29-ديسمبر-2017

تجسيد لرقص "العالمة" حسب أحد المستشرقين (madampickwickartblog)

يصف المؤرخ والروائي الفرنسي غوستاف فلوبير "عنبر الأمراض التناسلية" في مستشفى القصر العيني، الذي زاره خلال سياحته بمصر عام 1849 من خلال قوله: "مستشفى القصر العيني معتنى به جيدًا، وهو إنجاز لـ"كلوت بك"، ولا تزال يده ترى حالات الزهري، العديد أُصيبوا بها في مؤخراتهم، عندما تصدر إشارة الطبيب يقفون جميعًا فوق أسرتهم، ويفتحون شروجهم بأصابعهم، ليكشفوا عن تقرحاتهم التناسلية. كانت تجويفات ضخمة ".

خلال النصف الأول من القرن 19، تشير الدلائل إلى أن الدعارة كنظام تجاري كانت مزدهرة في المدن الكُبرى ومنها القاهرة ويعود ذلك أساسًا إلى هجر الجنود لزوجاتهن

كان الجنود في الجيش وقتها، منتصف القرن التاسع عشر، يكرهون هذه المعاملة المهينة في الفحص الطبي، لذا قاوموه بكل قوتهم، مقاومة وصلت حد الاشتباك الجسدي، كما أورد المؤرخ الدكتور خالد فهمي في كتابه "كل رجال الباشا" حيث ذكر أنه في أحد هذه الحوادث "تمرد الجنود وعاثوا في المستشفى فسادًا فنزعوا الزجاج من إطارات النوافذ وتبولوا على الأرض وفي حاويات المياه". حتى التطعيمات/ التلاقيح ضد الأمراض قاومها الجنود والفلاحون الذين اعتبروها وقتها محاولة أخرى لتمييز أطفالهم من أجل إلحاقهم بالخدمة العسكرية الإجبارية لاحقًا.

لكن السلطات في ذلك الوقت، ورغم كل القوانين المتشددة التي سنتها من أجل السيطرة على الأمراض الجنسية المعدية بين الجنود في الجيش، لم تستطع أن تتحكم في انتشار تلك الأمراض، وبقليل من البحث فهموا أنه من أجل السيطرة على هذه الأمراض فإنه لابد من التحكم في حياة الجنود الجنسية، وعلى الرغم من أنه كان يُسمح لعائلات الجنود بالانضمام لهم وتتبعهم من معسكر إلى آخر، فإنه قد تم إيقاف هذا الامتياز أيضًا لأسباب صحية. ولكن منع الجنود عن زوجاتهم كان أمرًا مستحيلًا، حيث لجأت النسوة إلى حيلة وهي أن يتنكرن في هيئة رجال وكن يقمن بتتبع أزواجهن على طول طريق السفر.

اقرأ/ي أيضًا: الدعارة في سوريا.. حرب تفاقم الظاهرة وشبيحة النظام أكبر المستفيدين!

كان كلوت بك هو من وضع نظامًا صحيًا لمساكن زوجات الجنود اللاتي كن يتتبعن أزواجهن، حيث كن يتلقين عناية صحية من زوجات الأطباء المسئولين، اللاتي كن يتولين عزلهن وفحصهن، وكن يتولين تعليمهن كيفية معرفة أعراض الزهري، وكانت "الحكيمات" يتولين فحص النسوة كل يوم خميس من كل أسبوع، وكن أيضًا يقمن بإخبار الأزواج عن نتائج هذه الفحوصات.

الجنود والمومسات

خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، تشير الدلائل إلى أن الدعارة كنظام تجاري كانت مزدهرة في المدن الكُبرى في الشرق العربي في مصر وسوريا مثلًا، ولم يكن ذلك بسبب انفتاح في الحياة الجنسية العامة أو بسبب انتشار للرذيلة كما يصورها غوستاف فلوبير في قصة كوتشوك هانم، وهي الراقصة المعروفة التي وردت في مذكراته عن مصر، ولا بسبب زيادة مفاجئة في عدد "الرجال المتنكرين"، وهم الرجال الراقصون في ملابس نسائية من حيث المظهر والسلوك وكانوا يرقصون في الشوارع وأمام المنازل وفي أفنية بعض القصور في المناسبات المختلفة. ولكن أساسًا بسبب الهجر لفترات طويلة، الذي كانت تعاني منه نساء الجنود، بلا معيل و بضغط من العوز والفقر والجوع، اضطررن إلى الانضمام إلى الدعارة حتى يكسبن قوتهن.

