21-مارس-2017

مقاتلون من فتح الشام (الأناضول)

بعد ست سنوات من الصراع، تغيرت سوريا وشعبها بالكامل. تمددت آثار الأزمة التي قتلت ما يصل إلى نصف مليون شخص وأجبرت 11.5 مليون آخرين على النزوح من منازلهم لتصبح الآن محفورة في الهويات العديدة التي يربط السوريون أنفسهم بها. بينما لا تزال أغلبية السوريين ترفض بشدة التقسيم الرسمي لبلادهم، إلا أنه من المستحيل تجاهل كيف غرست الحرب الطويلة والممتدة انقساماتٍ عميقة في مجتمعٍ كان متماسكًا يومًا ما.

المعارضة السورية في أضعف حالاتها منذ 2012، والتوجهات الدولية لا تصب في صالحها، بعد ابتعاد الولايات المتحدة عن سردية "رحيل الأسد" 

في مناطق عديدة من البلاد، يتابع تشارلز ليستر في مقاله المنشور بمجلة فورين بوليسي، لا تزال خطوط المعركة مرسومة ماديًا بين القرى التي كانت تعيش يومًا في وئام، وقد بدأت الدينامية الطائفية التي كانت يومًا ما لا تدعمها سوى هوامش متطرفة في تشكيل التيار الرئيسي للمعارضة على نحوٍ حاسم.

اقرأ/ي أيضًا: دمشق أمام هجوم المعارضة.. خرائط نحو حصار النظام

تعود أصول هذه الدينامية إلى الرئيس بشار الأسد، والذي سارع إلى وصف حركة الاحتجاج السلمية التي انطلقت في أوائل عام 2011 بأنها "مؤامرةٌ خارجية". يقود هذه المؤامرة، حسبما ادعى الأسد في منتصف عام 2011، "إرهابيون" سنة، والذين أطلق سراح العشرات إن لم يكن المئات منهم من السجون في آذار وآيار وحزيران من نفس العام. تأطير الأسد الطائفي للأزمة وتصوير نفسه كحامٍ للأقليات السورية لم يسمحا له فقط بتدعيم قاعدته الشعبية، وإنما ضمن أن تزدهر تدريجيًا السردية الطائفية للمتطرفين في صفوف المعارضة.

وهذا تقريبًا ما حدث. يشير ليستر إلى أن المعارضة السورية في أضعف حالاتها منذ عام 2012، والتوجهات الدولية لا تصب في صالحها. أبعدت الولايات المتحدة نفسها عن سردية "يجب أن يرحل الأسد" وشتتت الانتخابات الداخلية بها انتباهها، أوروبا مشتتة الانتباه بفعل اللاجئين والبريكسيت، بينما غيرت تركيا اتجاهها بالكامل وباعت، فعليًا، حلب إلى روسيا. في تلك الأثناء، عززت موسكو وطهران وحزب الله التزاماتها العسكرية تجاه نظام الأسد، ضامنين بقاءه كحدٍ أدنى.

وسط تلك التحديات، دخلت المعارضة السورية في فترةٍ من الاستبطان والتوتر الداخلي الكبير. تحتٍ ضغط منسق إقليميًا في الجنوب وفي الشمال، ومع قلة الخيارات الأخرى، أثبتت المعارضة السورية المسلحة غير المنتمية إلى القاعدة براغماتيتها بالموافقة على حضور محادثاتٍ سياسية في كازاخستان وسويسرا، بالرغم من أن قاعدتها الشعبية ظلت معارضةً بشدة لمثل تلك المؤشرات إلى البحث عن تسوية، وبالرغم من قلة من يتوقعون للمحادثات النجاح.

لكن المعارضة السورية المسلحة تتغير أيضًا كنتيجةٍ لضغوطٍ داخلية. ظل الفرع السوري لتنظيم القاعدة، والذي تمت إعادة تقديمه تحت اسم جبهة فتح الشام في حزيران/يوليو 2016 ثم هيئة تحرير الشام بعد انضمام عدة مجموعات أخرى في كانون الثاني/يناير، مثابرًا وصبورًا في سعيه لتحقيق هدفه طويل المدى: اندماج جميع فصائل المعارضة السورية المسلحة تحت مظلته الإسلامية العابرة للحدود. اعتادت القاعدة أن تطلق على ذلك الهدف "توحيد الصفوف".

