10-يوليو-2017

سيرجي فيدكو/ أوكرانيا

من التيه في الغابات وجمع ثمار الأشجار إلى تنظيم مجتمعات كثيفة تعيش في مدن متقدمة التكنولوجيا، قصة طويلة لتطور حياة البشر عبر آلاف السنين، اختزلت مجموعة من أنماط المجتمعات البشرية حسب كل مرحلة تاريخية، حيث لكل نوع من هذه المجتمعات خصائصه الثقافية التي تميزه عن الباقي.

مجتمعات الصيد وجمع الثمار والنباتات

عرفت البشرية غريزة الانتظام على شكل مجموعات منذ عشرات آلاف السنين، إذ كان البشر الأوائل يحتاجون إلى التعاون والصيد بشكل جماعي للبقاء على قيد الحياة في بيئة شديدة القسوة وحافلة بالمفترسين، ومن ثمة بدأت مجتمعات الصيد وجمع الثمار، التي سادت الجانب الأكبر من تاريخ البشرية على هذا الكوكب على الرغم من بدائيتها، قبل أن تتلاشى تمامًا مع الحياة الحديثة، وإن كانت بعض القبائل الأفريقية لا تزال تعيش على هذا النمط إلى اليوم.

عرفت البشرية غريزة الانتظام على شكل مجموعات منذ عشرات آلاف السنين

كانت هذه المجتمعات تعيش على صيد الأسماك والحيوانات البرية، وفي كثير من الأحيان كانت تلجأ إلى جمع ثمار الأشجار والنباتات القابلة للأكل المنتشرة في الغابات والأدغال، واستعملوا بعض الأدوات البدائية المصنوعة من الخشب والحجر، التي تساعدهم في الصيد والحفر وإعداد الأكل وملاجئ استقرارهم.

اقرأ/ي أيضًا: احذر فربما تكون ثقافتك سبب فقرك!

وتتسم المجموعات البشرية الأولى ببساطة مجتمعاتها، إذ لم تكن تعرف التفاوتات المجتمعية كما نشهدها اليوم، ولا يهتم أفرادها بتجميع الموارد المادية أكثر مما تتجاوز احتياجاتهم الأساسية، واقتصرت الفوارق على السن والجنس، حيث كان الرجال يتكفلون بالصيد فيما كانت النساء يقمن بجمع النباتات وإعداد الأكل وتربية الأطفال، كما عرفت تلك المجتمعات نوعًا من الممارسات الدينية والشعائر الاحتفالية.

مجتمعات الرعي والزراعة

قبل نحو عشرين ألف سنة، بدأت المجموعات البشرية تتحول من نمط العيش على الصيد والتقاط الثمار إلى تدجين الحيوانات وحرث الأرض، لتظهر المجتمعات الرعوية الزراعية، ولا يزال هذا النمط المجتمعات قائم في عالم معاصر ببقاع في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، خاصة في المناطق الريفية.

تعيش هذه المجتمعات على تربية الحيوانات مثل الأبقار والأغنام والماعز والجمال للاستفادة من لحومها وألبانها، كما تعيش على زراعة الأرض لتجمع في موسم الحصاد محاصيل النباتات وثمار الأشجار، وهكذا استطاعت هذه الجماعات البشرية الاستقرار في مناطق طبيعية مختلفة من السهول مرورًا بالصحاري إلى الجبال، حيث كانت تستطيع إنتاج مواردها لسد حاجياتها الغذائية، ولم تكن مضطرة للهجرة إلى الغابات.

ساهم هذا الاستقرار بتطور الحياة المعيشية لمجتمعات الرعي والزراعة، إذ انتشرت الضيعات الفلاحية والمزارع الحيوانية، وتطورت أدواتهم واستعملت الحيوانات مثل الخيول في حياتهم اليومية، وشاعت تقاليد امتلاك الثروة المادية، إلا أن العلاقات المجتمعية ظلت تسير على نحو مشابه لحياة جماعات الصيد والتقاط الثمار.

