30-أكتوبر-2015

ضربات قويّة وحادّة وملتوية تظهر الانفعال الحسي

يقول نيتشه: "لقد اخترعنا الفن كي لا نموت من الحقيقة". يأتي الموت مجانيًّا إذا ما قيس بالحياة التي صارت ترفًا، في واقع يحاكي الوجه المظلم لحقيقة أنّ ما يعيشه الإنسان هو بالضبط ما يستحقه. وعلى الرّغم من هذا، فإنّ الفنّ يتصدّى منذ الأزل لمهمة تجميل الحياة وجعلها ممكنة. 

يدعو معرض عبد القادري إلى البحث عن شذرات مضيئة  في التاريخ، لا سيّما تلك التي يقف فيها الفن مقاومًا لسياط الزندقة وسيوف التكفير

الجمال في وجه القبح، البقاء مقابل الهلاك، الأثر بعد الانطفاء. هذا ما قرأته وأنا أتجوّل في دار الفنون- الكويت التي تحتضن معرضًا للفنان اللبناني عبد القادري تحت عنوان "الـمقـامـــــة". عنوان يحيلنا إلى مقامات الحريري والمزوّقات الفنيّة التي رسمها يحيى بن محمود الواسطي (القرن الثالث عشر الميلادي) بوصفها تمثيلًا فنّيًا لحكاياتها وشخصيات المقامات الشهيرة.

يؤكّد القادري بأنّ المعرض تحيةٌ لفن الواسطي، وذلك بعد أن تلقّى مقامات الحريري من النسخة المحدودة والموجودة في مكتبة باريس الوطنية كهدية من الفنان العراقي ضياء العزاوي، الذي كان مشرفًا على عرض الأعمال الأثرية ومن ضمنها نقل الثور المجنح من مدينة خرسباد إلى متحف الموصل. تحية جاءت بعد الدهشة التي أصابت القادري عند اطّلاعه على المزوّقات التي رسمها الواسطي، وانبهاره بما في تلك المزوّقات من تعبير عن حساسية الواسطي العالية، وقدرته على تمثيل شخصيات حكاياتها ورصد بعدها النفسي، والخروج بالمزوّقة من القوالب التقليدية، وهو بهذا المعرض يوجّه التحيّة لفنان رياديّ متحرر.

من هذه التحية جاءت فكرة المعرض الذي يبارك تلك اللحظة، ويدعو إلى البحث عميقًا عن شذرات مضيئة في التاريخ، لا سيّما تلك اللحظات التي يقف فيها الفن مقاومًا لسياط الزندقة وسيوف التكفير ومعاول الأصولية التي تهدم هذا الجمال الفني، ولا سيما في وقتنا الرّاهن، حيث يشير القادري إلى أنّ هذا المعرض جاء كردة فعل على هدم وتحطيم الآثار الذي تعرّض له متحف الموصل على يد تنظيم الدولة الإسلاميّة بوصف تلك الآثار أصنامًا تعبد من دون الله، يقول: "كان لحدث تدمير المواقع التاريخيّة في العراق وتحديدًا هدم متحف الموصل في شباط/فبراير من هذا العام الوقع الأكبر في نفسي. لقد كانت تلك الصور والأشرطة المصوّرة بكل عدوانيتها وإجرامها النقيض الأعمق والأقوى في نفسي لصور الواسطي، فالأخيرة تحاكي الحياة والفن والجمال والأولى تمجّد العنف والتشويه". 

يمكن للمتابع للوحات المعرض أن يلاحظ جيّدًا تلك الرسالة، حيث تظهر شخصيّات المقامات في اللوحات مع ظهور لعناصر التنظيم بملامح قاسية، وأجسام كبيرة، وأقنعة تغطي الوجوه، ونظرات حادّة وشريرة مصوّبة تجاه الجمال الذي كانت تحتفل به المزوّقات، وتبدو غير آبهةٍ بهذا الغزو الأسود الذي يحاول أن يطغا عليها ويلوّث انسجامها التّام مع الحياة على اختلاف تجلياتها. وفي مشاهد أخرى تظهر في حالة صراعٍ مع هذا الاقتحام المباغت لها. كما نجد في خلفية اللوحات تجسيدًا لبعض مشاهد التدمير التي طالت التماثيل في المتحف، حيث يظهر عناصر التنظيم وهم يهدمونها بمعاولهم. وهذا ما يقودنا للاعتقاد في أنّ القادري أراد أن يوثّق هذه اللحظة وينتقدها في الوقت ذاته، دون أن يغيب عن الذهن مضمون الرسالة التي تؤكّد على قدرة الفن على تمثيل الحياة والجمال ومواجهة العنف والقبح. 

