07-ديسمبر-2015

الأنسنة عند أركون هي إحلال الرؤية الإنسانية العقلانية للعالم والإنسان بدل الرؤية اللاهوتية المغلقة (AFP)

ينتمي المشروع الفكري لمحمد أركون للحركة الفكرية العربية المعاصرة التي تهدف إلى مراجعة الكثير من القضايا والمسلمات في مجال الثقافة العربية الإسلامية، وهي الحركة التي دشنها رواد النهضة الأوائل في القرن التاسع عشر في مصر والشام والمغرب العربي.

ينتمي المشروع الفكري لمحمد أركون إلى الحركة التي دشنها رواد النهضة في القرن التاسع عشر

لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟ هذا هو السؤال الذي أطلق شرارة البحث في الأسباب الظاهرة والخفية للتأخر التاريخي الذي تعاني منه المجتمعات العربية الإسلامية، فبالإضافة إلى ما قام به علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع في رصد هذه الحالة ومحاولة تشخيصها واقتراح الحلول لتجاوزها، أخذ هؤلاء المفكرون الذين يمثلون النخبة على عاتقهم الحفر في المجال الفكري والثقافي علهم يجدون ما يشير إلى العوامل التي أدت إلى الوضع المشار إليه.

نذكر من هذه الأسماء: عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي ومحمد أركون وهشام جعيط وفؤاد زكريا وحامد نصر أبوزيد ومحمود أمين العالم والطيب تيزني وصادق جلال العظم وحسين مروة وهشام شرابي وإدوارد سعيد.. إلخ، كل من زاوية تخصصه واهتماماته وظروفه التي يعيش في إطارها. وذهب معظمهم إلى أبعد الحدود في الحفر والتنقيب.

ومحمد أركون هو نموذج المثقف الباحث والمفكر الذي ساعدته إقامته في الغرب على اقتحام موضوعات كان من الممكن عدم الاقتراب منها لوكان يعيش في بلد عربي مثل بلده. إن تواجده في فرنسا وانخراطه في الساحة الثقافية الفرنسية بحثًا وتدريسًا سمح له أن يعبر بكل حرية عن قناعاته الفكرية وعن مواقفه التي تغذت بالمناخ الفكري والسياسي هناك. 

كما أن تواجده هناك سمح له كذلك الاطلاع عن قرب على كل المستجدات والفتوحات كما يقول في جميع أصناف المعرفة الإنسانية، بالإضافة إلى علاقاته مع عمالقة الفكر والسياسة والأدب والعلم. لهذا فقارئ كتابات أركون يجد نفسه أمام كم هائل من المستجدات المعرفية، تارة تكون على شكل عرض كتب جديدة، وتارة على شكل توضيح المفاهيم التي يستخدمها مفاهيم وإضاءتها انطلاقًا من تلك المستجدات المعرفية.

كرّس محمد أركون نفسه للبحث عن مخرج للثقافة العربية من الفضاء العقلي للقرون الوسطى

لقد أعلن أركون من خلال كتبه ومحاضراته المتعددة والغنية عن فتح أوراش ضخمة يصعب على شخص، بل على مجموعة من الأشخاص الانخراط فيها، وقد كان واعيًا بذلك حيث كان يدعو باستمرار المثقفين العرب إلى الانخراط في هذه الأوراش، بل كان مقتنعا بأن جيلًا بكامله غير قادر على القيام بذلك فالأمر يتعقل بأجيال ومسيرات فكرية قد تطول، ولكنها حتمًا ستصل إلى نتائج وستؤدي إلى الهدف المنشود، أو على الأقل ستفتح الباب للخروج من الانسداد التاريخي الذي تعيشه هذه الشعوب.

كرس محمد أركون حياته الفكرية والعلمية من أجل إنجاز ما اعتبره مهمة تاريخية تتجلى في البحث عن مخرج للثقافة العربية من الفضاء العقلي للقرون الوسطى والدخول في الفضاء العقلي للعصور الحديثة، معتبرًا بأن عنوان هذا المشروع هو القيام بعملية نقد جذري للتراث الثقافي العربي الإسلامي، مدركًا بأن هذه المهمة ليست بسيطة وإنما تحتاج إلى معركة مفتوحة وشاملة وعلى عدة مستويات.

