17-فبراير-2017

متظاهر ضد الناتو في كارديف عاصمة ويلز (أ.ف.ب)

"أيلول/سبتمبر 2020 – بدأ حلف الناتو على نحوٍ مجيد منذ 71 عامًا بتوقيع معاهدة واشنطن من قِبل ممثلي 12 دولة تعاهدت على الدفاع عن بعضها البعض إلى الأبد. انتهى الحلف على نحوٍ مخز بإغلاق أقفال بوابة مقر بروكسل من قِبل حارس أمن بلجيكي يدعى كارل فان آخن"، هكذا بدأ جيرمي شابيرو مقاله بمجلة فورين بوليسي الأمريكية، والذي يتخيل فيه خبرًا ينشر بعد ثلاثة أعوام عن نهاية حلف الناتو.

سيتحول حلف الناتو من أقوى تحالفٍ عسكري على مدى التاريخ وأكثرها نجاحًا إلى قذيفةٍ فارغة لا يعتد بها

نظريًا، لا يزال الحلف قائمًا. لا تزال المعاهدة سارية، لا يزال الأعضاء الثمان والعشرين بالحلف متعهدين، نظريًا، بالدفاع عن بعضهم البعض ضد الاعتداء، لا تزال مؤتمرات مراكز الأبحاث تتناقش بلا نهاية بشأن "مستقبل الحلف" في قاعات اجتماع مزخرفة، لا تزال جورجيا متمسكة بطموحها بالانضمام إلى الحلف في المستقبل البعيد بعض الشيء.

اقرأ/ي أيضًا: القصة الكاملة لسقوط مستشار ترامب للأمن القومي

لكن قبل وقتٍ طويل من مغادرة الأمين العام للحلف جيرهارد شرودر مقره الذي يكاد يكون خاليًا الشهر الماضي، كان من الواضح لجميع المراقبين أن الحلف تحول، على مدار الأعوام القليلة الماضية، من أقوى تحالفٍ عسكري على مدى التاريخ وأكثرها نجاحًا إلى قذيفةٍ فارغة لا يعتد بها. لم يُدمر الحلف من قِبل الجيوش الروسية، وإنما بسبب عدم الاهتمام من قِبل أعضائه. تثبت قصة أفول الناتو أنه أحيانًا ما تنتهي التحالفات ليس بضجة وإنما بأنين.

الأنين الطويل

في حالة الناتو، بدأ الأنين الطويل لأفوله بتنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كانون الثاني/ يناير 2017. طوال الحملة الرئاسية الانتخابية في العام السابق، هاجم ترامب حلفاء الولايات المتحدة الذين شعر أنهم لا يتحملون عبء الدفاع عن أنفسهم. لمّح ترامب آنذاك إلى أنه كرئيس لن يدافع عن الحلفاء الذين لا يدفعون نصيبهم، كما عززت إشادته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين المخاوف في شرق أوروبا من أنه سوف يتخلى عنهم ليصبحوا تحت رحمة روسيا.

بمجرد أن أصبح رئيسًا، أصبح نهج ترامب تجاه أوروبا غريب الأطوار مثل حملته الرئاسية المتداعية. عيّن ترامب وزراء أشادوا بالحلف في جلسات استماع المصادقة على تعيينهم، كما سمح لرئيسة الوزراء البريطانية الزائرة بالتأكيد على أنه "يدعم الحلف بنسبة 100%". ثم، على نحوٍ مفاجئ أيضًا، كان ترامب يعود إلى مهاجمة الحلفاء، أو وصف الحلف بأنه عفا عليه الزمن، أو مهاجمة الاتحاد الأوروبي بوصفه مخططًا ألمانيًا.

كانت كل خطبة مطولة له تتبعها جولة جديدة من الضجة في الصحافة والتعبير عن القلق من جانب الأوروبيين، لكن شيئًا لم يتغير على الأرض. ظلت القوات الأمريكية في أوروبا، شاركت الطائرات الأمريكية في حراسة سماء دول البلطيق، واستمر الجنود الأمريكيون في المشاركة في المناورات العسكرية للحلف. تحت العناوين، استمر الناتو بهدوء، على الورق، أقوى تحالفٍ عسكري في العالم.

في البداية، بدلًا من أن تدمر الحلف، بدا أن تهديدات ترامب تحفز الأوروبيين بطريقةٍ لم تنجح مهادنات الرؤساء السابقين في القيام بها. ارتفع الإنفاق العسكري الأوروبي تجاه النسبة الملتزم بها البالغة 2 في المئة من الناتج المحلي، وأنشأ الأوروبيون آلياتٍ جديدة للتعاون العسكري داخل الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا. وتحت إصرار ترامب، أعلن الحلف أن مكافحة الإرهاب هي مهمته الرئيسية وشرع في دراساتٍ متعددة لاستكشاف كيف يمكن أن يؤدي هدفه الجديد.

