05-يناير-2017

مصطفى محمود (انترنت)

إذا كانت المجتمعات العربية تعاني من فائض شديد في مقدساتها ورموزها الدينية، التي تتعالى على أي نقد ومراجعة للعقل، فقد أخفقت كل محاولاتها التاريخية، بهدف قطع الحبل السري مع الدين، وتحريره من تاريخيته، ومصادره المؤسسة السياسية الأبوية والدينية له، وفرض نمط عام وسائد من الحياة، تنمحي فيه الفروق بين البشر وتتعطل مواهبهم وتتلاشى خصوصية الفرد، التي تنتهك تحت وطأة فرض الرقابة على سلوكه وفكره وضميره، وتبعًا للحياة التراتبية في ظل الأنظمة التوتاليتارية، التي يصبح فيها الحاكم الممثل الشرعي ويخضع الأفراد لمرتبة وجودية أدنى لا يخرجون عن طاعته ولايمثلون سوى إرادته.

ينتمي مصطفى محمود، المولود في أوائل القرن الماضي، إلى سياق هذه الأزمة وتداعياتها. فالظاهرة التي يمثلها من حضور وانتشار طاغ لمقولاته وأفكاره عبر مواقع التواصل الاجتماعي المصرية وغيرها، يدفع إلى السؤال عن أفكاره ومقولاته وجمهوره. فجمهوره الواسع الذي ينبري للدفاع عنه وترديد أحاديثه الشهيرة والمعلومات التي كان يروجها في الدين والفلسفة والعلم، دون تشكيك أو فحص، هذا الجمهور الذي استهدفه منذ بدأ يطل على شاشة التلفزيون المصري في سهرة الاثنين مساء، برفقة صوت ناي حزين، معظمه (أي جمهوره) من المتعلمين وخريجي الكليات، جذبته "عطارة" الفكر السهلة والبسيطة دون مشقة وجهد وهو يرى صروح الفكر الفلسفي من الوجودية للماركسية وكل النظريات العلمية والكشوفات الكونية تتهاوى أمامه.

تنتشر أفكار مصطفى محمود بوفرة على مواقع التواصل الاجتماعي من دون التأكد من علميتها

فهي مؤامرة صهيو-أمريكية ضد الإسلام من ناحية وتعويض لحالة العجز وقلة الحيلة والفشل العربي وجموده التاريخي في كل مواقع العمل والتقدم المعرفي والعلمي، من ناحية أخرى. قدم مصطفى محمود لهم اليقين السهل لتطمئن أفئدتهم أن دينهم سبق الجميع في اكتشاف الكواكب والنجوم وعمر الأرض وهو مرجعية ينهل منها العربي المسلم كل يقينياته الإيمانية ويحظى بالمرتبة والتقدم المعرفي والعلمي والتقني، وكل الحداثة الفكرية المزعجة والمربكة لنا من سبيونزا ودريدا وهيدغر وحتى ماركس وفوكو.

اقرأ/ي أيضًا: غضب من إعلام مصر لتشويه مشايخ مغاربة: ليسوا دجالين

ببلاغة مفرطة وثقيلة واعتماده الصيغ السحرية للكلام يعتمد صاحب "حوار مع صديقي الملحد"، طريقة خطابه في سرد أفكاره وعرض تحليلاته، لكن ثمة ملاحظة مثيرة للدهشة لدى مراجعة كتاب الطبيب المصري، الذي يجيب فيه عن تساؤلات صديقه الملحد، وهي استدلاله من الآيات القرآنية والأحاديث المحمدية، التي يجعلها خصمًا وحكمًا في آن، ويتصدى من خلالها لشكوكه التي من المفترض أن تطال الوحي ولا تعصمه من الخطأ، كما لا يعد مرجعية منطقية يقاس عليها صلاحية النص الديني، وأي أفكار يتثبث منها إيمانه بخالق أزلي للكون، وبالتالي، يتنازل عن القياس العقلي الذي يزعم تبنيه فضلًا عن حصره الدين والتجربة الإيمانية في الإسلام القرآني.

