17-نوفمبر-2016

ميثم راضي في بورتريه ذاتي

عادةً ما نسارع إلى تجنيس ما نقرأ، على أساس أنّه شعر أو قصّة أو رواية. يفعل ذلك كثير من الناشرين لدواعٍ تجارية، ويفعلها كثير من القرّاء، حتى يحموا أنفسهم بالتأطير من انزلاقات القراءة، وهو ما يُشكّل تعسّفًا في حقّ التجارب المكتوبة خارج التصنيف.

مواجهة الغريب

حين واجهني اسم ميثم راضي في جناح "دار المتوسط" بـ"معرض الجزائر الدّولي للكتاب"، لم يحرّك في ذاكرتي ما يدلّ على أنني صادفته من قبل، بغضّ النظر عن الطرف المقصّر فينا، لكنني ما إن قرأت ومضة الغلاف الأخير، حتى انتابني الإحساس بواجب شراء الكتاب، من زاوية تثمين تجربة أعلنت عن اختلافها من خلال ومضة، ومن زاوية تأكيد انتماء القارئ فيَّ إلى النصّ المختلف. تقول الومضة: "قطعُ الأثاث الخشبية أيضًا تُكاتب الغابة/ مثل أبناء بعيدين يكاتبون أمّهاتهم/ وحدها الشجرة التي صنعوا من ابنها تابوتًا، لا يصلها أيُّ بريد".

"كلمات ردئية" تجربة متموقعة في مقام يتجاذبه الشّعرُ والسّردُ والرّسمُ والنحتُ والصّورة والسّينما

إنّ الدخول إلى مناخات هذه التجربة المتموقعة في مقام يتجاذبه الشّعرُ والسّردُ والرّسمُ والنحتُ والصّورة والسّينما، شبيه بدخول غابةٍ عذراءَ لا تتوفّر على خرائطَ معدّةٍ سلفًا، لتصبح الخريطة هي شغف/شجاعة القارئ نفسِه. "كان للقنفذين بنت اسمها وردة، وكان ينمو على ساقها الشوك، كوصايا الوالدين، ويخطر ببالها العقوقُ على شكل مزهريات".

اقرأ/ي أيضًا: فرانز كافكا: هل يساعدنا الأرق على الكتابة؟

وقت مستقطع

في هذا المفصل بالذات من المقال، على متن سيارة أجرة، طلبني ميثم راضي في الدّردشة الفيسبوكية، وقد أرسلت له طلب صداقة قبلها بساعة.

أنت عراقي؟/ نعم/ في أية سنة ابتليت بالحياة؟/ 1974/ سبقتَني إليها بثلاث/ نحن إذن من نفس الجيل/ كيف تفهم الجيل يا عزيزي؟/ الذين تعرضوا لنفس الحوادث الكبرى والإبداعات العظيمة وهم قادرون على إدراك تلك الحوادث والإبداعات إدراكًا يتحوّل إلى ذاكرة ومعيار/ بغض النظر عن الجغرافيا والتاريخ غير المشترك؟/ اللغة قد تفرّق بين اثنين ولا تجعلهما من نفس الجيل. الجغرافيا والتاريخ تنويعات نغمية على مقام الجيل/ تحب أن تكتب رسالة حب بسكّينة وتنام مع حبيبتك في غرفة بابها مفتوح. هل مهمّة الشاعر أن يكتشف النار بطريقة أخرى؟/ نعم تلك مهمته.. اكتشاف النار هو محاولة لاكتشاف ما يحيط بنا مجدّدًا.. بالأحرى هو محالة لاقتراح وظائفَ وعلاقاتٍ جديدة للأشياء. هكذا فقط يمكنك أن تستخدم السكّين لكتابة رسالة حب، فتجعل الخوف لا يتعلق بالباب.

هل تخاف أن تكون رديئًا؟ هل أعدمت نصًّا لك من قبل؟ أخاف أكون جيّدًا مع تاريخ صلاحية منتهٍ، ألا أكون ابنَ لحظتي وبقعتي. النصوص لا تُعدم إنما تُشرح أو يُعاد تصنيعها. لقد حوّلت الكثير من النصوص إلى مادّة خام استخدمتها في صناعة نصوص أخرى، فالمذهل في قصيدة النثر أنها لا تقبل شكلًا نهائيًا للكتابة. كلما تعود إليها تجد أن طينها لم يجفّ وأنه قابل للتشكّل مجددًا./ لماذا تأخر ظهورك يا ميثم؟/ لأنني لم أكن أعرف أن أكتب.. أنا بدأت الكتابة عام 2011 بعد مراقبة متذبذبة لحركة الأدب وتغيراته استمرت لعشرين سنة/ دعني أهديك نصًّا لك/ حسنًا.