في النهاية، لم تحدث مهمة الناتو الجديدة الكثير من التغييرات فيما يتعلق بالموارد، توقف الحلف ببساطة عن الحديث بشأن مهمته الأساسية السابقة المتمثلة في الدفاع عن أوروبا في مواجهة عدوانٍ روسي. لكن تلك التغيرات التجميلية سمحت للرئيس ترامب بادعاء أنه نجح في أقلمة الحلف على فلسفة "أمريكا أولًا" الخاصة به. في كلمةٍ شهيرة ألقاها أمام نسخة برج إيفل بلاس فيجاس، أعلن ترامب أنه "الآن، بدلًا من أن تعمل الولايات المتحدة لصالح الناتو، أصبح الناتو يعمل لصالح الولايات المتحدة". لم يعد ترامب يعتقد أن الحلف قد عفا عليه الزمن، على العكس من ذلك، أصبح بالنسبة إليه رمزًا لاستطاعته إعادة هيكلة التحالفات الأمريكية لتخدم الأهداف الأمريكية.

اقرأ/ي أيضًا: اجتماع ترامب ونتنياهو: الاستيطان أولًا

متعفن حتى النخاع

لكن وراء ذلك الرمز، لم يكن من الواضح تمامًا ما إذا كان الناتو يعمل من أجل أحد بعد الآن.

عندما صعدّت روسيا من حربها بالوكالة في أوكرانيا في منتصف عام 2017، ناقش الناتو القيام برد، لكن مع تركيز الطاقات الأمريكية على بناء حائط على الحدود الجنوبية للبلاد، فشل الحلف في التوصل إلى إجماعٍ على عقوباتٍ جديدة أو على تعزيز قوات الحلف المنتشرة شرقًا. قررت بولندا وفرنسا وألمانيا أن آلية التعاون المنظم الدائم الجديدة للدفاع والتابعة للاتحاد الأوروبي أكثر مناسبةً لذلك الهدف. إلى جانب أغلب شركائها الأوروبيين، بدأت الدول الثلاث استخدام تلك الآلية لإمداد الحكومة الأوكرانية بالأسلحة والتدريب. رسميًا، أعلن حلف الناتو حياده. توقف الإعلام الروسي عن التنديد بالولايات المتحدة والناتو وركز على مهاجمة ألمانيا والاتحاد الأوروبي.

في أوائل عام 2018، اندفع الاقتصاد المصري في سقوطٍ حر، وانهارت الحكومة. بينما سادت الفوضى في القاهرة، بدأ مئات الآلاف من اللاجئين في الظهور على شواطئ اليونان وإيطاليا. مجددًا، عقد الناتو مباحثاتٍ للتحرك، في هذه الحالة، مهمة بحرية لاعتراض وإعادة قوارب اللاجئين، فيما اعتبر إجراءً إنسانيًا وحمائيًا، مشابهًا للمهمات التي قام بها في المتوسط عام 2016. لكن هذه المرة، عارض أعضاء الحلف في شرق أوروبا، مكتوين بحياد الحلف في أوكرانيا، اشتراك الحلف في تلك المهمة. لم تنحز الولايات المتحدة، التي كانت تشهد فضيحة على خلفية شراء روجر ايلز لصحيفة نيويورك تايمز في مزادٍ لدائرة الإيرادات الداخلية، لأيٍ من الجانبين، وفي النهاية لم يفعل الحلف شيئًا.

كان حلف الناتو طوال أغلب تاريخه الأداة التي كان صانعي السياسات الأمريكيين والأوروبيين يتجهون إليها عقب الأزمات

ثم، في كانون الثاني/ يناير 2019، وردًا على قرار الولايات المتحدة القاضي بتفتيش سفن الشحن الإيرانية في الخليج العربي بحثًا عن شحنات أسلحة، دبرت طهران انقلابًا في بغداد. أمر النظام العراقي الجديد الموالي لإيران القوات الأمريكية بالخروج من العراق، بينما هاجمت قواتٌ عراقية إيرانية مشتركة القوات التركية في كردستان العراق وبدأت تسليح المتمردين الأكراد في جنوب شرقي تركيا. طلبت تركيا، بدعمٍ من إدارة ترامب، من حلف الناتو تفعيل فقرته الخامسة، أي اعتبار التحركات الإيرانية عدوانًا ضد عضوٍ بالحلف ومساعدتها.

رفض أغلب الأعضاء الأوروبيون بالحلف، بما في ذلك فرنسا وألمانيا وبولندا وإيطاليا، رفضًا قاطعًا القيام بذلك. كان من اللافت أن تلك الدول قد أوفت بالتزام إنفاق 2 بفي لمئة على الدفاع بل وأشادوا باتجاه الحلف إلى مكافحة الإرهاب، لكنهم رفضوا استخدام قواهم العسكرية الجديدة لمواجهة ما اعتبرته الولايات المتحدة وتركيا "إرهابًا" في شمال العراق وجنوب شرقي تركيا.

أدى رفض الحلف تفعيل المادة الخامسة إلى استقالة أمينه العام الجنرال ينس ستولتنبرج. في خطاب استقالته، قال ستولتنبرج إنه لا يوجد سبب للاستمرار في إدارة منظمة لا تستطيع الاستجابة أو لن تستجيب لاحتياجات أعضائها.

