11-أبريل-2018

مي زيادة (تصميم ألترا صوت)

التاريخ يكرر مأساته: إذا سار في جنازة إله الاشتراكية، كارل ماركس، أحد عشر شخصًا فقط (لندن، مارس 1883)، فإن "إزيس كوبيا" حطمت الرقم القياسي للفيلسوف الألماني الشهير، إذ شيَّعها ثلاثة أشخاص فقط بمقبرة القاهرة: أحمد لطفي السيد، وأنطوان الجميل، وخليل مطران. هكذا انطفأت شمعة بلد الأرز، بعيدًا عن السنديانة التي استظلت بفيئها طفلةً ومراهقةً، مقابل الكنيسة والجامع الأبيض في الناصرة. اتهمت بالجنون لاستلاب ميراث والدها المتوفى. العظماء يدفنون في صمت، بلا ضجيج. "الغياب، جهنم الأرض.. موجودة كأني لم أكن.. مريمتك أنا يا الله، فلماذا تخليت عني؟"؟

"ليالي إزيس كوبيا، ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية" رواية خصّصها واسيني الأعرج لسيرة مي زيادة

"ليالي إزيس كوبيا، ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية" هي الرواية السادسة والعشرون للأديب الجزائري المتميز واسيني الأعرج. وحده صاحب "مصرع أحلام مريم الوديعة" يعرف كيف يلامس حيوات المهمشين تاريخيًا. بعد مرور ست وسبعين سنة على وفاتها بالقاهرة قهرًا، جاء ابن سيدي بوجنان ليميط اللثام عن الكاتبة العربية مي زيادة (1886-1941).

اقرأ/ي أيضًا: أورهان باموق.. من مطبخ الكتابة

ولدت مي زيادة في الناصرة من أم فلسطينية أرثوذكسية، نزهة معمر من الجليل، وأب ماروني لبناني، إلياس زخور زيادة، من ضيعة شحتول. الرواية تسرد السنوات الأخيرة لمي زيادة، التي خطت أولى أشعارها "أحلام زهرية" تحت اسم إزيس كوبيا (الترجمة الحرفية لماري زيادة)، مركزًا على السبعة أشهر داخل مشفى الأمراض العقلية والنفسية، المسمى "العصفورية" بريف بيروت.

زاولت مي زيادة دراستها الابتدائية بمسقط رأسها، والثانوية بعينطورة اللبنانية. في سنة 1908 سافرت الابنة الوحيدة مع والديها إلى القاهرة أين كان أبوه يدير مجلة "المحروسة". عاشت مي زيادة مناضلة دؤوبة من أجل إرساء حقوق المرأة في مجتمعات عربية ذكورية في البيوت والشوارع والمقاهي، ولكنها انهزامية حيال صون سيادة بلدانها. الحروب أمرُّ! تابعت دراستها الأدبية والفلسفية في جامعة القاهرة، وازدادت ريشتها تحليقًا في سماء الأدب العربي، فأنشأت سنة 1912 النادي الأدبي، الذي كان يجلب كل يوم ثلاثاء كبار الكُتاب العرب من طينة طه حسين، وعباس محمود العقاد، وقاسم أمين، ومصطفى صادق الرافعي. نشرت مي زيادة أبحاثها النقدية والفكرية في كبريات المجلات العربية والعالمية بحكم إتقانها عدة لغات حية.

تأثرت مي زيادة بأشعار شارل بودلير وألفونس دو لامارتين وجورج غوردون بيرون، وبأعمال أديب المهجر جبران خليل جبران، إذ زلزلتها قراءة روايته "الأجنحة المتكسرة"، والتي تناولت قصة حب لم تنته كما اشتهت الأنفس. من المذهل أن نرى مي زيادة تتبادل الرسائل مع جبران مدة تسع عشرة سنة بدون انقطاع، حتى وافته المنية بنيويورك ربيع 1931. حزنت كثيرًا على فقدان ملهمها وعاشقها الصوريّ، ومما زاد من حدة كآبتها هو موت والديها في نفس الفترة. لم تقوَ على مجابهة الآلام والاكتئاب، فتدهورت صحتها وهوت معنوياتها إلى الحضيض. انهارت عصبيًا. وتلك الحالة الحرجة هي التي استغلها ابن عمها، جوزيف زيادة، ليدخلها بالحيلة إلى مستشفى العصفورية، بعدما استدرجها من القاهرة إلى بيروت، أو بالأحرى من أزهار اللوتس لنهر النيل إلى قطعة جحيم دانتي ببيروت: "العصفورية"، أكبر مصحة عقلية في الشرق الأوسط. استباح أقاربها عقلها للاستيلاء على ممتلكات والدها بشحتول.