دون أي توجيهاتٍ من النظام، وبإيعازٍ من الضعف التدريجي للقاعدة الشعبية الأكثر اعتدالًا للمعارضة، قضى تنظيم القاعدة أغلب الفترة الممتدة ما بين عامي 2012 و2015 في بناء ثقة المعارضة السورية على هيئة جبهة النصرة. كانت هذه المرحلة الأولى من محاولة القاعدة للاندماج في المعارضة. اعتبرت الجبهة نفسها ليست أكثر من أحد مكونات حركة ثورية سورية واسعة، باستخدام البراغماتية المقيدة، واستراتيجية عسكرية واضحة، وتأكيد على المحلية لجعل السوريين يقبلون، ويدعمون وجودها. عبر إعادة تقديم نفسها في صورة جبهة فتح الشام في منتصف العام الماضي وعبر إخبار السوريين بأنها قد قطعت علاقاتها الخارجية مع تنظيم القاعدة، سعت المجموعة إلى التغلب على العقبة الوحيدة المتبقية في طريق توحيد الصفوف عبر إقناع ما يكفي من المعارضة السورية بأنها حركة سورية بالأساس، ترمي إلى هدفٍ محلي وليس إلى مشروعٍ جهادي عابر للحدود.

مكنت تلك الخطوة القاعدة من إحراز بعض التقدم، لكنها لم تحقق بعد هدفها المرغوب. فشلت ثلاث مبادرات توحيد متتالية في الفترة ما بين أواخر عام 2016 وأوائل 2017 في إحداث اندماجٍ واحد ذي قيمة. رفضت حركة أحرار الشام المحلية والقوية، والتي تعد الحليف العسكري المستمر والنفيس لجبهة فتح الشام، مرارًا الاتحاد معها، مجادلةً بأن الجبهة لم تبعد نفسها عن تنظيم القاعدة بالقدر الذي يكفي لتبرير مثل تلك الخطوة. أثار ذلك حربًا كلامية شرسة وأسفر في النهاية عن اندلاع سلسلة من الهجمات من قِبل جبهة فتح الشام على فصائل المعارضة في شمال سوريا.

وسط العداوات مع جبهة فتح الشام وكوسيلةٍ للتميز عنها، تبنى مقاتلو أحرار الشام خطابًا وصورة قوميين مشابهين للجيش الحر

مع تهديد أحرار الشام بحربٍ انتقامية شاملة ضد جبهة فتح الشام، اندمجت العديد من أكبر الفصائل السورية في أحرار الشام لحماية أنفسها، بينما أجبرت جبهة فتح الشام فصائل أخرى على الانضمام إلى هيئة تحرير الشام الجديدة التي شكلتها. ذلك "التمايز الكبير" قسّم المعارضة في شمال سوريا إلى ثلاث فصائل متنافسة. هيئة تحرير الشام وأحرار الشام هما الأقوى عسكريًا من بين الفصائل الثلاث، حيث تضم الأولى ما يتراوح بين 12,000 و14,000 مقاتل بينما تضم الأخرى ما بين 18,000 و20,000 مقاتل. في تلك الأثناء، أصبح الجيش السوري الحر يمثل مظلة واسعة تتجمع تحتها الفصائل المسلحة التي تتبنى المثل الأصلية للثورة السورية القومية. وسط العداوات مع جبهة فتح الشام وهيئة تحرير الشام وكوسيلةٍ للتميز عنها، تبنى مقاتلو أحرار الشام خطابًا وصورة قوميين مشابهين لهذين الخاصين بالجيش الحر.

رغم أنها تضم الآن مجموعات أقل تطرفًا من تنظيم القاعدة، يتابع ليستر، إلا أن هيئة تحرير الشام تحتفظ بالأهداف الجهادية العابرة للحدود الخاصة بالتنظيم، وبالتحديد إعلان إمارة إسلامية تصلح كمكونٍ ضمن خلافةٍ قاعدية. على العكس من ذلك، تظل أحرار الشام شديدة المحافظة فيما يتعلق بهويتها الإسلامية لكنها ليس لديها أي أهداف تتجاوز حدودها. في مقابلةٍ أجريت مؤخرًا، أكدت الحركة أنها "تؤمن بالمشاركة السياسية"، ولا تعارض تبني "الديمقراطية"، ولن تعارض أي "قراراتٍ سياسية مستقبلية يتخذها الشعب السوري".