الرحالة سان جون يصف مشهدًا لافتًا في مصر وتحديدًا في محافظة بني سويف عام 1833 فيقول كما ورد في كتاب الدكتور خالد فهمي "كل رجال الباشا": "عند وصولنا إلى المدينة كان هناك صخب ونشاط غير عاديين (...) كان الجنود يوزعون أنفسهم في كل أنحاء المدينة ليخطفوا متعجلين المتع الفظة التي يجدونها في متناولهم وبالتالي ظهرت كل الفتيات الراقصات وشرع والمغنون والموسيقيون في العمل، ووجدنا الفنادق مشغولة بهذه الحثالة العسكرية بحيث تعذر العثور على غرفة واحدة".

اقرأ/ي أيضًا: تونس.. قانون الاتجار بالبشر قد يشعل نقاش الدعارة

ويورد المؤرخ أندريه ريمون أن الدعارة في مصر في القرن الثامن عشر كانت منظمة كحرفة، وكانت السلطات تُجبي منها ضرائب، وقد تشدد محمد علي في جمعها "غير أن ديوان الخديوي ناقش المسألة في آيار/مايو عام 1834 وقرر أن يُلغي الضريبة ويحظر نشاط الحرفة بأكملها في مدينة القاهرة".

وأمر مشايخ الحارات بكتابة كشوف ببيوت الدعارة الموجودة في أحيائهم والمومسات اللاتي يعملن فيها وتم إغلاق كل هذه البيوت، وإنذارالمومسات أنه من يُقبض عليها بصدد الممارسة ستجلد بالسوط خمسين جلدة، وبعدها بشهرين، ومنعًا لتغيير نشاطهن، صدر قرار بأن لا توظف خادمات المنازل إلا من خلال مكاتب حكومية.

يؤكد معظم المؤرخين أن الدعارة في مصر لم تمنع خلال القرن التاسع عشر لاعتبارات دينية، بل سياسية للضرر الذي ألحقته بالجنود وتفشي الأمراض في صفوفهم

وتعزو المؤرخة جوديث تاكر في كتابها، الذي تناولت فيه الحديث عن المرأة في تلك الفترة، الحظر الذي مارسه محمد علي على نشاط الدعارة والذي تم إبرازه إلى الرأي العام وقتها أنه كان "بضغط من رجال الدين، لكي يتم إسباغ مزيد من الهيبة على حكم محمد علي بصفته راعي الفضيلة في البلاد".

غير أن المؤرخ الدكتور خالد فهمي يرى أن هذا الكلام غير صحيح من الناحية العملية والبراغماتية التي اتصف بها محمد علي شخصياً، فبيوت الدعارة وقتها في مصر كانت مصدرًا ممتازًا لإيرادات ضخمة، هذا بالإضافة إلى أنه كثيرًا ما همش رأي رجال الدين ولم يعرهم اهتمامًا في قضايا أخرى، والدليل الأكبر على ذلك هو أن المومسات منعن من ممارسة نشاطهن في المدن الكبرى وحول المعسكرات. حتى أن المؤرخ الفرنسي غوستاف فلوبير يقول: "تم طرد معظم المومسات من القاهرة إلى الجنوب في الصعيد، وبات يصعب وجود بيوت دعارة جيدة في القاهرة".

كلوت بك أكد بدوره في مذكراته لاحقًا أن المومسات بقين يمارسن نشاطهن في العاصمة ويقدمن خدماتهن للجنود ولكن في الخفاء، بعيدًا عن أعين الحكومة.

وتبقى مهنة "بيع الجسد"، إن صح التعبير، تجارة رائجة ومقننة في الماضي لكنها ممنوعة في مصر في الحاضر، رغم ممارستها بأشكال أخرى، ولا يزال هذا المنع يشكل جدلاً واسعاً، ولكن في ظل الطابع المحافظ للمجتمع المصري فإن إعادة تقنين هذه المهنة مرة أخرى يبدو للكثيرين مستحيلًا، رغم أن منعها في الماضي، كما فسرنا سابقًا، كان لأسباب سياسية وليست أخلاقية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شبكة "شي موريس": الاتجار بالنساء في لبنان الفاسد

"الميمات" في المغرب .. عالم جنسي سري

 

المصادر:

المصدر الأول

المصدر الثاني

المصدر الثالث