03-يوليو-2018

من عروض مسرح مصر

"كل كتاب لا يهتم بإيقاف الحرب وبخلق مجتمع أفضل، هو كتاب بلا معنى وعديم القيمة، لا يستحق القراءة، فنحن لا نعيش عصر القصص الذاتية"

  • ماكس فريش، كاتب مسرحي وروائي سويسري

 

1

مطلع العام الجاري، احتفل فريق "مسرح مصر" بوصول التجربة التي أسسها الفنان أشرف عبد الباقي إلى العرض المسرحي رقم 100 في مسيرة عروضهم التي بدأت عام 2013، قبل أن يأتي التدشين الأبرز في تلك المسيرة بحجز مكان للعرض في خريطة البرمجة الرمضانية على شاشة "إم بي سي مصر" وتكثيف العمل ومطّه وشدّه لإنجاز ثلاثين عرضًا/حلقة للعرض التلفزيوني كل ليلة. كيف جاءت النتيجة؟ سلق بيض.

لطالما كانت فكرة "الجمهور عايز كده" منطلقًا لكل الشرور التي اختبرها الجمهور المصري، سواء في الفن أو حتى في السياسة!

"مسرح مصر" أصبح ظاهرة فنية فكرية واجتماعية تثير الجدل والتساؤلات عبر نجاحها الجماهيري اللافت (خصوصًا في العامين الأولين من ظهوره وتصاعد الظاهرة لدرجة تخصيص قناة بأكملها لعروضه على وصلات القنوات الفضائية في بعض المحافظات المصرية)، وغزوها الشرس لعقول وقلوب المصريين، المعذبين والمحاصرين بالضغوط والتناقضات والفقر والقهر والفساد، رغم أنه يأتي كجريمة اغتيال فعلية لفن الكوميديا وتفريغ محتواها وتشويه رؤاها، فكيف يمكن قراءة وتفسير هذا "الشيء" وتداعياته؟ وما الذي يمكن أن يُقال عن تجربة كتب عنها الكثيرون، إعجابًا وذمًا، تستمر في فرض نفسها بقوة الأمر الواقع والاستقواء بفكرة "الجمهور عايز كده"، التي لطالما كانت منطلقًا لكل الشرور التي اختبرها الجمهور المصري، سواء في الفن أو حتى في السياسة؟

اقرأ/ي أيضًا: الدراما المصرية.. بؤس الكوميديا

2

  1. "أنا أقدّم مسرحًا متكاملًا يتم تدريسه في جميع أكاديميات العالم، وليس معنى إنني أقدم الضحك للضحك، أن يأتي مَن يقول إن هذا ليس مسرحًا، لأنه لا يستطيع أن يقدّم ما نقدّمه".
  2. "طلب مني أشرف عبد الباقي أن أكون معهم فقلت له سأكتب لك عرضين ونرى، ولم أكن مستوعبًا لفكرة كتابة عرض أسبوعيًا. بدأت معهم بعرض "جماعة منحلة" ثم عرض "سي حسن"، وبعدها أعجبتني الفكرة وقررت الاستمرار في الكتابة والإخراج أيضًا حتى أنهينا الموسم الأول ثم الثاني، وهكذا وحتى الآن قدمت معهم 70 عرضًا مسرحيًا. لو كنت سألتني قبل ذلك هل تستطيع كتابة 20 مسرحية في 20 أسبوع فسأقول لك لأ.. وخاصة أنك ستكتبها وتخرجها وديكورات وملابس.. مسألة مخيفة على المستوى النظري، ولكنني وجدت أن المسالة سارت بتوفيق الله فاستمريت معهم"
  3. "اسكتشات ليست سبة فكل مسرحية عبارة عن مجموعة من الاسكتشات المجمعة، حتى هاملت، وتعريف المسرح الذي تعلمنا هو رجل يقف في كتلة من الفراغ يشاهده رجل من الجانب الآخر. كما أن أي متفرج يجلس لمشاهدة عرض لا يحمل دراما فسينصرف خلال دقائق، وأنا أقدم مسرح تم تقديمه منذ 400 عام اسمه "الفودفيل" ثم ظهر بعده "الكوميدي دي لارتي"، أي كوميديا الارتجال، وهذا ما يدرسونه في المعهد ثم يعترضون عليه ويهاجمونه [..] وأنا أقدم مسرحًا متكاملًا يتم تدريسه في جميع أكاديميات العالم وليس معنى أنني أقدم الضحك للضحك أن يأتي من يقول إن هذا ليس مسرحًا لأنه لا يستطيع أن يقدم ما نقدمه، وعمومًا المسرح يجب أن يكون به تنويع فليس مطلوبًا أن يقدم الجميع عروضًا جادة وعالمية".
  • نادر صلاح الدين، مؤلف ومخرج "مسرح مصر"، في حواره مع جريدة القاهرة المنشور بتاريخ 25 نيسان/ أبريل 2017.

