04-يوليو-2018

مسجد مدينة بوبوديولاسو

كتابُ السُّودان

  • أشياء قالها لي خليل أفندي فرح (1)

1

هوى الجدارُ الذي استندتُ عليه، وفيما نهضتُ نهوضَ المشلول شعرتُ صلابةَ الحجارة طريةً، وقبل استيعاب شيءٍ هبّتْ من شاشة الصالون أغنية "عَزَّة في هواك"، فسِرْتُ مذعورًا فوق بلاط صار طينًا يميد تحت قدميَ، وحين استطعتُ عبور الممرّ الذائب وإطفاءها احتلَّ الشاشة طيفٌ أسودُ بهالةٍ حمراء.

 

تراجعتُ،

ما الخطأ؟

أهو في الأشياء أم فيّ؟

وقبل الجواب صار سواد الطيف وجهًا نوبيًّا، والأحمر طربوشًا.

 

- من أنتَ؟

- أغنيةٌ تستعيدُ ماضيًّا يستعيدُ ماضيًّا، عساها تصل أوّلَ الأيام.

- منذ متى والأغاني تُرى؟

- ثمّة إيقاعاتٌ تخلق بصرًا، وأخرى تُغلِق بصائر، شرطُها أن تكون للإيقاع كلماتٌ تُنطَقُ مثلما للكلمات إيقاعاتٌ تنقرُ.

- هذا لغزٌ؟

- قل بداهةً.. تعال.

وشدّني إليه. ذاب البيت، ذاب العالم، لم أعد أرى سوى ألوانٍ تتداخلُ في ألوان، ثمَّ سقطتُ في أم درمان لأشهد بُنَاتَها الأوائلَ يضعون أولى مداميك حجارتها فوق سرابٍ، وكلما أنجزوا تشييدَ حائطٍ فيها اختفى.

ركضتُ لم أدرِ كم قضيتُ في هروبي، وحين أمّنتُ بالنجاة وجدتُ نفسي سائرًا في سوقها، ها هي ذي المدينةُ الآن كاملةٌ، وساكنَتُها يرتدون دشاديش بيضًا ليبدوا من بعيدٍ سرابًا سعيدًا يُحيي السرابَ الأمّ.

 

2

علّمتني صنعةُ البريد أنّ الأمكنة وأهلها رسائل تُفضّ بالتجوال أو بصحبةٍ، وحين تمكّنتُ من العود فسّرت لقاء النيلين في المدينة الثكلى، حتى غدا التفسير مبدأً يحملهُ صحبي، أفنديةً وعامةً: نيلٌ يأتي لاجئًا، ممزّقَ الأوصال، ليلملم أشلاءه في مجرى واحد هنا، لهيَ رسالةٌ.

قال قائلٌ: لا أظنّها استعصت على السودان، فقلتُ: لعلّه مثلنا، نحن غرباءَه، تعلّمَ اللغةَ راشدًا، فقالوا: ليكن النهرُ بريدنا إلى مصر.

 

3

رأيتُ كلَّ السراب الذي رأيته من قبل امرأةً واضحةً تُلهِبُ الشوارع فالتحقتُ بها، ومثلَ كلّ السائرين وراءها مسّني ما مسّهم فهتفت لحظة هتفوا: البلاد ناقةٌ، فيا أمّ الضفائر قُوْدي رَسَنَها.

 

عقروا ناقةَ السُّود.

وزّعوا الأصحاب بين مقابر ومصحات

ليقال إنّ من غنّوا يومَ الغناء

إما موتى أو مجانينْ.

 

صرتُ طيفًا أزور البيوت لأروي لأهلها الحكاية

فلا يسمعني غير حجارتها التي تعود طينًا.

 

4

سنواتٌ يصخبُ في رأسي العويل

سنواتٌ أتناوب والمدينةَ على البكاء في حُجر الآخر.

سنوات أعاف الطعام حتّى سقمتُ.

 

حين أكملتْ نهايتي نهايتَها، جمعتُ ما استطعت من أوتار، وربطتها بين نخلتين على ضفتي النيل، ورحتُ أقفز فوقها

مؤلّفًا وعلاماتٍ وعازفًا

غناءً وأغنيةً ومغنّيًا

أقفز صارخًا والنهرُ والأشجارُ والمراكبُ والصحراءُ كورال:

عَزَّةُ لونُ الطمي يعمّد جلودنا بطين الصبر

عَزَّةُ حزب الطبيعةِ، حزبُنا، تتغيّر الخرائط والملوك والرايات، وتبقى الأنهار والنوق والشياه على عاداتها الأولى.

عَزَّةُ ألسنةٌ وطوائف وقبائل طحنتها ألسنةٌ وطوائف وقبائل، وظلّ السؤال عمّن نحن يدمي أفواه من ينطقونه.

عَزَّةُ صراخ الدور تحت الأمطار في الأرياف، فليست تقوى على ترميم حائط بأكثر من صراخ.

عَزَّةُ البنات الحالمات، المولوداتُ إماءً كي يعتقنَ بالزواج.

عَزَّةُ الأطفال يفلسفون العالم باللعب.

عَزَّةُ الحبُّ إذ ينتهي.

عَزَّةُ اللاجئون من السُّودان واللاجئون إليه.