وفي نفس الوقت حاول أن يقرأ الثقافة الغربية التي يستقي منها مادة مناهجه قراءة نقدية ومن هنا يمكن القول بأن أركون يمارس ما أسماه الخطيبي بالنقد المزدوج، فمن جهة يقوم بتفكيك مكونات الثقافة العربية الإسلامية قصد الكشف عما أسماه باللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه، ومن جهة أخرى يمارس نقدًا للثقافة الغربية خاصة في تبنيها لمفهوم المركزية الغربية وتعاملها مع ثقافات الشعوب الأخرى من هذا المنطلق. لكن هذه الاستراتيجية النقدية التي يعتمد عليها رغم تعددها وتنوعها فهي استراتيجية واعية بحدود تلك المناهج التي يستدعيها الباحث من أجل ممارسة فعل الحفر والقراءة.

يرى أركون بأنه لا يمكن أن ندخل عصر الحداثة ونحن لم نقم بنقد جذري وشامل لماضينا وتراثتنا الثقافي والفكري، هذا النقد ينبغي أن يكون نقدًا تاريخيًا نستعين من أجل تحقيقه بكل ما أنتجته العلوم الإنسانية المعاصرة من علم نفس تاريخي وأنثروبولوجيا وسوسيولوجيا وتاريخ الأديان ولسانيات. فماضينا موغل في البعد وتفصلنا عنه عصور جيولوجية طويلة، مع العلم أنه لايمكن لطرف واحد أن يقوم بذلك، فالمسؤولية جماعية وغاية في الصعوبة والخطورة في نفس الوقت. إن محمد أركون يدعو إلى إقامة أوراش ضخمة للدراسة والبحث في مختلف مكونات هذا التراث الذي يجثم علينا. نحن لانخجل عندما نقول معه بأننا لازلنا نعيش في مرحلة العصور الوسطى، والفرق واضح وجلي بين عصور الحداثة والعصور الوسطى.

يرى أركون بأنه لا يمكن أن ندخل عصر الحداثة ما لم نقم بنقد جذري وشامل لماضينا وتراثتنا الثقافي والفكري

الأنسنة عند أركون هي إحلال الرؤية الإنسانية العقلانية للعالم والإنسان بدل الرؤية اللاهوتية المغلقة، وهذا يقتضي إعطاء قيمة للإنسان واعتباره غاية ومصدرًا للمعرفة يفتح آفاقا جديدة لمعنى السعي البشري لإنتاج التاريخ. هذا هو الشرط الأساس لتحرير العقل من القيود التي كبلته على مر العصور، وبالتالي فتحه على التأويل الحر لذاته وللعالم. الأنسنة معناها إذن أن مركز الاهتمام ينبغي أن يكون هو الإنسان الحر، وهو في نفس الوقت المرجع لكل قراءة وتأويل.

إذن، فالمهمة صعبة لأن الأمر يتعلق بالتفكيك أولا قبل التركيب والبناء الجديدين، لا بد من تفكيك المسلمات الدوغمائية والتي تفرض نفسها كحقيقة مطلقة تجثم على السجناء داخل السياجات الدوغمائية المغلقة. عمومًا تصعب الإحاطة الشاملة بالترسانة المفاهيمية التي اعتمدها أركون من أجل استنطاق الجذور التاريخية للعقل الإسلامي، والكشف عن مضمراته وآليات اشتغاله، وبالتالي الكشف عن المبادئ التي تأسس عليها هذا العقل في مراحل تأسيسه الأولى. لقد فتح الراحل محمد أركون أوراشًا كبرى في الفكر العربي المعاصر تحتاج إلى تضافر الجهود والعمل الجماعي لتحقيق تلك الأهداف.

اقرأ/ي أيضًا:

الإسلام المغربي.. تسييس وأصولية

في الحاجة إلى العلاج النفسي الوجودي