 

3

هذه الرؤية المسكونة بدفاع محموم عن قضية مراوغة، تفرض التوقف أمامها طويلًا، للبحث والتقصّي في أسباب ذلك اليقين الذي يتحدث به صاحبه عن تجربة فنية أدت بعروض الكوميديا إلى أن تصبح في حالة لا يُرثي لها، بعدما انجرفت في طريق رصف الإيفيهات اللفظية وحشد العرض بأغاني المهرجانات دون أي مبرر درامي واعتماد الارتجال غير المحسوب أساسًا للتمثيل على خشبة المسرح، فضلًا عن افتقار تلك العروض للحد الأدنى من مقومات العمل المسرحي الجاد، فلا شخصيات مرسومة ولا أبعاد نفسية أو اجتماعية يمكن العثور عليها لتبرير كل تلك الأفعال العبثية التي تراها على المسرح/الشاشة، ولا منطقية في طرح الحدث وتطوره، وخاتمة البلايا تلك الرسالة الخطابية التي تختتم العروض لتوعظ وتكشف المغزى من العرض، في نمط يصلح لمشاهدين لم يكتمل نموهم العقلي بعد. هؤلاء المشاهدون تحديدًا هم من ستستمع إلى قهقهاتهم وتصفيقاتهم الحادة كردّ فعل دوري يُفعّل كل بضع دقائق، حتى إن كان مصدر ذلك الصخب سخرية عنصرية يلقيها أحد الممثلين في وجه زميله الآخر، الذي سيحاول بدوره الدفاع عن نفسه مستجلبًا ضحكات جمهور الصالة.

مسرح مصر

برتولد بريخت يقول إن مجرد التفكير في كتابة مسرحية أو إخراجها هو إعادة لتنظيم الدولة واشتباك مع الفكر والأيديولوجيا وقضايا الناس، فالفن تجربة فريدة لا تقبل التجزيئ يظل أثرها باقيًا يخدش الأعماق ويثير الوعي والإدراك. وموليير، مؤسس الكوميديا دي لارتي التي يذكرها مؤلف "مسرح مصر" في دفاعه، يعيد التذكير بأهمية المسرح في تربية الأحاسيس الجمالية لدى المتفرج وشحذ وعيه النقدي بمحيطه، وهي أمور سيكون الادعاء بتوفّر "مسرح مصر" عليها بمثابة تضليل كبير، فضلًا عن أن هذا النوع، كوميديا الفن، تتميز بخصائصها الجوهرية، فهي لا تتخلّى أبدًا عن الموضوع الواحد الجاد، ولا عن الهدف من تشريح المجتمع والنفس الإنسانية في شرطهما الوجودي، ولا عن الدعوة إلى منظومة قيم إنسانية وأخلاقية تتجاوز كل مفاهيم التزييف والتلفيق التي يحفل بها "مسرح مصر" وأمثاله.

