16-فبراير-2017

(Getty) جامع ابن طولون في القاهرة

أصدر محمد أبو القاسم حَاج حَمد (1941-2004)، الكاتب والسياسي السوداني، كتابه الأساسي: العالمية الإسلامية الثانية؛ جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، عام 1979، بالتزامن مع الثورة الإسلامية في إيران، وكان قد شرع في كتابته عام 1975. أثار الكتاب جدلًا في الزوايا الثقافية العربية، بين قائل بتماسك منهجيته "القرآنية" وجِدَّتها، وطاعن فيه تحت دعوى تمركس صاحبه، وقد تصدى حَاج حَمد للتعاطي مع شتى ردود الفعل في الطبعتين اللاحقتين (1996 و2004). وصدرت أحدث طبعات الكتاب عام 2012 عن دار الساقي ببيروت، في حلّة جديدة أشرفت عليها مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة، ووجهها الأبرز المفكر السوري محمد شحرور، بتحقيق الباحث السوري محمد العاني.

أردت من الفقرة السابقة الوصول إلى نقطتين بخصوص كتاب "الحاكميّة" لحَاج حَمد، الذي هو موضوع مقالي هذا: أولًا، ليس من التعدي القول إن مفهوم الحاكميّة، كما ينظّر له حَاج حَمد في كتابه هذا، هو مِفتاح لأطروحته المركزية "العالمية الإسلامية الثانية"، تمامًا كما هو نتيجة لها وثمرة من ثمراتها.

أفكار محمد أبو القاسم حَاج حَمد في كتابه "العالمية الإسلامية الثانية" راهنة ومحفزة على القراءة والجدل

ثانيًا، يأتي هذا الكتاب ضِمن الإرث الفكري غير المنشور للراحل، والذي تولت المؤسسة المذكورة العناية به ونشره وإعادة طبع المنشور منه. ليس هذا فحسب، فقد أفرد الدكتور شحرور في كتابه "الدين والسلطة: قراءة معاصرة للحاكميّة" (2014) مساحة ملحوظة (صص. 78-96) لتناول تفكير حَاج حَمد في موضوعة الحاكميّة، وللاشتباك النقدي معه. ما يدل، بهذا القدر أو ذاك، على أن أفكار الرجل راهنة ومحفزة على القراءة والجدل.

اقرأ/ي أيضًا: محاكمة المقدس

المفاصلة مع الدلالة الجبريّة للحاكميّة

يرى حَاج حَمد أن التصورات الجبرية تهيمن على المعنى السائد للحاكميّة، عند حركات الإسلام السياسي، ومن ثم يعمل على خلخلة هذه الهيمنة وتفتيت مرتكزاتها؛ "إن طرح المقابلة بين حاكمية الله وحاكمية البشر أمر لا يستقيم فلسفيًا وفق منهجية القرآن المعرفية وذلك للفارق الجوهري بين الطبيعتين، الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، فالطبيعة الإلهية أزليّة تمارس الحاكمية بأشكال مختلفة طبقًا لمقتضيات مكان الإنسان وزمانه دون أن تسلبه، ودون أن يكون هذا الإنسان مكافئًا لها مهما منحته من حاكمية خاصة به أو سلبتْه إياها" (ص. 30).

"فجدلية التكوين هنا "ثنائية كونية" حيث تفاعُل.. السماء مع الأرض، وعبر هذا التفاعل التخليصي الجدلي الثنائي تتكوّن النفس بكل مطلقها ونزوعها فتأتي حاملة خصائص الثنائية (ونفس وما سوّاها). فالذين اتخذوا الحاكمية الإلهية بمنطق الجبرية الإلهية إنما اتخذوها من عند أنفسهم وجعلوا الخصام ثنائيًا بين حاكميّتين إلهية وبشرية، والأمر يختلف جذريًا" (صص. 31-32).

هذا من ناحية المرتكز الفلسفي، أمّا فيما يتعلق بالجانب التطبيقي، فـ"المجادلات حول الحاكمية الإلهية أكثر وضوحًا حين يمتد الأمر إلى "التشريعات" إذ يرى الجبريون اللاهوتيون أن التشريعات الدينية هي دلالة الحاكمية الإلهية مقابل حاكمية البشر الوضعية العلمانية. وهنا يكون الاختصام!" (ص. 32).

الحاكميّة في النص القرآني

وفي سبيل الوصول إلى حل لهذه الخصومة، يعود الرجل الذي قال عنه الشيخ محمد الغزالي (1971-1996) إنه يعزّ القرآن إعزازًا شديدًا، إلى القرآن ليستنبط منه الدلالات الممكنة لمفهوم الحاكمية: "فحين تكون الحاكمية الإلهية مرتبطة بالتشريع وبالمنطق الجبري اللاهوتي فإن الله -سبحانه- يعمد إلى أربعة أمور: أولًا، أن يتولّى بنفسه قيادة المجتمع والمسؤولية المباشرة عنه فلا تكون هناك نيابة عنه [...] ولكن أنبياء يأخذون بتعليماته اليومية وينفّئونها. ثانيًا، أن يمارس خوار العطاء بالهيمنة على الطبيعة والإنسان [...].

