11-فبراير-2018

طلال ناير/ السودان

ثار السوريون ضد حكم دكتاتوري إلى أن نجحت قوى دولية إقليمية ودولية في تحويل الثورة إلى صراع طائفي بين أحفاد معاوية وأحفاد عليّ، لتتحوّل إلى حرب مفتوحة لا منتصر فيها. فرأت أمريكا ذلك حسنًا، طالما أنه هوى بسعر النفط إلى الحضيض وفكك اثنتين من أكبر الدول في المنطقة، العراق وسوريا، بما يضمن أمن إسرائيل لمئة سنة قادمة.

منذ 1400 سنة حدث الصراع على السلطة بين أبناء العمومة من الأمويين والهاشميين، وانقسم بسببه المسلمون شيعًا وفرقًا. لم ينظروا له كصراع على السلطة مؤقت بزمنه، بل كصراع مقدس بين "كلمة الحق" و"كلمة الباطل"، أيهما معه المصحف وأيهما معه السيف؟ ففي نهاية الأمر عليّ ابن عم النبي ومن كبار الصحابة ومعاوية صحابي ومن كُتّاب الوحي.

ثار السوريون ضد حكم دكتاتوري إلى أن نجحت قوى دولية إقليمية ودولية في تحويل الثورة إلى صراع طائفي 

إسباغ القداسة أبقى تلك الحرب وضغائنها سارية في نفوس التباع والأحفاد إلى يومنا هذا، رغم أنه كان يمكن لعثمان أن يحلّها بكلمة ويعزل أقاربه من السلطة. لكن الخيارات انتهت بالجميع إلى السيف، وإلى مسلسل دم راح ضحيته الخلفاء وكبار الصحابة أنفسهم. تعقيم الكلمة بهالة لقداسة كان سببًا آخر لجريان الدماء وارتكاب القتل حتى في المساجد وفوق المصاحف المفتوحة، طالما أنك اعتبرت كلمتك هي المقدسة وكلمة المسلم الآخر باطلة، رأيت نفسك حزب الله والآخر حزب الشيطان. هنا لا مجال للتفاوض والتنازل والاختلاف، فالسياسة جرى تأميمها لتصبح عقيدة وقضية حياة أو موت.

اقرأ/ي أيضًا: ذكرى ثورة "25 يناير".. و3 تجارب من جمهوريات الموز

وهذا ما تكرّر دائمًا وأبدًا، نُفيت الكلمة لصالح السيف والسجن والتعذيب وقطع الرؤوس، في مهمة يمارسها مَن يتصورون أنفسهم مقدسين أو في موضع قوة فوق أية محاسبة. كما تم نفي الكلمة بإضفاء قداسة النقاء والطهرانية عليها: "كلمتي أنا هي المقدسة، هي الحق، هي المفسِّرة للقرآن، هي المعبرة عن الإخلاص والوطنية، وكلمتك أنت باطلة ومزيفة ومغشوشة ومضللة وعميلة وخائنة". هذا هو منطق القتل وهذه هي ثقافته المضمرة والمتجذرة في ثقافتنا العربية، ثقافة الكراهية ونفي الآخر طالما نفيت الكلمة واحتقرتها، طالما لجأت إلى السيف والمدفع لحسم النزاع.

تلك الثقافة التي أجهضت أي مشروع للاستنارة والتقدم، واعتبرت نظام الخلافة عقيدة وليس مجرد نظرية سياسية في الحكم قابلة للإلغاء والتطوير. لو تأملنا أي صراع حولنا، سنجد أنه أولًا وقبل أي شيء آخر قائم على نفي الكلمة، فبشار الأسد لا يقبل أن يكون للسوريين الحق أن يقولوا له: "ارحل"، ولا يقبل أن يقول: "سأتنازل عن الحكم حقنًا لدماء السوريين"، لأنه يعتبر نفسه مقدسًا وحكمه مقدسًا. ولا مجال هنا للكلمة والأخذ والردّ، بل للسيف وحده، جريًا على حكمة العرب القاتلة "الحُكم لمَن غَلَبْ".

عبد الفتاح السيسي أيضًا يسير على النهج نفسه، بنفي كلمة كل مَن يعارضه، لأنه لا يريد الاستماع إلا لصوته هو وحده، لأنه الوحيد الذي يفهم كل شيء وهو الوحيد الخائف على مصر وهو الوحيد الذي يحميها من الأشرار.

 عبد الفتاح السيسي لا يريد الاستماع إلا لصوته هو وحده، لأنه الوحيد الذي يفهم كل شيء

اقرأ/ي أيضًا: حافظ الأسد وساسوكي

وما نقرأ عنه ونسمعه ونراه من تضييق يومي على إعلاميين معارضين، وباحثين ناقدين للخطاب الإسلامي أو السياسي السائد، أو تخوين للخصوم، أو مصادرة جريدة، أو حجب موقع إلكتروني.. كل ذلك ينتهي بنا عند الجذر نفسه: "نفي الكلمة" وهو ما يعني نفي السياسة ذاتها وتأميم مجالاتها، لأن السياسة -تعني ضمن ما تعنيه- قبول واحترام لكل أنواع "الكلام" حتى وإن كان باطلًا أو على غير هوى السامع. ومنح وسحب السلطة عبر كلمة من حرفين وليس بسنّ الرمح وطعنة السيف وقنبلة مزروعة في سيارة أو زنزانة في سجن. الكلمة هي صوتك، وضميرك، وحريتك، ومع نفي الكلمة لن تنتهي دوامات القتل وإهدار الكرامة والعبث بمصائر الشعوب، بل ينتهي الأمر إلى عواء طويل ممتد يغطي على كل الأصوات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تاريخ الصراع السني الشيعي قبل الإسلام

سوريا واستنساخ سيناريو تبعية العراق