برتولد بريخت يقول إن مجرد التفكير في كتابة مسرحية أو إخراجها هو إعادة لتنظيم الدولة واشتباك مع الفكر والأيديولوجيا وقضايا الناس

اقرأ/ي أيضًا: محمد الموجي.. طريق مختصر إلى القلب

وبعيدًا عن رؤى موليير وفلسفة بريخت وقيم المسرح ومعاييره وآراء النقاد والأكاديميين، فإن الإضحاك ليس عيبًا في حد ذاته، وليس مطلوبًا من نادر صلاح الدين أو أشرف عبد الباقي تقديم مسرحيات "عالمية"، لسبب بسيط وبديهي يعرفانه جيدًا، لكن في الوقت نفسه من غير المقبول الدفاع والتبرير المراوغ لمنتج فني هو "سبّوبة" لكسب العيش في أفضل الأحوال. اعتماد الإسفاف والحكم بالإعدام على المعنى والدلالة والهدف وفتح المسار أمام السخف والاهتراء والزيف والتضليل والاستهانة المطلقة بعقول الناس، هي جرائم تستحق التوقف عن ارتكابها في أسرع وقت، والاكتفاء بما اكتسبه كل مَن شارك في هذه التجربة من شهرة ومكاسب مادية، لأن تداعيات فيروس "مسرح مصر" لم تقتصر على المسرح فقط ومحاولات بعض البائسين تقليده، بل أصابت العدوى التلفزيون والسينما أيضًا، فتم استغلال الشهرة التي حققها شباب الفرقة في بطولات أفلام ومسلسلات، لن يتبقى منها أي شيء بعد مشاهدتها.  

4

"مسرح مصر" متهم بإفساد الذوق العام. والتهمة وإن كانت فضفاضة بعض الشيء، وتُغيّب الطرف الآخر من المعادلة، أي الجمهور الذي أعطى النجومية والشعبية لأبطال "مسرح مصر"، إلا أن الأساس الأكثر تعيّنًا وتحديدًا يبقى المنتَج الفني وصنّاعه، وليس الجمهور الذي يصعب حصره واستجلاء أسبابه ودوافعه للإقبال على هذه التجربة المسرحية، فضلًا عن غياب الإحصائيات الموثوقة لتفصيل وبيان خلفيات ذلك الجمهور. يمكن الحديث طويلًا عن حالة فقر إبداعي يعانيها فن التأليف المسرحي، بنفس القدر الذي يمكننا الإشارة إلى رغبة الجمهور في التخفيف من وطأة الظروف المعيشية وضغوطات الحياة، لكن كل ذلك سيكون حديثًا افتراضيًا وانطباعيًا.

 ما لدينا هو "مسرح مصر" نفسه ومَن يقف ورائه من منتجين وممثلين ومؤلفين ومخرجين وتقنيين، اتفقوا على تقديم عروض مسرحية تغيب فيها قيم المسرح وفلسفة الكوميديا. كل العروض التي شاهدناها في رمضان، ومن قبله، لا تنتمي للمسرح ولا الفن بأية صلة، باعتبارها تيارًا من الابتذال والخروج السافر عن أصول الكوميديا بكل مذاهبها ومدارسها واتجاهاتها. أشرف عبد الباقي هو الأب الشرعي لهذا التيار، بعدما أدار ظهره لمحاولاته القديمة الدؤوبة في فرض نفسه ككوميديان شعبي، وعلى الأرجح أنه غير مهتم بوجوده في الزاوية الحرجة التي تفرض عليه - كأي فنان يحترم نفسه- مواجهة نفسه بحقيقة الخسائر الثقافية والاجتماعية والآثار السلبية التي تبعثها هذه الأحمال.