يرى حاج حمد أن التصورات الجبرية تهيمن على معنى الحاكمية عند حركات الإسلام السياسي، ومن ثم يخلخل هذه الهيمنة ويفتت مرتكزاتها

ثالثًا، أن يحدد الله لحاكميته أرضًا تكون مقدّسة بحكم ولايته المباشرة عليها وعلى شعبها فلا تكون الحاكمية الإلهية غلًا في أرض مقدّسة. رابعًا، [...] الحاكمية الإلهية تكافؤ بين عطاء خارق وعِقاب صارم" (صص. 32-33). ويأتي بعد الحاكمية الإلهية المباشرة أو "حكم الله المباشر للناس" (ص. 45)، الذي مورس "مدّة أربعة قرون" (ص. 33)، ما يُسمّيه المؤلف بـ"حاكمية الاستخلاف"، وقد مورست في عهدي داود وسليمان، وارتبطت بـ"التسخير" أي أن الله قد سخر لهما الكائنات. ويُمكننا التعامل مع "حاكمية الاستخلاف" هذه باعتبارها حاكمية إلهية غير مباشرة أو درجة من درجات الحاكمية الإلهية.

وقد فصّل المؤلّف القول في هاتين الحاكميتين في الفصل الأول: الحاكميّة الإلهية (صص. 39-59)، والفصل الثاني: حاكميّة الاستخلاف (صص. 63-68). وقد عاد المؤلف إلى آيات سور البقرة وآل عمران والمائدة، بالأساس، وقام بتفسيرها وتأويلها، كي يبلور تصوراته عن الحاكميتين، على النحو الذي تقدّم ذكره.

حاكمية الكتاب

ولمّا كانت البشرية قد تطوّرت، فقد جاء القرآن موافقًا لتطور هذه البشرية، وقد قرر الأستاذ الإمام محمد عبده هذه المعنى وبنى عليه في إحدى رسائله. وهو ما يقرر أيضا حَاج حَمد إذ يقول: "ثم قضى الله بعد حاكميته الإلهية وحاكمية الاستخلاف بالحاكمية البشرية التي تخلو من متعلّقات وشروط الحاكمية الإلهية وحاكمية الاستخلاف، فلا تسخير لجنّ ولا شق لبحر ولا انبجاس لماء من صخر مهما عطش المسلمون ولا شق لخندق في الأرض مهما حوصروا، فلا خارق عطاء، ولكن أيضًا لا خارق عقاب.

اقرأ/ي أيضًا: التراث الصوفي وتجديد الخطاب الديني

فالشرعة الآن شرعة تخفيف ورحمة مهما دس الداسون وماثلوا بين شرعة التوراة وحاكميتها الإلهية والاستخلافية وشرعة المسلمين المغايرة نسقًا ومنهجًا (ص. 34). ومن ثم "لا تكون العلاقة بـ"التشريع" -مثلا- علاقة نصوص بل علاقة "اكتشاف لما وراء النصوص"، ولا تكون العلاقة بـ"قصص الأنبياء علاقة مع مجرّد "سيرة ذاتية"، بل علاقة بما تتضمنه هذه القصص وترمز إليه" (ص. 85).

وفي عودة مباشرة لتطور البشرية يقول الكاتب: "إن من يفهم حكمة انقضاء مرحلة النبوات يفهم تماما أن الله قد جعل إرادته في إعادة اكتشاف القرآن وفهمه ضمن كل مرحلة من مراحل التطور البشري بما ينسجم والخصائص الفكرية لشخصية المرحلة الحضارية" (ص. 88).

الشرعة الآن شرعة تخفيف مهما دس الداسون وماثلوا بين شرعة التوراة وحاكميتها الاستخلافية وشرعة المسلمين المغايرة نسقًا ومنهجًا

 هذا ما يتوصل إليه حَاج حَمد بعد تحليل الآيات المتعلقة بالرسالة الخاتمة والنبوّة والرسول، فيستنتج أن "علاقات الحاكمية" في الإسلام ليست هي في اليهودية أو المسيحية، وأن خصائص الرسالة المحمدية منبتة الصلة عن "شرعة الإصر والأغلال" ومتطابقة مع "تشريعات الحد الأدنى" (ص. 142)، وأن حاكمية الكتاب البشرية هي المناسبة للتطور البشري الحاصل. ففعل الإنسان في هذه المرحلة من تطوره هو فعل "اكتشاف"؛ "هنا عليه أن يكتشف "فعل الله" في الوجود والحركة "غيبًا" وخلافا لما كان عليه الأمر في إطار الحاكمية الإلهية وحاكمية الاستخلاف، وأن يتفاعل مع فعل الله الغيبي، وأن يدرك أبعاده وأن ينفذ إلى "ما ورائياته"" (ص. 85). هذا ما يقوله الكاتب بحس صوفي واضح.

ولا تؤثر هذه الحاكمية في علاقة الإنسان بربه فحسب، لكن أيضًا في علاقته بغيره من الناس: "إن الحاكمية البشرية تتضمن -بحكم بشريتها- التفاعل الإنساني مع المجموع البشري دون ادعاءات التفضيل والوصايا على الآخرين، فمن طبيعتها -أي الحاكمية البشرية- أن تلجأ إلى أنواع متعددة من الحوارات مع المجموع الإنساني على ضوء منهجية القرآن الكلية.." (ص. 131). يأتي هذا في مفاصلة واضحة مع مفهوم "الاستعلاء" الذي كرّس له سيد قطب في "معالم في الطريق".

***

هذه دلالات مفهوم الحاكميّة في معجم حَاج حَمد، تقف بجانب محاولات فكرية أخرى، كتلك التي قدّمها طه العلواني ومحمد شحرور، مع الإقرار بالتباينات التي بينهم، محاولة وقف جماح الرؤى الإسلامية السلطوية، خصوصًا تلك التي تجعل من الحاكميّة ذخيرة فكرية لها، كما تعمل على إعادة قراءة الموروث الديني، بالتأكيد على عِلوية القرآن، في سبيل القطع مع أغلب تصورات حركات الإسلام السياسي عن الدولة والأمة والعالم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جنة على الأرض

الأصالة الفلسفية الإسلامية.. أشكلة النقل والترجمة