27-ديسمبر-2016

العميد سالم كردون أثناء تقديم شهادته في ثالث جلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد في تونس (يوتيوب)

"كنت ضابطًا ساميًا في الجيش التونسي فأصبحت خرّيج سجون" بهذه الجملة اختزل العميد المتقاعد سالم كردون مأساة قصته التي عرضها أمام التونسيين في ثالث جلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد، التي تنظمها هيئة الحقيقة والكرامة في تونس. وتمثل شهادة العميد كردون نموذجًا للانتهاكات من نظام المخلوع بن علي التي لحقت بـ244 من رجال الجيش التونسي فيما يُعرف بـ"قضية براكة الساحل" بداية التسعينيات.

قضية براكة الساحل سنة 1991، تبين بعد الثورة، أنها من فبركة من نظام بن علي للتخلص من عدد من القيادات العسكرية وتحجيم دور الجيش

اقرأ/ي أيضًا: رشيد عمار.. تفجير السردية التونسية

صفحة سوداء في تاريخ الجيش التونسي

كان العميد سالم كردون ضابطًا ساميًا متميّزًا ضمن نخبة قيادات الجيش التونسي، حيث كان من أوائل دفعته في الدورات التكوينية في الولايات المتحدة والجزائر، وقد تحمّل عديد المسؤوليات طيلة مسيرته كان آخرها مساعد آمر مركز الدفاع المضاد للطائرات بثكنة بالعاصمة التونسية. لم يكن يوم 6 آيار/مايو 1991 يومًا عاديًا في عمله، حيث وجهه آمره إلى وزارة الدفاع ولكن تم منعه من الدخول لوحده حيث اقتاده أحد زملائه، الذي تم اعتقاله لاحقًا بدوره، لإدارة الأمن العسكري. وأعلمه أحد زملائه أنه متورط في قضية انقلاب عسكري ونصحه بالاعتراف بدل تعريضه للتعذيب، وهو ما رفضه العميد كردون.

وذكر العميد في شهادته أنه تم اقتياده يومها من طرف 4 مدنيين بزي غير رسمي لوزارة الداخلية، مشيرًا إلى أنه لا يزال لا يعلم لليوم إن كان هؤلاء يتبعون إدارة الأمن العسكري أم إدارة أمن الدولة. وقال إنه تم نزع زيّه العسكري بالقوّة وألبسوه بدلة زرقاء لتنطلق مأساة عاشها العميد، وامتدت لقرابة ربع قرن بداية من التعذيب والمحاكمة غير العادلة والسجن والرقابة الإدارية والمنع من الارتزاق وغيرها من الانتهاكات.

حيث اُتهم العميد كردون بقيادته لمجموعة عسكرية فيما يعرف بـ"قضية برّاكة الساحل" وذلك نسبة لقرية تقع في ضواحي مدينة الحمامات، 50 كلم جنوب العاصمة، قيل إنها كانت مقر اجتماع عسكريين للتحضير لانقلاب وفق رواية نظام بن علي. وقد عقد وقتها وزير الداخلية السابق عبد الله قلال ندوة صحفية بتاريخ 22 آيار/مايو1991 أعلن فيها الكشف عن مخطط مزعوم لانقلاب عسكري من إعداد عسكريين صحبة مدنيين وهم قيادات من حركة النهضة الإسلامية.

لم يكن المخطط المفبرك من نظام بن علي والذي تبيّنت لاحقًا زيف ادعاءاته إلا عملية للتخلص من عدد من القيادات العسكرية وتحجيم دور الجيش، إضافة لمزيد من تبرير الحملة الأمنية القمعية ضد المعارضة التي انطلقت بداية التسعينيات وتواصلت حتى اندلاع الثورة.

رغم إطلاق سراح أكثر من 150 عسكريًا من جملة 244 تم إيقافهم، ومحاكمة البقية وسجنهم قبل الإفراج عنهم لاحقًا، تعرّض جميع ضحايا "قضية برّاكة الساحل" طيلة عهد بن علي للتضييق والتنكيل، حيث تم عزلهم من وظائفهم العسكرية وحرمانهم من التمتع بحقوقهم المدنية.