عَزَّةُ السُّودان وهو يتلاشى.

 

تميمةُ الغياثيّ (2)

أيُّها الغرباءُ العابرون شعابَ الجبال قصّروا خطاكم قليلًا لتلتحقَ بكم كلماتُ العجوز البطيئةُ، قصّروها فكلماتُ المسنّين تمشي مثلهم على عكاكيز، فإذا ما جاءتكم صدىً خذوها وبلّغوا أهلَ الأرض عن الأب المخذول.

أيّتها الكلماتُ، لا تبالي بانتحالكِ، لا تكترثي بحرب الرواةِ على نَسْبِكِ إلى قائلٍ، اعبري هادئةً من فم إلى فم ما دامت هنالك أفواه في الوجوه، حتى تصلي إلى أولادي وتأخذي بثأري، عسايَ أغمض عماي مرتاحًا هنا، محلّ الخيمة التي غزلتُ جدرانها ونجّرت عواميدها، حتى لو أخذوها ورموني في العراء في رسمٍ كان بيتي يومًا.

مرّت السنوات أمنّي نفسي بعودتهم، إلى أن بات قهري القديم سمًّا في كل كلمة تخرج من شفتيَ، فيا أيها الغرباء، ويا أيّها العابرون، اسمعوها جيّدًا واحملوها محاذرين السمّ في حروفها:

يحلُّ الأطفال ضيوفًا على آبائهم، فيُكرمون وفادتهم طوال السنوات التي تحتاج فيها الصحراء لتصنع بضع خزامى، على أنّ الزيارة حقٌّ يُستردّ، في دائرة تكملها شيخوخةُ أبوين لن يطلبا مقامًا أكثر من قبرٍ رطيب، جنب الخزامى.

سريتُ الليالي، محفوفًا بالذئاب وقطّاع الطرق، لأعود بعشائكم يا عيالُ، ولم أطلقكم رعاةً مع الرعاة، ولم أضربكم ولا سمع الجيران منكم سوى الضحك.

حافيًا في سموم الصيف حملت الماء، وحافيًا في طين الشتاء نقّبت الوديان عن كمأ، وحين انحنيتُ وشابت لحيتي وهجرني النظر رموني، فها أنذا أسمع رجفات أنف الذئب، وحركات لسان الأفعى، اللذين أعرف أنهما يمهلاني وقت إملاء الوصية لا غير، فيا ضيوفي الذين عقرتُ لهم ما ملكتُ، وسعيت في سبيلهم ما استطعتُ، ووفيّت حقّ النزيلِ كما توفّي الطيور دين الأشجار، وكما توفي الأنهر واجب التراب؛ سينتصر أعداؤكم، ونساؤكم يقعدنَ من دونكم أرامل، أمّا أنتم فمقيمون في ظلامٍ، شمسكم من طين، وقمركم لا يظهر ولا يغيب، وسماؤكم سواد السواد.

 

ابنُ حِثْلِين (3) في السّجن

لعلّها حمامةُ أبي فراس هذه التي حطّت توًّا على النافذة.

لعلّها تحبُّ من الناس السجناء، ومن السجناء الأسرى، ومن الأسرى الشعراءَ.

لعلّها تدركُ الفرق بين مسلمٍ في أسر الروم ومسلمٍ في أسر المسلمين.

لعلّها تعرف أن القسطنطينية التي اختفت هي الآن هذه الأستانةُ كارهة البدو تطلق على أرزاقهم قطار الحجاز، لتحفظ البقية من ماء وجه سلطان الدولة العليّة من دفع الأتاوة للعربان.

لعلّها لا تبالي بشيء، لا بالأمير الحمْدانيّ ولا بشيخ العَجْمان، ولا تريد سوى أن يغني لها الأسيرُ تلو الأسير في زنزانةٍ لن تغادر نافذتها، حتى يأتي وقتٌ لا تهتف فيه ورقاءُ في رونق الضحى، فيقولون: مات الشعر والشعراء!

 

هوامش:

(1) خليل أفندي فرح: شاعر وفنّان من السودان، شارك في ثورة اللواء الأبيض عام 1924، وكتب على أثرها قصيدة "عزة في هواك"، التي تعدّ بمثابة نشيد وطني غير رسميّ في السودان.

(2) شاعر مجهول من عرب الغياث الذين كانوا يسكنون قرب سهل حوران، قال قصيدة مؤلمةً في أولاده الذين تركوه وحيدًا عندما شاخ. القصيدة معروفة بعنوان "يا طروش".

(3) راكان بن حثلين شاعر وفارس، كان شيخ قبيلة العجمان في الجزيرة العربية. أرغم السلطنة العثمانية على أن تدفع له أتاوة سنوية مقابل عدم التعرّض لموكب الحج، وكانت تلك الأتاوة تسمّى بالصرّة، لكن العثمانيين الذين لم يعجبهم قبلوا بالأمر إلى حين، ولاحقًا أوقعوه في كمين ثم أخذوه أسيرًا. ابن حثلين قال قصيدة في السجن مخاطبًا الطير مطلعها: "لا واهني يا طير من هو معك حام/ ولا أنت تنقل لي حمايض علومي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسرى الأطلال

حين توقّفت شهرزاد