تخيل واسيني الأعرج في حبكته الرواية وجود "مخطوطة ليالي العصفورية" ضائعة، كانت مي زيادة قد كتبتها طيلة فترة مكوثها هناك. الراوي كان يعمل بقسم المخطوطات بالمكتبة الوطنية الفرنسية منذ ثلاثة عقود، والذي نجده يجوب مدن العالم رفقة الباحثة روز خليل، المتخصصة في الدراسات النسوية العربية بمنتريال. واجهتهما عقباب جمة للم شتات أوراق مي زيادة، وكادا أن يفارقا الحياة على متن طائرة باريس-القاهرة التي سقطت لو لم يلغيا السفر في آخر لحظة. رائحة الأوراق المصفرة لمي زيادة كانت مبعثرة: ثلاث أوراق في دير عينطورة اللبنانية، وبقية المخطوطة في كيس قديم برتقالي وُجد في حي قديم في الجيزة المصرية. أضاف الراوي (واسيني الأعرج؟) ألف كلمة وكلمتين محتها دموع مي ورطوبة الدهر.

"أخرجوني من بيتي قبل الساعة الرابعة بعد الظهر، وأوصلوني إلى مكاني في القطار، وغابوا عني... فأرسلني إلى العصفورية، بحجة التغذية. وباسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل وأموت شيئًا فشيئًا". هذا ما كتبته عن ابن عمها جوزيف الذي كذب عليها في رسالة سابقة استلمتها في القاهرة: "جوزيف كان قاتلي ومقتلي من دمي... قال لي: تعالي، يا مي. الكل ينتظرك في بيروت. الأهل لا ينامون، يتناوبون على انتظارك. ضيعتك بشحتول تنتظرك..."، فوجدت نفسها نزيلة مصحة العصفورية.

يولي واسيني الأعرج اهتمامًا بالغًا للحالات النفسية لشخوصه، إذ يتوغل في أغوار قسوة البشر

لم يستجب أحد لأنينها، فأقهت مي زيادة عن الأكل والشراب، خوفًا من تعرضها للتسمم من طرف أقاربها الجشعين. هاجس أرقها واستنزف قواها وجعلها تزن ثلاثين كيلوغرامًا. ذلك الجسد النحيف الذي كان يومًا يُسمن المقاهي الأدبية ويغذيها بالنقاشات الفكرية الراهنة والمرهونة. نفثت مي زيادة على دفترها ضجرها بالعصفورية، ويأسها وإحباطها: "أنا امرأة من حيرة وانتظار... شيء ما يتآكل كالبركان قبل أن تندفع حمم بلا توقف... تكررت النوبات معي... بدأت تنتابني الرغبة في الانتحار...كيف سلمت نفسي كليا لجوزيف؟ ظننته كبيرًا ومتنورًا وحساسًا وعاشقًا للحياة... شككني في يقينياتي... منذ البداية، أدركت أن صراعي سيكون كبيرًا مع رجال شاخوا قبل أن يكتبوا. ولدوا مخربي الأدمغة".

اقرأ/ي أيضًا: تعرف على 5 من كلاسيكيات الرواية العربية

كانت الشاعرة تصرخ لمن يريد أن يسمعها أنها ليس مجنونة كما يتصورون، فقط فقدان الأحباب هزَّ أوصالها وطعن آمالها. "يا ناس، أنا لست مجنونة. أنا مصابة فقط باكتئاب بسبب الفقدان، لكني ما ضيعت عقلي لا أحد يسمع صراخي، إلا أشجار العصفورية الكثيفة والعملاقة...".

[[{"fid":"99376","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"ليالي إيزيس كوبيا","field_file_image_title_text[und][0][value]":"ليالي إيزيس كوبيا"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"ليالي إيزيس كوبيا","field_file_image_title_text[und][0][value]":"ليالي إيزيس كوبيا"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"ليالي إيزيس كوبيا","title":"ليالي إيزيس كوبيا","height":307,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

يولي واسيني الأعرج اهتمامًا بالغًا للحالات النفسية لشخوصه، إذ يتوغل في أغوار قسوة البشر. الممرضة البدينة ذات المؤخرة الضخمة، السيدة شوكت، كان لسانها يجرح أكثر من السكين، وهي تتهكم على المبدعة مي زيادة: "إذا أردتِ أن تموتي، فموتي خارج أسوار العصفورية. لن تحزن البشرية عليك. ولن يتغير العالم بعد موتك. استردي حقك، ثم موتي إن شئتِ".