على الرغم من تلك الاختلافات السياسية والأيديولوجية، تستمر هيئة تحرير الشام وأحرار الشام والجيش السوري الحر في الإصرار على استكمال كفاحهم المسلح ضد نظام الأسد. لكن، ومع ضغط دولٍ إقليمية ودولية على الجيش السوري الحر وأحرار الشام للالتزام باتفاق هدنة يزداد ضعفًا، يمنح نهج هيئة تحرير الشام الذي يتبنى القتال المستمر الهيئة تفوقًا في تعزيز المصداقية والولاء على الأرض، حيث يكتسب نهجها الذي لا يلتزم بأي قيود المزيد من القوة كل يوم.

سردياتٌ متباعدة

مع زيادة إصرار المجتمع الدولي أكثر من أي وقتٍ مضى على "حل" الأزمة السورية، يواصل ليستر، ومع هيمنة الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية وبقية التنظيمات الإرهابية على صناعة القرار في الولايات المتحدة وأوروبا، يواجه المشروع الجهادي طويل المدى للقاعدة تحديًا غير مسبوق. لكن عبر الإصرار على أجندتها القومية، ومهاجمة وتدمير الفصائل المنافسة في بعض الأحيان، استطاعت القاعدة بناء دفاعٍ فعال.

يرجع هذا بشكلٍ كبير إلى موقف التنظيم الحاسم تجاه محاربة نظام الأسد، والذي يلبي رغبة المعارضة المدنية والمسلحة داخل سوريا. يتزايد اعتبار المجموعات ذات الاتصالات بدولٍ خارجية على الأرض مخترقة بأجندات رعاتها، والذين يبدو في الوقت الحالي على الأقل أنهم يشجعون على سلامٍ محتمل عن طريق التفاوض مع النظام. ظلت جبهة فتح الشام وهيئة تحرير الشام، على الجهة الأخرى، ملتزمتين باستدامة قتالٍ فعال ضد النظام، ما أكسبهما مصداقية على حساب هؤلاء الأكثر براجماتية.

أثبتت هجمات جبهة فتح الشام وهيئة تحرير الشام على فصائل المعارضة المنافسة كونها مرفوضة شعبيًا وسط السوريين المؤيدين للمعارضة، لكن حماس الإسلاميين الواضح للكفاح المسلح ضد الأسد وروسيا وإيران يبدو أنه يغطي على تلك المخاوف. رغم مزاعم المجتمع الدولي بأن الهدنة لا تزال سارية، استمرت الضربات الجوية والمدفعية المميتة في ضرب مناطق سكنية تسيطر عليها المعارضة، ما يغذي كراهية النظام. أصبح انخراط المعارضة في محادثاتٍ بالخارج موقفًا غير مبرر، رغم الحاجة إلى الحفاظ على الدعم والمصداقية الدوليين.

أثبتت هجمات جبهة فتح الشام وهيئة تحرير الشام على فصائل المعارضة المنافسة أنها مرفوضة شعبيًا وسط السوريين المؤيدين للمعارضة

"كل اجتماع لا يسفر عن نتائج، فيما عدا إهانة ثورتنا"، صرح قائد إحدى المجموعات النشطة في أستانة وجنيف، والذي طلب عدم ذكر اسمه، لليستر. "لا يمكننا الاستمرار في حضور تلك الاجتماعات إلى الأبد، تمامًا كما لا يمكننا التخلي عن حربنا مع النظام". وبالتالي، وتحت مثل ذلك الضغط، رفضت المعارضة السورية المسلحة بالكامل حضور آخر جولة من المحادثات في أستانة والتي بدأت في الرابع عشر من مارس وكان من المفترض أن تستمر خلال الذكرى السادسة للثورة السورية، والتي توافق الخامس عشر من مارس.

طوال فترة تلك العملية، ظلت هيئة تحرير الشام معارضة بشدة للمحادثات أو أي اقتراحات تقضي بتقديم تنازلات أو التوصل إلى تسوية. قامت الهيئة بعمليتين انتحاريتين معقدتين في عمق مناطق سيطرة النظام، ضد مقرات الجيش والمخابرات بمدينة حمص في الخامس والعشرين من فبراير، وضد حافلاتٍ مليئة بحجاجٍ شيعة عراقيين في دمشق في الحادي عشر من مارس. أسفر الهجومان عن مقتل 116 شخصًا، وأطلق الأخير دعواتٍ وسط الشيعة العراقيين إلى قيام القوات الجوية العراقية ببدء ضرباتٍ جوية ضد هيئة تحرير الشام في شمال غربي سوريا. استهدف هجومٌ ثالث القصر العدلي في دمشق في الذكرى السنوية السادسة للثورة السورية، الخامس عشر من آذار/مارس، وحسب ثلاثة مصادر مختلفة فقد كان أيضًا من تنفيذ هيئة تحرير الشام.

