05-أغسطس-2017

مقر اعتقال ومقبرة لضحايا القمع السوفيتي (Getty)

يعرف العالم النشطاء الحقوقيين بكونهم المتابعين لقضايا الحقوق والحريات في بلدانهم، لكن هذه المتابعة ثمثلت مؤخرًا في تسريبات للحكومات، في مهاجمة الفساد ونشر القضايا على الإنترنت، في التدوين ونشر ما هو غير معلوم للإعلام والرأي العام، لكن أن يصل الأمر لمراقبة منطقة شاسعة في سيبيريا ومتابعة الحفر بها لأكثر من 20 سنة بحثًا عن انتهاكات حدثت منذ وقت الاتحاد السوفيتي، فهذا المجهود ربما لم يصل له أي حقوقيين من قبل. وهذا ما لفت انتباهنا لهذا الموضوع الذي نشرته الغارديان، ونقدم هنا ترجمته.


تحت صرير أشجار الصنوبر وخشخشتها الخافتة، لا تزال الغابات الشاسعة بين بحيرة أونيغا والحدود الفنلندية تخفي أسرارها المظلمة.

جلبت الشرطة السرية 6 آلاف و241 من سجناء غولاغ "معتقل سيبيريا" إلى هذه الغابة تحت حكم جوزيف ستالين المرعب، فيما عُرف بعهد التطهير الأعظم، في 1937-1987، وضعوا وجوههم لأسفل في حُفر جُهزت لهم في التربة الرملية هناك، ثم أطلقت الشرطة النار عليهم في الجزء الخلفي من الرأس. ومع تلاشي رفاتهم، غطت التربة هذه المقبرة الجماعية.

كرّس صياد قبور غولاغ من مدينة بيتروزافودسك، جهوده لأكثر من ثلاثة عقود محاولًا الكشف عن ضحايا القمع السوفيتي

ساعدت العلامات الموجودة في أرضية الغابة يوري ديمترييف وأعضاء آخرين في "ميموريال" -أقدم منظمة في روسيا لحقوق الإنسان- في إيجاد هذا الموقع بساندورموخ في عام 1997. وهي واحدة من أكبر المقابر الجماعية في الاتحاد السوفيتي السابق.

بمساعدة ميموريال، كرّس صياد قبور غولاغ البالغ من العمر 61 عامًا من مدينة بيتروزافودسك القريبة، جهوده لأكثر من ثلاثة عقود محاولًا الكشف عن ضحايا القمع السوفيتي، وإخراجهم من حالة "النسيان الذي تنتهجه الدولة"، عبر نشر العديد من الكتب بالأسماء وتواريخ وأماكن الإعدام التي تم اكتشافها.

قال ديمترييف عن جهوده للكشف عن تفاصيل القمع السوفيتي: "نحن بحاجة إلى تثقيف الناس، وتعريفهم بما جرى، لكي تصبح حكومتنا مسؤولة".

أقرأ/ي أيضًا: "روسيا اليوم".. صناعة الوهم البوتيني

لكن لا يميل كثير من الناس إلى تذكر هذا التاريخ المنسي، خاصة وسط الحماس الوطني الحالي في روسيا. في حزيران/يونيو، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن محاولة "التشهير المفرط" fستالين تعد أحد وسائل الهجوم على "الاتحاد السوفيتي وروسيا"، هذا وقد اتهمت عديد من فروع منظمة ميموريال في السنوات الأخيرة بكونها "عميلة للأجانب".

لأول مرة منذ عقدين من الزمان سوف يفوِّت ديمترييف اليوم السنوي لذكرى ساندورموخ في 5 آب/أغسطس. بعد اعتقاله في كانون الأول/ديسمبر، واتهامه بتصوير ابنته المتبناة البالغة من العمر 12 عامًا صورًا غير لائقة، وهي التهم التي أنكرها تمامًا، وهو الآن محتجز على ذمة المحاكمة. ويواجه ديمترييف تهديدًا بالسجن 15 عامًا في حال إدانته.

وقال خبير في الاضطرابات الجنسية إن الصور ليست إباحية، وصرحت ميموريال وآخرون بأن ديمترييف إنما هو سجين سياسي مُطارد بسبب عمله على كشف جانب من التاريخ يعرقل تمجيد الكرملين للعهد السوفيتي المنصرم.

