذي لم ينظر فيها بعد.

في النهاية، جميع المؤشرات تشير إلى أن المعركة ضد الفساد تشمل فريقًا دون آخر، غير أن الكرة ما زالت في ملعب يوسف الشاهد لإثبات تحرّره من لوبيات الفساد في الحزب الحاكم وحزام شبكات المال الفاسدة من حوله، والحسم في مواجهة الفاسدين دون استثناء. إذ يحدو الأمل أن تكون حملة الإيقافات الأخيرة بمثابة صفارة البداية لمعركة صعبة ومكلفة، وليست عملية استعراضية إعلاميًا وسياسيًا بهدف زيادة شعبية الشاهد، الذي تنقل الكواليس أنه مرشح السبسي للرئاسيات سنة 2019، وبغاية الإجهاز على بعض رؤوس الفساد خدمة للوبيات أخرى، هي في الحقيقة أشد فسادًا وأكثر ضررًا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ابتهاج وترقب في تونس بعد حملة اعتقالاتٍ لحيتان فساد

تونس.. حكم السرّاق