كانت القضية اغتيالًا لشرف الجيش التونسي الذي تورّط عدد آخر من قياداته في المساهمة في المسرحية التي أعدّتها الأجهزة الأمنية لبن علي. لم يقم حتى الأمن العسكري بالتحقيق في الانقلاب المزعوم وفق ما تفترضه قوانين البلاد، بل تولّت وزارة الداخلية وتحديدًا جهاز أمن الدولة التحقيق والإشراف على جميع خيوط القضية، فيما مثّل شاهدًا على تغوّل وزارة الداخلية طيلة حكم بن علي على حساب المؤسسة العسكرية التي تم تهميشها وإضعاف دورها.

بعد 2011، قام بتقديم دعاوى ضد القيادات المتورطة في فبركة المخطط الانقلابي المزعوم، حيث تم توجيه تهم التعذيب لقيادات الداخلية وقتها وعلى رأسها وزير الداخلية السابق عبد الله قلال، كما تم الحكم غيابيًا على المخلوع بن علي. وتمكّن العسكريون الضحايا من استرجاع حقوقهم المدنية من وزارة الدفاع رغم تلكؤ قائد الأركان رشيد عمار، الذي كان مديرًا للأمن العسكري بداية التسعينيات.

وقد تبنّى الرئيس السابق المنصف المرزوقي هذه القضية حينما قدم سنة 2012 اعتذارًا رسميًا باسم الدولة للعسكريين الضحايا، وردّ الاعتبار إليهم بمنحهم الزيّ العسكري في حفل خاصّ انتظم بقصر قرطاج حينها.

كانت قضية براكة الساحل اغتيالًا لشرف الجيش التونسي الذي تورّط عدد آخر من قياداته في المساهمة فيها

اقرأ/ي أيضًا: التعاون الجزائري التونسي.. في دائرة النار

تعذيب إلى درجة تمني الموت

لم يكن ردّ الاعتبار بعد الثورة وإعادة الزيّ العسكري للعميد كردون إلا الخاتمة المرجوّة لمأساة انطلقت منذ يوم نزع زيّه، الذي يمثل شرف العسكرية، واقتياده للتحقيق على يد أجهزة أمن الدولة. حيث تعرّض العميد لـ"مختلف أنواع التعذيب الوحشية" إلى درجة تمنّيه الموت، وأشار في شهادته إلى تعرّضه إلى الضرب والصعق بالكهرباء في أماكن حساسة من الجسم والاستنطاق المطوّل في أوقات مختلفة من الليل والنهار، وهو ما خلّف له أضرارًا بدنية جسيمة حيث تم تقدير نسبة السقوط في بدنه لـ55%.

حيث تعرضّ لنزيف دموي وثقب بمعدته وتقطّعت أوتار عضلاته، وتم تمزيق الخصيتين حتى بات غير قادر على الإنجاب لاحقًا. وقد قامت الأجهزة الأمنية وقتها بنقله للمستشفى العسكري حيث أقام لمدّة باسم مستعار هو سالم الكواش وذلك للتمويه أمام الطاقم الطبي.

وتم لاحقًا إحالته للقضاء العسكري ورفض القاضي تدوين تعرّضه للتعذيب رغم معاينة آثاره على جسد الضحية. وانطلقت محاكمة العميد كردون رفقة 92 عسكريًا من زملائه بعد إطلاق سراح البقيّة، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة 3 سنوات بتهم الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة إضافة إلى محاولة اغتيال رئيس الجمهورية والمشاركة في ذلك وتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والانتماء إلى جمعية غير مرخص فيها.

وقد شابت هذه المحاكمة خروقات عديدة بداية من إخضاع المتهمين للتحقيق من طرف أمن الدولة في حين أنه يوجد جهاز تحقيق خاص بالعسكريين، وذلك بالإضافة إلى تعرّض الضحايا للتعذيب الوحشي لانتزاع الاعترافات عنوة. وقد تواصلت معاناة العميد كردون في السجن من خلال هرسلته ومعاملته بطريقة قاسية ومهينة، حيث تنقل بين 4 سجون في ظرف 3 سنوات، وذكر أن ظروف السجن كانت سيئة للغاية بسبب الاكتظاظ ومنعه من الاستحمام لدرجة أنه قال إن "رائحته كانت لا تطاق" بسبب ذلك.