التصور بأزلية النص، كما يحددها في كتابه، وبوجود تصور خطي له محفوظ في السماء، وكل حرف فيه بحجم جبل قاف، كما شاع في التصور الديني القديم، وهو جبل أسطوري يحيط بالأرض من كافة نواحيها، يحيل إلى تصور ينفي عن الإنسان إرادته وتصادر حريته وتشل حركته غير التي حددتها له السماء، طالما يتداخل الله في التاريخ والزمن بما يترتب عليه من أفعال وحوادث غائية محددة في طريق خلاص العصبة المؤمنة.

ثمة مغالطات شديدة يقع فيها بسهولة وربما بطريقة متعمدة، رجل العلم والإيمان، لتحظى بالقبول الشعبي السريع بالتحريض ضد الفلسفات والمشاريع الفكرية باعتبارها بضاعة "مستوردة"، تشوه قوميتنا العربية الإسلامية وتفسد حضارتنا ويصم رموزها "اليهود" بأنهم تحروا بناء إنسان شهواني غرائزي و"بوهيمية تاريخية". فالإنسان الذي فقد مكانته المتمايزة في الكون بين الموجودات بعد أن أفضت النظرية الداروينية تصوره، كونه قرين الإله أو صورة منه ليجد نفسه حلقة في سلسلة التطور ينتمي للسلالة الحيوانية، لا يعترف بنتائجها ويواجهها بأي نقاش علمي لكنه يكتفي بتلاوة نص الآية من سورة المؤمنون: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين".

يقدم مصطفى محمود نقدّا سطحيًا للماركسية ولأفكار هيجل من دون مراجعة علمية ونقدية مفهومة

لكن هل يصمد منهج مصطفى محمود مع ما بات معروفًا منذ داروين، أن الإنسان ينحدر من القرد، وقد أثبتت الكشوفات العلمية للبيولوجيا النووية في العقود الثلاثة الأخيرة، أنه من القرد الشانبنزي على نحو حصري، وقد استغرقت سيرورة انعتاق الانسان عن شرطه الحيواني، نحو خمسة ملايين سنة، وظهور الإنسان الماهر، الذي ينتصب على قدميه ويستخدم يديه في صناعة الأدوات، ومن ثم، الإنسان العاقل الذي تطورت الفصوص الأمامية للدماغ، التي هي مراكز الفكر المنطقي والرمزي، فبقي الاستثناء أن الدماغ البشري بخلاف الشانبنزي، الذي يلفظ مئات الكلمات، لكنها لا تملك القدرة على التأليف وإنتاج معاني للكلمات.

تعد الماركسية أحد أكثر المذاهب الفكرية التي أفاض في نقدها وشن حملات كثيرة ضدها، باعتبارها دعوى للإلحاد والتعدي على الأديان والمقدسات واستباحة الممتلكات الخاصة، لكن، مصطفى محمود لا يكاد يخرج عن ترديد كليشيهات مستهلكة ومتكررة حول الماركسية، لا تؤهله للحديث عنها أو يرقى بأن يكون قرأها من مصادرها المباشرة. فيردد مقولة "الدين أفيون الشعوب" المشهورة التي أوردها ماركس في كتابه: "نقد فلسفة الحق أو القانون عند هيجل"، كونها اتهامًا جاهزًا ودليلًا على عدائه للدين، والتي اقتطعت من سياقها تمامًا بطريقة مبتذلة ومشوهة، عندما وصف فيها ماركس الدين في كتاباته المبكرة، مادة لتعويض الإنسان عن شقائه الدنيوي وبؤسه وعزاء للمضطهدين دون تحامل أو تجريح.

لا أتوقع أن الفيلسوف والطبيب العائد من رحلة الشك إلى اليقين الإيماني قد قرأ عبارة ماركس في رأس المال "بأن الإنسان يصبح ثريًا بقدر ما يكون لا بقدر ما يملك"، عندما زعم أن المجتمعات الاشتراكية لا تفهم أن الإنسان ليس مجرد بطن وغرائز وأن ماركس يقول بـ"بهيمية التاريخ".

اقرأ/ي أيضًا:

إبراهيم عيسى خارج حظيرة السيسي.. "طباخ السم يذوقه"

السيسي والمثقفون.. الرئيس يبحث عن رجاله