أفرغت مي ما كنَّ في قلبها من ثقل الفقدان: "عائلتي الحقيقية انتهت بموت أمي، بعدها الفراغ المظلم... مات أبي وأنا جوعانة إلى حنانه... لحقه جبران، حبيبي وأخي الذي يعرف جراحاتي التي لم يلمسها حتى الأقربون. لم أكن من حديقة نسائه، لأني لا أملك قلبًا سهلًا وجسدًا طيعًا. ثم ختمت درب الآلام بموت أمي، فشعرتني فجأة مرمية في فراغ بلا حدود". لم تنفعها سفريات إنجلترا سنة 1932 للتخفيف من أوجاعها. خيبتها الأوضاع الثقافية العربية المتذبذبة: "في الشرق ازدواجية كبيرة رهينة ثقافة فيها نفاق وخوف من كل ما هو جديد، حداثي ومنفتح على الحياة...  فكرت في غلق صالون الأدب... الأدب مشقة تطاق، لكن البشر دوار صعب".

ذبلت مي زيادة كوردة في رمال الجحود والإهمال اللذين تعرضت لهما من الأقارب والأباعد على حد سواء. حتى من كان يدعى صداقتها من الأدباء الكبار، هجروها وأداروا ظهورهم، لتتلاشي شخصيتها في مكان مظلم لم تكن لتستحقه البتة. تتساءل مي زيادة في دفترها: "كيف تجرأ عباس محمود العقاد أن يرميني بسهولة؟ ألم يكن حبيبي؟ كان من الصعب أن يراني امرأة خارج السيطرة. خارج سربه النسوي الذي أعرفه. منحته يومًا خاصًا به، الأحد. كان يتضايق من صالون الثلاثاء. لم أكن مهيأة للنوم معه، فكان يغضب كطفل صغير. شيء ما في داخلي يرجعني إلى تربيتي بالدير... أنا امرأة مسيجة بالممنوعات".

واسيني الأعرج يتقن وصف التفاصيل مما يجعل القارئ يعيش ما قاسته مي زيادة في مكان يحرص على أن تكون مجنونًا إلى الأبد. هذا طبيب يدعي أنه مستشرق لكي يجس درجة جنون مي زيادة، فتصعقه حينما أخبرته أنها تجيد عزف البيانو وتعشق موسيقى موزارت وشومان. استحضرت أمامه محاضرة كانت قد قدمتها ببراعة في الجامعة الأمريكية ببيروت سنة 1922. شكت له قسوة جوزيف زيادة الذي وعدها بالزواج قبل أن يقترن بامرأة فرنسية في باريس. كان جوزيف سبب كل محنها في العصفورية، رماها لحمة طرية لتخرج بعدها هيكلًا عظميًا.

بعد معركة قضائية، خرجت مي زيادة من جحيم العصفورية هزيلة الجسم ومحبطة نفسيًا. لكن محاضرة ألقتها بالجامعة الأمريكية ببيروت أعادت لها الثقة الضائعة على الرغم من برودتها. رفضت مي زيادة أن تدفن في أرض أذاقتها ويلات جحيم العصفورية، بل ولعنتها، واشتهت تربة القاهرة بجوار أمها وأبيها. أدركت مدينة النيل منهكة بالسعال، وفي قلبها غصات ممن جرحوها، وتركوها تنزف على روية. عابت على العقاد الذي لم يعدها في العصفورية.

استطاع مُشيد "البيت الأندلسي" أن يعيد تصاميم أوجاع مي زيادة وتوسلاتها إلى الواجهة الأدبية 

"عودي إلى مصر مثل الشمس ساطعة"، كتب الشاعر طاهر الطناحي. بعد سبعة أشهر من انتحار أيقونة النضال النسوي حيال التحرر الفكري، الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف، فارقت مي زيادة الحياة والقلم في يدها في 19 تشرين الأول/أكتوبر 1941 على الساعة العاشرة وخمس وعشرين دقيقة على رنين أجراس كنيسة الظاهر.

اقرأ/ي أيضًا: الرواية بحسب ميلان كونديرا

واسيني الأعرج يؤكد أنه سيد الأدب الإنساني المحض. في كتابات الأعرج، تتجلى معاناة الأفراد والجماعات عبر التاريخ. استطاع مُشيد "البيت الأندلسي" أن يعيد تصاميم أوجاع مي زيادة وتوسلاتها إلى الواجهة الأدبية بطريقة سردية ذكية، ولو عزفا على أوتار هلوستها بالعصفورية. لقد أنصفها حقًا كاتب "رماد الشرق"، متقدًا ذاكرة الإنسانية المتصدعة بالتناقضات والصراعات الفكرية. وتبقى المرأة العربية ضحية النظرة الدونية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أشياء على سطح الرواية

رواية "خارج السيطرة": الجريمة بنيان غير مرصوص