لم تنته معاناة العميد بانتهاء مدة محكوميته، حيث تواصلت بأشد وطأة بعد خروجه من السّجن من خلال المراقبة الإدارية حيث كان يضطرّ للتوجه لمركز الأمن لثماني مرات في اليوم الواحد من أجل الإمضاء الدوري وذلك طيلة خمس سنوات، وكان يعاني من كوابيس مما اضطرّه للعلاج لدى الأطباء النفسانيين. إذ تواصلت الانتهاكات بحقه طيلة السنوات اللاحقة من منع من العمل وهو ما أدّى لتدهور وضعه المالي، إضافة للمراقبة الأمنية اللصيقة والمداهمات على منزله، بل تم إيقافه يوم 24 كانون الأول/ديسمبر 2010 أي بعد أسبوع من اندلاع الثورة في محافظة سيدي بوزيد.

"أنا أكبر منتفع بالثورة ولدي 3 طلبات"

حينما كانت الدموع تنهمر بين الحضور وهم ينصتون لشهادة العميد كردون، حتى باتوا مباغتة يبتسمون بل ويضحكون وذلك منذ أن انطلق العميد المتقاعد في سرد معايشته للثورة، التي قال عنها مفتخرًا إنه "أكبر منتفع بها في تونس"، لأنها وضعت حدًّا للانتهاكات بحقه. حيث قال العميد كردون في غمرة وصف نشوته باندلاع الثورة إنه كان أيامها يأخذ سيارة أجرة ويطلب من السائق إيصاله لأي مكان توجد به مظاهرات للمشاركة فيها. ذكر أنه كان يهتف مع المحتجين "وزارة الداخلية وزارة إرهابية". يسرد العميد كردون ذلك مبتسمًا ويضيف أنه كان يذهب كل صباح لمقرّ التجمع، الحزب الحاكم المنحلّ، ليشفي غليله بصورة المقرّ المحترق حينها.

وحول طلباته، ذكر العميد كردون في نهاية شهادته أنه يطلب كشف حقيقة "قضية براكة الساحل"، داعيًا القيادات الأمنية والعسكرية في تلك الفترة إلى تقديم تفسيراتهم حول ما حدث. كما دعا هذه القيادات للقيام بـ"نقد الذات" لعدم تكرار الانتهاكات في المستقبل. وطالب ثالثًا بجبر الضرر، مشيرًا إلى أنه لم يستردّ راتبه المالي إلا منذ شهر تموز/يوليو 2015 دون استرداد بقية مستحقاته المالية منذ عزله من الجيش. وفي هذا الجانب، أشار أن التعويض لن يرجع له ماضيه متحسّرًا "كيف يمكن تعويض تفويت حقي في الإنجاب؟".

ودعا العميد في نهاية شهادته للاستجابة لهذه المطالب من أجل الوصول لـ"مصالحة حقيقية بعيدة عن التشفي والانتقام". وتوجّه للجلّادين الذين عذّبوه بالقول "تعالوا وقدّموا اعتذاركم ونحن سنسامحكم"، وأضاف "أنا ذقت الآلام والسجون فلا أقبل بتشريد العائلات".

وقد لقيت هذه الشهادة صدى واسعًا مساء احتفاء التونسيين بالذكرى السادسة لاندلاع الثورة يوم 17 كانون الأول/ديسمبر، فلم تكن مأساة العميد كردون إلا واحدة من بين عشرات آلاف مآسي التونسيين الذين قهرهم الاستبداد وآلته القمعية. فقد أماطت هذه الشهادة التاريخية اللثام على "قضية براكة الساحل" التي مثلت نموذجًا للانتهاكات الجسيمة التي مست مئات الأبرياء، إضافة لاستغلال بن علي لهذه الحادثة المفبركة لتحجيم المؤسسة العسكرية، التي لم تسترجع مكانتها إلا بعد الثورة.

ويظل السؤال دائمًا حول تحقيق الهدف الأسمى للعدالة الانتقالية في تونس وهو المصالحة الوطنية والتي تستلزم قبل تحقيقها كشف حقيقة الانتهاكات وتحمّل الدولة لمسؤولياتها عبر المحاسبة، وهو سؤال تبدو إجابته ضبابية في ظلّ غياب الدعم السياسي لمسار العدالة الانتقالية وهو ما عكسه غياب قيادات الدولة وأولها رئيس الجمهورية على مواكبة جلسات الاستماع العلنية.

اقرأ/ي أيضًا:

شهادات ضحايا الانتهاكات بتونس.. قصص الألم والعبر

وثائقي "حريق باب سويقة".. حريق الأسئلة من جديد