اقرأ/ي أيضًا: العراق في سوريا.. توسيع قاعدة الميليشيات الإيرانية

الأفعال أعلى صوتًا من الكلمات

تستمر هيئة تحرير الشام في تصوير الصراع في سوريا كصراعٍ بين السنة في مواجهة الشيعة. وسط مقاومةٍ عنيدة وإحباط شديد وبحثٍ عن الذات، تجد تلك السردية المتطرفة لصراعٍ يمتد لقرون بين الخير في مواجهة الشر جمهورًا أكثر قبولًا يومًا عن يوم. صرح عبادة القادري، وهو ناشطٌ سياسي صنفته مجلة التايم ضمن أكثر 100 شخصية تأثيرًا لعام 2014 ويدير الآن محطة إذاعة شديدة الاعتدال لليستر بأن سردية هيئة تحرير الشام سوف تجد قبولًا من السوريين:

"تستخدم هيئة تحرير الشام لغةً ومنطقًا مختلفين عن هذين الخاصين بجبهة فتح الشام، شارحةً أسبابًا منطقية سوف يتفق معها جميع السوريين، خاصةً فيما يتعلق بالموقف السيئ للأمريكيين تجاه الثورة. تلك اللغة الجديدة جذابة ... لقد كانوا أيضًا منطقيين في أسباب استهدافهم للشيعة، إنه شعورٌ يحمله العديد من السوريين السنة ... إنهم الآن يصورون أنفسهم على أنهم الفصيل القوي الوحيد الذي سوف يدافع عن جميع السوريين".

حتى رموز الجيش السوري الحر مثل الناشط والمستشار القانوني أسامة أبو زيد، والذي يصر على أنه "لم يقصد أبدًا أن تكون الثورة أمرًا يتعلق بالطائفة"، يعترف بأن فعالية هيئة تحرير الشام على أرض المعركة وخلف خطوط العدو هي شيءٌ سوف يعجب به السوريون لا محالة.

"يجب دعم أي عملية نوعية تسفر عن وفيات بين صفوف قوات النظام والميليشيات، لأن تلك القوات يعتبرها السوريون مستعمرين يهدفون إلى إحداث تغييرات ديموغرافية في مناطقنا ... قوات الأسد ترفع أعلامًا شيعية على المسجد الأموي في دمشق، وهو معلمٌ سني ... (لكن) أي عملية تسفر عن وفيات بين المدنيين لا يجب دعمها أبدًا، خاصةً إذا كانت من تنفيذ جبهة النصرة".

مع انكفاء أغلب فصائل المعارضة المسلحة على أرض المعركة بسبب المحاولات الجارية للتوصل إلى تسويةٍ سياسية، فإن إصرار هيئة تحرير الشام على أن تظل نشطة عسكريًا وعلى الرد بقوة في قلب مناطق النظام يكسبها مصداقيةً شعبية لا تقدر بثمن. بالنظر إلى الاحتمالية الواردة بشدة المتمثلة في أن يصبح الدعم الدولي الكبير للعمليات المعادية للأسد قريبًا شيئًا من الماضي، تمثل هيئة تحرير الشام النموذج الوحيد المستدام لاستكمال القتال الذي بدأه الكثير للغاية من السوريين في آذار/مارس 2011.

إصرار هيئة تحرير الشام على أن تظل نشطة عسكريًا وعلى الرد بقوة في قلب مناطق النظام يكسبها مصداقيةً شعبية 

"يثق السوريون بهيئة تحرير الشام أكثر من ذي قبل"، قال رجل الدين السني البارز رامي الدالاتي، "خاصةً بعد الهجمات على مخابرات حمص وفي دمشق. ... كانت الهجمات (ضد فصائل المعارضة) مشكلةً كبيرة، لكنها انتهت الآن. لقد تعب الشعب من وجود فصيلين أو ثلاثة؛ لقد تعب من الانقسام".