أعلن عبد الباقي منذ البداية أن هدفه الضحك للضحك، تمامًا مثل المؤلف نادر صلاح الدين، لكن يبدو أن تزييف الرؤى والمفاهيم يظل سهلًا ومستباحًا. في هذا الإطار، تعاون عبد الباقي مع صلاح الدين في تقديم عرض جديد كل أسبوع، وكوّنا فرقة من شباب الهواة، يمتلك بعضهم طاقات واعدة، وشاركهم عبد الباقي في كل الأعمال ولم يهتم بالبطولة المطلقة. وفي هذا الإطار تبدو النوايا الظاهرية طيبة، فالشباب بالطبع أمام فرصة حقيقية كي "يظهروا": جمهور كبير، تصوير وعرض على قناة فضائية غنية، وتجاوز مثير لإشكاليات مسرح الدولة والمسرح المستقل ومسرح الهواة وأي صيغة منظمة ممكنة في الحقيقة، من حيث الدعاية والأضواء والشهرة. الجمهور أقبل على هذه العروض التي تقدّم "هلسًا" خفيفًا بريئًا بعد موجة من "الفرهدة" والاستهلاك الذهني والنفسي في السنة التالية لثورة يناير وحكم المجلس العسكري طيلة سنتين ونصف. ليس صدفة، أن ظهور "مسرح مصر" جاء متزامنًا مع فرض حالة الطوارئ، وبداية النهاية لتجربة وحالة باسم يوسف، الذي لم يستفد "مسرح مصر" منه إلا باختفائه عن الشاشة، ولم يحاول الاقتراب من منطقة تجلّيه الأبرز: السخرية السياسية.

مسرح مصر

هناك خطوط حمراء وخضراء وسوداء يضعها "مسرح مصر" لنفسه، يلعب في المضمون، وبحسابات محددة: النكات الجنسية بحدود، السخرية العنصرية والتهكمات على خلق الله مرتبطة بمدى تقبل المزاج العام لها، الحبكات السهلة حاضرة، الوجوه المحبوبة تأخذ مساحة أكبر على الخشبة. بوووم. نجاح ساحق، مستمر، متصاعد، من خلال خلطة جاذبة للشباب والأطفال والكبار. معادلة عسيرة التوازن، صنعها نجم فريق العمل مع المؤلف والمخرج حين أعلنوا العصيان على الفن والكوميديا ومفاهيم الضحك، وقدّموا أعمالًا لا تمتلك أي مقومات فنية: ليس هناك نص ولا كتابة ولا إخراج ولا تمثيل ولا ميزانسين، كل المفردات بدائية مسطحة ومختزلة، والشباب يفتقدون أبجديات الخبرة وجماليات الأداء والحركة، لكنهم نجحوا بامتياز في لفت الانتباه وإثارة الضحكات البلهاء الفارغة، وضحك معهم الجمهور بشراسة، ليكرّسوا جميعًا رحلة ممتدة من السقوط الفادح المتباهي بسلطة الانتشار.

أين تقع تجارب "مسرح مصر" من أسئلة الديمقراطية والحرية والعدالة وسط سيول الاستظراف المجاني؟ وأين الفن والجمال والوعي والإرادة والأحلام؟ 

اقرأ/ي أيضًا: تحرير الأسدي.. ميراث خشبة مسرح الإغريق

يظل هذا التيار القوى مشروعًا تجاريًا ناجحًا، يتصاعد ويبحث عن مزيد من الأرباح، عبر تقديم هراء مخيف، تتغذّى مقبوليته على افتقار جمهوره للوعي والحسّ السليمين. يغيب المسرح ورسالته، المسرح كحرية وإرادة واختيار، وفن وفكر وفرحة وإبهار، كتجربة جمالية تفتح أبوابًا وتبقى بداخل جيل طالع، كممارسة علنية لفعل الحرية والحث على التغيير ونقد الواقع والتحاور معه، كقدرة على خلخلة الرؤى الساكنة وتحدى التوجهات السائدة. أين تقع تجارب "مسرح مصر" من كل ذلك؟ وأين هي أسئلة الديمقراطية والحرية والعدالة وسط سيول الاستظراف المجاني؟ وأين الفن والجمال والوعي والإرادة والأحلام؟ وأين حرارة الكوميديا وجوهرها ومشاغبتها واحتفالها المثير بالحياة؟ الموسم الرابع سيجيبك إن شاء الله.

 

5

علي ربيع يلخّص كل شيء هنا:

اقرأ/ي أيضًا:

بنات بغداد.. التداوي بالمسرح

وهيبة باعلي.. تجسّد رغبة الصحراء الجزائرية في التمسرح