لقد استطاع الفنان القادري "أن يقيم تلك العلاقة بين الفنّ والانفعال كما يرى شربل داغر أستاذ فن في جامعة البلمند-لبنان، حيث يرى أنّ القادري استطاع أن يختار معادلة جمعت بين أشد اللحظات الحالية حرقة واحتراقًا وبين لحظاتٍ قديمة سابقة، معادلة قائمة على ثلاثة عناصر هي: لحظة الفنان، مدونة الواسطي الكتابية – البصرية، والإرث الرافيديني المادي خصوصًا. وهي عناصر تلتقي فوق حامل مادي كما تنطلق من قرارات أرادها الفنان نفسه".
من جهة ثانية نجد أنّ القادري "لا يؤسس للوحته -كما يرى داغر- بل يباشرها كما كان يفعل الخطاط أو المزوّق العربي، وبذلك فإن القادري يبطل تلك القاعدة القائمة على تأسيس قاعدة لشبه في الخارج". 

مقامات عبد القادري هي دعوة قائمة ومفتوحة لمواجهة التطرف والإرهاب بالفن والتشبّث بالحياة

وهذا ما يجعل بعض الصور والأشكال وكأنها مقحمة إقحامًا في بناء العمل الفني، مما يعزّز في نفس المتلقي الرسالة التي أرادها الفنان عبر لوحاته، رسالة تحمل معنى يتجاوز فكرة استخدام فنانٍ شاب وسائل فنيّة قديمة كالأقلام الفحميّة؛ ليضعنا في مواجهة المعنى من ضربات القلم الحادّة والانفعاليّة. وهو أيضَا يستخدم الريشة ليجمع بذلك بين أداتين في علاقة رمزيّة تجمع فنيّن مختلفين، ويجعل العمل الفني محمّلا بدلالةٍ رمزيّة تسهم في بلورة وصياغة المعنى المؤسس على الانفعال، وقدرة هذا الانفعال الحسي على إيصال رسالةٍ ذات مضمونٍ فكري وجودي. 

ضربات قويّة وحادّة وملتوية تظهر هذا الانفعال الحسي. إنّها ضرباتٌ تنقل أثر الحدث العظيم في نفس الفنان، ورغبته في المواجهة، وانتقاد الفعل التدميري والوحشي الذي يطال الفن والحياة من ورائه. كما أنّ استخدام الفحم يأتي محمًلا برمزيّة هائلة عن فكرة الزوال، فالفحم الذي تطاير بعد أن شرع القادري بمباشرة لوحاته- كما يقول- أوحى له بتلك الفكرة، في إشارة إلى هذا الوجود المؤقت واللحظة الطارئ والمفارقة للطبيعة الإنسانيّة في سعيها إلى الجمال والخير. من جهة ثانية، فالفحم بلونه الأسود القاتم يعبّر عن سوداويّة الواقع المعيش تحت سلطة التكفيريين، كما يرمز للون الأسود بسطوته الترهيبيّة إلى حالة الهيمنة التي يسعى تنظيم الدولة إلى فرضها على مفردات الحياة وأطيافها المتنوّعة. 

جولة في المعرض تكفي لتأخذ جرعة أمل وتفاؤل بالمستقبل، ولنثق بحقنا في الحياة المشبّعة بالفن والجمال؛ الفن بوصفه سلاح مقاومة، والفن بوصفه تعبيرًا صادقًا عن انفعالاتنا ورؤانا إلى العالم. هذا ما يؤكده القادري خاتمًا حديثه: "في هذه اللوحات تتحوّل اللحظة الراهن إلى أرشيف الماضي بلونه الأبيض والأسود، ويستعيد الماضي مجسّدًا بأعمال الواسطي ألوانه ممجّدًا للنور والديمومة".

هي رسالة تدعونا لقراءة تاريخنا ومراجعة الأفكّار المسبّقة التي تكوّنت عن محاربة الدين الإسلامي للفن، كما في أعمال الواسطي ومعاصريه في الخروج من أسر القوالب التقليدية، ونقض ذرائع التكفيريين حول حرمة التشخيص والفن عمومًا. هي دعوة قائمة ومفتوحة لمواجهة التطرف والإرهاب بالفن والتشبّث بالحياة.

اقرأ/ي أيضًا:

عمر حمدي "مالفا".. ميراث من وهج الألوان

حمود فهمي عبّود.. الجسد الأنثويّ صرحُ المدينة