أمريكا تتدخل

رغم جهود القاعدة المستمرة، فقد فشلت في توحيد المعارضة السورية المسلحة تحت قيادتها. فبعد تخلصها من جناحها الأكثر تطرفًا، والذي انشق لصالح هيئة تحرير الشام في كانون الثاني/يناير الماضي، أصبحت أحرار الشام أكثر استعدادًا للرد عسكريًا على "تنمر" هيئة تحرير الشام. صرح مسؤولٌ كبير بحركة أحرار الشام لليستر بأن الاندماج مع هيئة تحرير الشام "مستحيل" ولا يمكن "أبدًا" حدوثه، بينما اتهم القيادي العسكري الكبير حسام سلامة الهيئة مؤخرًا بـ"خدمة أعداء الثورة". يظل الدالاتي، والذي كان مشاركًا بقوة في محاولات الضغط على جبهة النصرة للتحول إلى جبهة تحرير الشام، على اتصالٍ مباشر بقيادة هيئة تحرير الشام. يشير الدالاتي إلى أن الهدف النهائي لهيئة تحرير الشام المتمثل في الاندماج الهيكلي الكامل يظل غير واقعي، لكن "توحدًا سياسيًا يحدث في الوقت الحالي".

اتخذت الولايات المتحدة مؤخرًا خطوة بدا أنها تهدف إلى زيادة التوترات بين هيئة تحرير الشام وبقية مكونات المعارضة السورية، في بيانٍ له في الحادي عشر من آذا/مارس يشرح لماذا تعتبر الولايات المتحدة هيئة تحرير الشام وجميع المجموعات المكونة لها جزءًا من تنظيم القاعدة، كتب المبعوث الأمريكي الخاص مايكل راتني بأسلوبٍ قاطع على غير العادة من الصعب تفرقته عن أي بيانٍ لفصيلٍ سوري مسلح. "كان هذا غير مألوفٍ تمامًا"، قال قياديٌ كبير بحركة أحرار الشام. "يشبه الأمر كما لو كان ثوريًا هو من قام بكتابته. كل كلمة تبدو كما لو كنا كتبناها بأنفسنا. هل كاتبه سوري؟ هل هو مسلم؟".

جذبت إحدى الفقرات بالتحديد انتباه السوريين:

"ومع كل تبديلٍ جديد في واجهتها، تصبح القاعدة أقل اعتمادًا على الثورة التي تحاول تدميرها وتوجه هجماتها لضرب رموز الثورة. ولقد شهدنا هذه الاعتداءات مرارًا وتكرارًا، حتى طالت أعمالهم التدميرية الآن حركة أحرار الشام وغيرها ممن هم من أشد المدافعين عن الثورة".

عبر اعتبار أحرار الشام، الفصيل الذي كانت الولايات المتحدة تدرس يومًا اعتباره منظمةً إرهابية دولية، "مدافعًا مخلصًا عن الثورة السورية"، ليس من المحتمل إلا أن راتني كان يسعى لرش الملح على جرحٍ مفتوح. كانت التوترات بين هيئة تحرير الشام وأحرار الشام في الأشهر الأخيرة ترجع جزئيًا لاتهام الهيئة لأحرار الشام بولائها لتعليماتٍ خارجية (تركية على وجه التحديد) وبأنه طالما ظل ذلك الولاء قائمًا، فإن أحرار الشام سوف ترفض السعي بإخلاصٍ كامل إلى تحقيق الهدف النهائي للثورة: إسقاط النظام. الآن، تخبر الولايات المتحدة القاعدة في سوريا علنًا بأن حليفها العسكري السلفي هو "مدافعٌ مخلص" عن الثورة، بينما تسعى هيئة تحرير الشام إلى "تدمير" الثورة.

متحدثًا عقب وقتٍ قصير من إصدار البيان، صرح مسؤولٌ بمكتب المبعوث الخاص للولايات المتحدة في وزارة الخارجية بأن النص كان يُقصد منه بالفعل إذكاء الخلاف:

"لقد أردنا جذب انتباه الأطراف الفاعلة المسلحة على الأرض، وإثارة النقاش وأن نثبت لهم أننا نتابع ما يكتبونه ونفهم حججهم لكننا نعلم أيضًا متى يتلاعبون بالحقيقة".

في مواجهة تلك الدينامية الجديدة غير المسبوقة، كان رد هيئة تحرير الشام فعالًا إلى درجةٍ مقلقة. بعد أسابيع من الخلافات الداخلية، أسست هيئة تحرير الشام مكتبًا سياسيًا (إدارة الشؤون السياسية) الذي أصدر أول بياناته لـ"توضيح" العديد من النقاط لراتني.

"لقد عبَّرت هيئة تحرير الشام عن نفسها منذ اليوم الأول لإعلانها، فأكدت على أهداف ثورتها المتمثلة بإسقاط النظام المجرم، وعرَّفت كيانها بأنه كيان مستقل لا يمثل امتدادًا لأيّ تنظيم أو جهة، وأن الهيئة مرحلة جديدة من مراحل الثورة السورية، وأبناءها هم أبناء الشعب الثائر".

