13-مارس-2018

من أعمال جوابرة

في معرضه "نياشين" الذي يستضيفهُ غاليري "دار الشروق" في عمّان، ابتداء من مساء اليوم وحتى يوم 31 من آذار/مارس الجاري، نعودُ إلى معاينة تجربة الفنان الفلسطينيّ إبراهيم جوابرة (1985) من خلال 22 لوحةٍ خطَّ فيها، بأساليب حديثة وغير واقعيّة، كائناتٍ بشرية تظهرُ متلاصقةً تارةً، ومنفردةً بنفسها طورًا. رُسمت بمزاجٍ طفوليٍّ يستعيدُ زمنٍ مضى، ويقود المتلقّي إلى "البيت" الذي لا تنفكُّ أعمال جوابرة عن الإحالة والإشارة إليه. مُفسِّرًا الأمر بأنّهُ تورُّطٌ في كمٍّ هائلٍ من حنين مُسترسل إلى أزمنة مضت، أطَّرهُ في صورة تذكارية يقول إنّهُ يستهلُّ منها قوَّته.

لا تنفكُّ أعمال جوابرة عن الإحالة والإشارة إلى البيت في حنين مسترسل

ما يبدو واضحًا في معرض إبراهيم جوابرة أنَّ أعماله نهضت هذه المرّة على قراءته الواعية للوجع الإنساني. وجع الإنسان بشكلٍ عام في أي مكانٍ في هذا العالم، ووجع الإنسان الفلسطينيّ بشكلٍ خاص. قراءته هذه أوجدت لهُ أسلوبًا خاصًّا ومتفرِّدًا في معالجة هذا الوجع وتفسيره تارةً، وبلورته تارةً أخرى. مُتَّخذًا من الجسد أداة فنيّة لهذا الغرض. ومُتَّبعًا أساليب حديثة لا تلجأ إلى تشويهه ومسخه، بل تكتفي باستعراض أبرز التناقضات التي نعيشها في حياتنا اليوميّة، تلك التي تُحيلنا دون أي عناء إلى هذا الوجع وتبلوره بطريقة ذكية تستدعي المعاينة والتفكيك بحثًا عمّا تنطوي عليه وتُحيل إليه تلك اللوحات.

اقرأ/ي أيضًا: هاني عباس.. هل صعد اللاجئون سفينةَ نوح؟

يظهر هذا التناقض جليًا في غالبية لوحات جوابرة. تقف كائناته البشرية في لوحاته تلك بملامح متشابهة تُعبّر عن تقاسم مجموعة من البشر للهمّ والوجع نفسه. وتَظهر الاختلافات البسيطة بينها كإشارة إلى التفاوت في درجات هذا الألم بين إنسان وآخر ربّما. هذه الملامح الصارمة لتلك الكائنات التي خُطَّت غالبيتها بألوان داكنة، لا تدلُّ على قسوة ظاهرة أو مُبطّنة فقط، بل تنطوي على قلق عميق أيضًا. يُشتِّته جوابرة بوضعها أمام خلفيات بألوان مُبهجة غالبًا، تظهرُ فيها حيواناتٍ عدّة، حمام وقطط وحمير وحشية وفراشات. وتنطوي كلّها على إشارات وإحالات متعدّدة يأتي جزء من حضورها ليكشف عن عالم "مُفبرك" بحسب تعبير جوابرة. إذ ترمز "الحمامة" عادةً إلى السلام، بينما يرمز قلق تلك الكائنات وانطوائها على نفسها إلى الخراب والدمار الذي نعيشهُ. وبالتالي، لا يتعدّى السلام في عالمنا أكثر من كونه خلفيةً تُدار في ظلِّها الحروب وعمليات القتل والنهب والدمار، ويأتي هذا كجزءٍ من الفبركة التي نعيشها ويتعقّبها جوابرة.

[[{"fid":"98905","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"إبراهيم جوابرة","field_file_image_title_text[und][0][value]":"إبراهيم جوابرة"},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"إبراهيم جوابرة","field_file_image_title_text[und][0][value]":"إبراهيم جوابرة"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"إبراهيم جوابرة","title":"إبراهيم جوابرة","height":382,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

كجزءٍ من هذا كلّه، تأتي لوحته "النشيد الوطنيّ" لتعبّر عن حالة شديدة الأسى، تظهر بوضوح لمن يتمعّن في تفاصيلها. تقف في اللوحة مجموعة كائنات بشريّة تُردِّدُ النشيد الوطني الفلسطيني الذي يرمز إليه العلم الموضوع على صدورها. بينما يرمز النشيد ذاته، عدا عن أنّهُ يُعبّر عن رابط يصلُ مجموعة من البشر ببعضها البعض، إلى وطن منقوص ومُجزَّأ أيضًا.

يشتغلُ إبراهيم جوابرة إذًا في حقل لا يُعنى بالجانب التسويقي بقدر اهتمامه في تجاوز اللوحة التقليدية

اقرأ/ي أيضًا: الفن الإسلامي.. تجريد وتحريف وتأمُّل

يشتغلُ جوابرة إذًا في حقل لا يُعنى بالجانب التسويقي بقدر اهتمامه في تجاوز اللوحة التقليدية إلى ممارسات وأشكال غير واقعية، تواكب الحداثة دون أن تحيد عمّا هو ثابت في هذا الفنّ، وتنتج لوحاتٍ تتدفّق منها الأفكار والإحالات، مُنطويةً، رغم ما يظهر من قسوة، على عاطفية خفيّة تستعيد، كما أسلفنا، زمنًا ماضيًا بأساليب مختلفة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رسامة الجرافيتي"أوما".. التونسية ستحتل الجدران

عدنان الأحمد: دار وغاليري "كلمات" مغامرة ثقافية