وتدعمه ابنته البالغة التي قالت إنه أخذ الصور لتوثيق صحة الطفلة في حال حاولت الخدمات الاجتماعية أخذها. وكانت الفتاة تعاني من سوء التغذية عندما أخذها ديمترييف وزوجته في سن الثالثة، ووفقًا لمحامي ديمترييف، فإنه قد تم حفظ الصور في مجلد يسمى "صحة الطفلة". ومع كل منها ملاحظة عن طولها ووزنها وصحتها العامة، وتم أخذ الكثير من هذه الصور قبل زيارة الأخصائيين الاجتماعيين.

جلبت الشرطة السرية 6 آلاف و241 من سجناء غولاغ "معتقل سيبيريا" لهذه الغابة تحت حكم جوزيف ستالين، وقامت بقتلهم

وقد وقع أكثر من 30 ألف شخصًا عريضة على الإنترنت تطالب بعدالة التعامل مع قضيته. وفي الوقت نفسه، عملت وسائل الإعلام الحكومية على تشويه صورة ديمترييف باعتباره شخصًا شهوانيًا ومختلًا جنسيًا، مثلما وُصف أعضاء ميموريال بأنهم مخربين مناهضين للحكومة.

وقالت إيرينا فليج، مديرة ميموريال بمدينة سان بطرسبرغ، التي اكتشفت ساندورموخ مع ديمترييف: "مثلما حدث في فترة التطهير الأعظم، حين كانت الأعمال الانتقامية السياسية، والقتل، والإعدام خارج نطاق القانون هي القاعدة السائدة في الحياة السوفيتية، كذلك اليوم؛ الاضطهاد والاعتقالات والضرب في التجمعات، وإغلاق المنظمات المستقلة أصبح يمثل أسلوب الحياة في روسيا"، وتابعت: "الأغلبية تعتقد أن النظام يمكنه فعل أي شيء مع أي فرد من أجل مصالحه الخاصة".

وتقع بالقرب من جزر سولوفيتسكي، موطن نشأة معسكرات غولاغ، منطقة كاريليا في شمال غرب روسيا حيث قتل عشرات الآلاف من السجناء أو ماتوا خلال حفر قناة البحر الأبيض سيئة السمعة التي كانت جزءً من الخطة الخمسية الأولى لستالين. وبصفته مساعد لمسؤول إقليمي، بدأ ديمترييف البحث عن قبورهم للمرة الأولى بعد استدعائه للتعامل مع بقايا كُشف عنها خلال الحفر في قاعدة عسكرية عام 1988.

اقرأ/ي أيضًا: منشقان عن نظام بوتين .. يشغلان صحافة العالم

وسرعان ما بدأ محاولة التعرف على ضحايا عمليات الإعدام الجماعية التي نُفذت سرًا، وخلال الفترة القصيرة التي فتحت فيها المحفوظات السرية للشرطة في التسعينات، تمكن دميتريف من تسجيل آلاف أوامر الإعدام المحفوظة في سجلاتها. ثم محاولة مطابقة كل مجموعة من الهياكل العظمية التي وجدها بأوامر الإعدام الخاصة بها.

بحث فليج طويلًا عن مجموعة "سولوفيتسكي إيتاب" المختفية، وهي مجموعة من 1111 سجينًا من بينهم عديد من الشخصيات السياسية والثقافية والدينية الرائدة من مختلف أنحاء الاتحاد السوفيتي، ممّن انتهى بهم المطاف في ساندورموخ.

وبعد تتبع الإشارات الواردة في شهادة الجَلّاد ميخائيل ماتفيف، اكتشف فليج، ودميتريف، وفينيامين إيوف علامات واضحة في الغابة على الطريق إلى قناة البحر الأبيض وبدأوا الحفر. أشار فليج قائلًا: "لم تكن عِظامًا فحسب، بل كانت عظام أشخاص كنتُ أعرفهم، وأعرف أطفالَهم". واليوم، تنتشر الشواهد الخشبية على مسافة مئات الأمتار في أعماق الغابة في ساندورموخ مع صور الضحايا وأسمائهم.

دعمت السلطاتُ المحلية في البداية هذا النصب التذكاري، وساعدت في بناء طريق مُوصلٍ إليه وتشييد كنيسةٍ صغيرة، وأرسلت ممثلين عنها إلى يوم ذكرى الخامس من آب/أغسطس. لكن في العام الماضي، وللمرة الأولى، لم يحضر أي مسؤول حكومي أو كَنَسِيّ.