مع تحول الولايات المتحدة إلى المصطلحات الثورية، تحولت هيئة تحرير الشام إلى الخطاب السياسي غير الديني. لقد تخلت عن استخدام دعاء افتتاحي من القرآن واستخدمت حصرًا لغةً سياسية، مؤكدةً على الطبيعة السورية لهويتها وقضيتها. وجهت الهيئة بعد ذلك أربع اتهامات للولايات المتحدة، ترتبط بنظام الأسد وإيران وحزب العمال الكردستاني وروسيا، واتهمت واشنطن بـ"إيقاف مد الثورة". لم يكن أي ناشط سوري في سوريا أو أوروبا أو الولايات المتحدة ليستطيع مغالطة أي من نقاط الهيئة الأربع.

ما يحمله المستقبل

في حالة عدم حدوث تغير جيوسياسي كبير، من الصعب رؤية مستقبل لا يمنح هيئة تحرير الشام المزيد من الفرص لاستغلالها. من الواضح أن هجمات جبهة فتح الشام وهيئة تحرير الشام الأخيرة ضد فصائل المعارضة قد أنتجت مستوياتٍ غير مسبوقة من الشك والقلق تجاه نوايا الجبهة في سوريا، لكن الكفاح المسلح ضد نظام الأسد سوف يستمر في احتلال الأولوية لدى القاعدة الشعبية للمعارضة السورية.

هجمات هيئة تحرير الشام الأخيرة ضد فصائل المعارضة قد أنتجت مستوياتٍ غير مسبوقة من الشك والقلق تجاه نوايا الهيئة في سوريا

يشير ليستر إلى أن المحدد الرئيسي للمستقبل سيكون العلاقة بين أحرار الشام وهيئة تحرير الشام، وإلى أي مدى تستطيع تركيا التأثير عليها. منذ منتصف عام 2016 على الأقل، اعتبرت تركيا وجود القاعدة في شمال سوريا تهديدًا للسياسة التركية. في آب/أغسطس 2016، انخرطت المخابرات التركية في مناقشاتٍ مفصلة مع جميع فصائل المعارضة الشمالية تدور حول توفير ضماناتٍ أمنية وإجراءاتٍ حمائية في مقابل فك ارتباطٍ يشمل المعارضة بالكامل عن جبهة فتح الشام وعزلها.

اليوم، تضغط تركيا على المعارضة في الشمال لنقل الأسلحة الثقيلة التي تتشاركها مع هيئة تحرير الشام في شمال غربي سوريا إلى ريف حلب الشمالي، تحت سيطرة وكلاء لتركيا. سوف تضعف مثل تلك الخطوة هيئة تحرير الشام بعض الشيء بينما تدعم أهداف تركيا في شمال حلب، حيث تصبح معارضة بديلة غير متطرفة حقيقة على نحوٍ سريع. منعت هيئة تحرير الشام بعنف العديد من المحاولات الأخيرة من قِبل بعض الفصائل، من بينها جيش الإسلام وأحرار الشام، للقيام بعمليات نقل الأسلحة تلك.

إن التوتر بين المعارضة السورية الأوسع وهيئة تحرير الشام حقيقي للغاية. فُقدت أرواح ومناطق سيطرة، وسُرقت أسلحة وتشوهت رموز بسبب ذلك القتال. لكن في النهاية، تعلم المعارضة السورية أن توجيه القتال نحو هيئة تحرير الشام دون دعمٍ وحماية دوليين كبيرين سوف يكون النهاية شبه المؤكدة لكفاحها ضد الأسد، حتى إذا نجحت في هزيمتها.

تدرك فصائل المعارضة المسلحة جيدًا استمرار الحاجة إلى الاحتفاظ بمصداقيتها الشعبية على الأرض. من أجل القيام بذلك، يتابع ليستر، سوف تحتاج قريبًا إلى إعادة إعطاء الأولوية للصراع العسكري على حساب المفاوضات السياسية. عندما تقوم أو إذا قامت بذلك، سوف تستعيد هيئة تحرير الشام المبادرة بالكامل، حيث سيعتبر التعاون العسكري ضرورة وليس خيارًا. قد لا تجد هيئة تحرير الشام نفسها أقرب من تحقيق "توحيدٍ كامل للصفوف" لكنها سوف تكون ضمنت مكانها كمحركٍ ليس له منازع للسردية الثورية السورية.