شعرية اللحظة المذبوحة

"مرّة رأيتُ درّاجة هوائية ملطخة بالدّماء، نهضتْ وحدها مثل فرسٍ أصيلةٍ، ثم بدأت تبحث خلال الدخان والأشلاء عن الولد الصغير الذي كان يركبها". يمكننا أن نتخذ من هذا النصّ مدخلًا للقول إن الطفولة وما صاحبها من تجاربَ ومجازرَ وشقاواتٍ شكّلت المادّة الخامّ للذات الكاتبة في هذا "السّفر"، بغض النظر عن كسر السّين أو فتحها. ربما لتجاوز اللحظة العراقية الغارقة في سوادها القاتل، والذي باتت له راية تسيطر على ثلث البلاد، ويصل شررُها/ شرُّها إلى الثلثين الآخرين، وربما تفاؤلًا بغد تنحاز الذات الكاتبة إلى الإيمان بشمسه رغم كلّ الغيوم. يقول في "نبرة مشمسة": لفرط ما قالوا اسمَ أبي وهم يبكون، ظننته يلفظ هكذا دائمًا: مبلّلًا، حتى صرت عاشقًا، ونشرته على حبال صوتكِ ليجفَّ، ثم جلستُ عاريًا أنتظر ذلك".

في "كلمات رديئة"، لا يأتي ميثم راضي إلى اللحظة الشعرية من الزوايا المتوقعة

لا يأتي ميثم راضي إلى اللحظة الشعرية من الزوايا المتوقعة، ذلك أن الحصول على الاستثنائي من باب العادي، أمر محفوف بمخاطرَ شعريةٍ جمّة، بل يأتيها من باب يُفاجئها هي نفسها، ما يؤدّي إلى مفاجأة المتلقي الذي لا يترك له ثغرة يتوقع من خلالها النهاية، فالنهاية دومًا هي بداية لصدمة القارئ. "لستُ مرئيًا كما يجب لأحبّك في النهار، مثل ذئب يخفي جيّدًا، أنه نباتي،عن بقية الذئاب. ها هو يركض معهم صامتًا، ثم يموت من الجوع على أعتاب الفريسة".

اقرأ/ي أيضًا: رباعيات الخيام وتشكيل العلمانية الغربية

هذه الخيارات الجمالية على مستوى الشّكل، ومضات لا تستهلك أكثر من ثلث الصفحة، تاركة للبياض إكمال المهمّة، وعلى مستوى اللغة، ارتباك في عناصر الجملة لالتقاط ارتباك المكان والإنسان، دفعت بالذات الكاتبة إلى المراهنة على المواضيع والهواجس والأسئلة والأحلام والأوجاع الصغيرة في المحيط الصغير، غير أنها تشبه الحديدة التي يرميها الطفل، فتفقأ عيون الكبار: "نحن عائلة لا تتابع الأخبار/ نعلم بما يجري بعد يومين أو ثلاثة/ عندما تسقط فجأة من يد أمّنا الصّحون/ وعندما يلعب الصّغار بالسكاكين فتجرح أصابعهم/ وعندما ينام أبونا واللفافة في يده فتحترق الغرفة/ وعندما تنسى أختي باب الثلاجة مفتوحًا حتى يفسد الطعام/ نحن عائلة تعلمت أن تنظر لحوادثها الصغيرة، كتقاريرَ مفصّلةٍ عن العالم".

جمرة الخروج

من مزايا "كلمات رديئة" لميثم راضي، أنها كتبت داخل لحظة حربية طاحنة وعبثية، تورّطت فيها أكثر من يد في الداخل والخارج، لكنها نأت بنفسها عن الوقوع في نبرة التزكية أو الإدانة الفجّة أو الانحياز لطرف من الأطراف، بل ركزت على التقاط اللحظات الإنسانية داخل هذه الحرب، وذلك ما يعني الكاتب في عرف الكتابة. لقد كان متوقعًا أن تثمر اللحظة العراقية الكسيحة مثل هذه التجارب الإبداعية المحلّقة.

"قالت الرّوح الصغيرة للملاك الذي كان يرافقها: ولكن كيف عرف الله أنني من العراق بدون أن يسألني حتى؟/ مدّ الملاك يده ومسح على خدّ الرّوح/ رفع إصبعه أمام عينها وقال: من السّخام يا صغيرتي.. من السّخام".

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنيس الرّافعي.. الكتابة بالعين

حداثة الحياة.. تقليدية الموت