اتهم التلفزيون ميموريال بمساعدة "أولئك الذين يهدفون تدمير الدولة الروسية" بعد نشرها معلومات عن 40 ألف مسؤول بالشرطة السوفيتية

وازدادت حساسية الأمر سياسيًا في ساندورموخ منذ عام 2014 على الأقل، عندما استولت روسيا على شبهَ جزيرة القرم. غاب الوفد الأوكراني، وهو الأكبر عادة، عن الاحتفال ذلك العام، وأدان دميتريف تأييد روسيا للانفصاليين في شرق أوكرانيا في الخطاب الذي ألقاه.

مثلما أشار إلى أن الحكومة الروسية فَشِلت فى الإقرار الكامل بجرائم سلفها السابق، وهو موقف مثير للجدل وسط استمرار موجة الوطنية والحنين السوفيتي. وقد ظهرت العديد من تماثيل ستالين في المدن بجميع أنحاء البلاد، وتصدّر الديكتاتور الراحل استطلاعًا في حزيران/يونيو حول أكثر الأشخاص "تميزًا" في كل العصور. وفي الصيف الماضي، روجت وسائل الإعلام الرسمية لادّعاء لا أساس له من الصحة، زاعمة أن ساندورموخ تضم في الواقع جنودًا سوفييت قَتَلهم الفنلنديون.

وفي تشرين الثاني/نوفمبر، اتهم التلفزيون الحكومي ميموريال بمساعدة "أولئك الذين يهدفون إلى تدمير الدولة الروسية" بعد أن نشرت معلومات عن 40 ألفَ مسؤولٍ في الشرطة السرية السوفيتية، ويُقال إنّ دميتريف تلقى مكالماتٍ هاتفيةً غاضبة من مشاركته في المشروع.

أقرأ/ي أيضًا: مآلات العنف الداعشي

واعتُقل دميتريف بشكل غير متوقع في الشهرَ التالي لهذه الأحداث بعد أن أَبلَغَ مصدرٌ مجهولٌ الشرطةَ عن وجود صور عارية لابنته بالتبنّي، ناتاشا، على حاسوبه الخاص.

وقالت ابنة دمتريف، يكاترينا كلودت، لصحيفة الغارديان إن والدها، الذي دائمًا ما وثِّق البقايا البشرية مع بعض الصور والقياسات، قد التقط هذه الصور لناتاشا التي تبنّاها ليُظهِر أنها تتمتع بصحة جيدة في رعايته.

وأضافتْ كلودت أن دميتريف الذي كان هو نفسه طفلًا بالتبنّي لأحد الآباء، تعرض لمشكلة فى الحصول على تصريح لتبنّي ناتاشا من دار أيتام فى عام 2009، وأنه أراد أن يوَثِّق حالة الطفلة التي استعادت صحتها بعد معاناتها من نقصان الوزن. خاصة بعدما أثار أحد معلميها ضجة حول وجود بُقع حبر على جلد الطفلة، وظنّه الخاطئ بكونها كدمات.

الجريمة الحقيقية لديمتريف، حسب اعتقاد مؤيديه، هي انتقاده للحكومة والعمل مع نشطاء من الأعداء على الصعيد الجغرافي السياسي

وشهد ليف ششيغلوف، رئيس المعهد الوطني لعلم الجنس في موسكو، في المحاكمة بأن الصور لا يمكن اعتبارها إباحيةً أو مُسيئة. وقال المحامي إن الادعاء لا يزال يأخذ مجراه فى القضية التي تشمل أيضًا اتهامات "بأعمال منحرفة" وحيازة سلاح نارى بصورة غير مشروعة، وما هي إلا بندقية صيدٍ يبلغ عمرها 60 عامًا وُجدت مع ديمتريف.

أما الجريمة الحقيقية لديمتريف، حسب اعتقاد مؤيديه، فهي انتقاده للحكومة والعمل مع نشطاء من الأعداء على الصعيد الجغرافي السياسي، بما في ذلك بولندا وأوكرانيا لإحياء ذكرى مواطنيهم في ساندورموخ.

وقالت آنا ياروفايا، الصحفية لموقع الأخبار "7x7": "إنّ روسيا لا تحتاج إلى هذا الآن. فهي تبحث عن أعداء في كل مكان، بما في ذلك في الخارج؛ لكن بالنسبة له، كان الجميعُ أصدقاءه".

 

اقرأ/ي أيضًا:

صورة الدكتاتور

الشيطان مرّ بموسكو