وافق الكثيرون في أوروبا على أن زمن الناتو قد ولّى، لكن الولايات المتحدة وبريطانيا لم تكونا مستعدتين للاستسلام. بمساعدةٍ من الحكومة الائتلافية الألمانية بقيادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وجد البلدان في المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر مرشحًا توافقيًا لمنصب الأمين العام لتولي مهمة إعادة هيكلة الحلف لعصرٍ جديد، رغم أنه لم يتم إيضاح ما الذي يعنيه ذلك تحديدًا. رحب الروس بتعيين شرودر وأعلنوا أنهم لم يعودوا يعارضون انضمام جمهورية الجبل الأسود بل وصربيا إلى الحلف، حتى أنهم قالوا إنهم سوف يدرسون الانضمام إلى التحالف في نهاية المطاف، وهو الإعلان الذي أشادت به إدارة ترامب.

لكن الدعم الروسي لم يساعد شرودر على إيقاف اضمحلال الحلف. أرسل أغلب الأعضاء الأوروبيون، غاضبين من العلاقة الجيدة بين الحلف وعدوهم في أوكرانيا، القليل من ضباطهم إلى مراكز القيادة الأوروبية. كان انتباه الولايات المتحدة مركزًا على محاكمة إريك ترامب بتهمٍ تتعلق بإساءة استخدام نفوذه في عمليات المتاجرة بالأسهم والحرب التركية الإيرانية. لم يكن المسؤولون الأمريكيون يذهبون عادةً إلى اجتماعات الناتو، وتوقفت المناورات العسكرية واسعة النطاق التي كان الحلف يقوم بها. توقفت معظم البلدان حتى عن المساهمة في ميزانية الحلف، حيث حولت الأموال إلى دوريات الهجرة أحادية الجانب في المتوسط أو التدريبات العسكرية في أوكرانيا.

مكافحًا لمجرد الإبقاء على الأنوار مضاءة، حصل شرودر على دعم الولايات المتحدة وروسيا في 2020 لنقل مقر الحلف إلى قاعدةٍ عسكرية سابقة في بلغاريا، حيثما كان يأمل أن يصبح المركز الجغرافي للحلف. لم يعترض الأوروبيون، لكن أغلب العاملين بالحلف لم يكلفوا أنفسهم عناء اللحاق به إلى هناك.  

إنه التضامن أيها الغبي

عند النظر إلى الوراء، يصبح من الواضح لماذا أفل نجم الحلف. لعقود، ركزت الدول الأعضاء على ما يفرقها. لقد تجادلوا بشدة على مشاركة العبء وكيفية التعامل مع العدوان الروسي أو الفوضى في شمال أفريقيا. كان هناك قضايا شديدة الأهمية، لكن الخلافات شتتت الانتباه عما كان يجعل الحلف فريدًا: الالتزام العميق لأعضاه بأمن أحدهم الآخر. بالطبع، لم يكن أعضاء الحلف يوافقون دومًا على ما ينبغي أن يكون أولويات المنظمة، لكن الحلف ككل تعامل بجدية مع التهديدات التي رأتها كل دولة عضو لأمنها القومي.

كنتيجةٍ لذلك، كان حلف الناتو طوال أغلب تاريخه الأداة التي كان صانعي السياسات الأمريكيين والأوروبيين يتجهون إليها عقب الأزمات. في الحرب الباردة، في البلقان، في أفغانستان، في ليبيا، وفي أماكن أخرى، وجد الرؤساء الأمريكيون والزعماء الأوروبيون أن الناتو لم يوفر لهم فقط قدرة عسكرية وإنما أيضًا آلية لحشد الحلفاء وتأمين شرعية أوسع لأولوياتهم الدفاعية. كان الحلف يعمل لأن أعضاءه كانوا يصدقون أن حلفائهم يقفون إلى جانبهم. كان التضامن في القلب.

من السهل الآن رؤية أن الرئيس ترامب قد حل معضلة تشارك العبء الخاصة بالناتو – عبر تدمير تضامنه.  بوضع الولايات المتحدة أولًا، والفشل في الالتفات لمشاكل حلفائه، نجح ترامب في جعلهم يدفعون أكثر، لكنه ضمن أيضًا أنهم سيهتمون أقل. حلف الناتو الذي أنشئ للعمل بالأساس لصالح الولايات المتحدة لم يعد يعمل على الإطلاق، وبالتالي لم يعد حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين معها في صراعها مع إيران، تمامًا مثلما الولايات المتحدة ليست معهم في أوكرانيا.

بالنظر إلى سنوات إنجازات الحلف، يبدو هذا مخزيًا. لكن بقدر استغراقنا في النظام العالمي الجديد، لا يبدو أن هناك من يبالي. سُئل فان آخن، حارس الأمن الذي أغلق مقر الحلف، مؤخرًا عما فعله بمفتاح المبنى الذي كان مجيدًا. "أعتقد أنه في المنزل في درجي الأعلى"، اعترف آخن. "لم يطلبه أحدٌ مني".

اقرأ/ي أيضًا: 

هل يمكن الإطاحة بترامب خلال عامين؟