الحضارات التقليدية

بدأت المجتمعات البشرية، كما تشير الدلائل التاريخية، في الاستقرار بأعداد كبيرة في المدن قبل ستة آلاف سنة مع حضارات الشرق الأوسط بالنيل والرافدين بدجلة والفرات، وظهرت بعدها في الصين والهند وفي أمريكا اللاتينية وأوروبا، شاعت في هذه المرحلة إمبراطوريات الملوك والأباطرة.

كانت هذه المجتمعات تتميز بالفوارق في الثروة والقوة بين طبقة الملوك والكهنة من جهة والشعب من جهة أخرى، فظهرت السياسة والدين بشكل قوي في هذه المرحلة بعدما كانا غائبين نسبيًا فيما قبل، واعتمدت في عيشها بالإضافة إلى الزراعة والتدجين على التجارة والغزو، وهكذا ظهرت الأسواق وتعاظمت حياة الملوك وحاشيتهم قوة ورفاها ونشبت الحروب على المناطق المجاورة بغية الاستيلاء على مواردهم.

عرف البشر الكتابة لأول مرة مع الحقبة هذه الحضارات، ما أدى إلى ازدهار العلوم والآداب والفنون في مجتمعاتها، وعرف الإنسان للمرة الأولى استعمال المواد المعدنية كالحديد والنحاس، ما قادهم إلى إنتاج أدوات أكثر قوة وفعالية في حياتهم المعيشية.

المجتمعات الحديثة

مع أوائل القرن التاسع عشر سيبدأ عصر التصنيع في أوروبا الغربية، حيث سينتقل البشر إلى مرحلة جديدة تختلف جذريًا مع كافة أنماط حياة المجتمعات الماضية، عرفت ازدهارًا غير مسبوق في التاريخ البشري على مستوى الرفاه والقوة والعلوم والفنون بالإضافة إلى تعقد النظم الاجتماعية والسياسية، وامتدت آثارها فيما بعد إلى كافة أرجاء الأرض من خلال الاستعمار ثم العولمة كما نشهدها اليوم.

قاد استغلال الطاقة البخارية والكهربائية المجتمعات الأوروبية إلى نشوء التصنيع فتحرر الناس من مشقة الإنتاج الزراعي البدائي، وأصبحت الآلة تقوم بمعظم نشاطات الإنسان بفعالية أكبر بكثير، فانتشرت المعامل والشركات والمؤسسات، وباتت أغلبية الناس تشتغل في المكاتب والمصانع والمتاجر، بعد أن كانت تعيش على زراعة الأرض.

أدى التقدم التقاني الذي عمّ نواحي المعمورة إلى تحول شديد في حياة البشر على جميع المستويات

أدى هذا التقدم التقاني الذي عمّ نواحي المعمورة إلى تحول شديد في حياة البشر على جميع المستويات، لا سيما بعد ظهور التكنولوجيا، حيث بات أغلبية الناس يتمتعون بحاجيات وأدوات لم تكن متوفرة للمجتمعات البشرية السابقة، كالكهرباء والاتصالات والمواصلات والأجهزة المختلفة المهام، علاوة على تطور المجال الطبي ووفرة إنتاج الغذاء، وهو ما ضاعف أعداد سكان الكوكب خلال فترة قصيرة لا تتعدى القرنين بشكل لا مثيل له في تاريخ البشر.

اقرأ/ي أيضًا: الفيسبوك واحتكار الحقائق!

كما مهّد التصنيع لظهور "الدولة الوطنية"، التي تتمتع بحدود واضحة وسيادة شعبية، تمارس فيها الحكومات المنتخبة سلطة إشرافية على مناحي حياة المواطنين، من صحة وتعليم وأمن وبنية تحتية، خلافًا لما كان في الحضارات السابقة، وقتها الملوك والأباطرة لا يؤثرون في حياة أغلبية رعاياهم.

ومثلما غيّر التطور التقاني الحياة المعيشية للبشر، أثّر أيضًا في عاداتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، فغدت المدن المكتظة بالسكان تفتقر إلى العلاقات الحميمية التي كانت تجمع بين الناس في الماضي، وانتشرت قيم الفردانية والحريات، وبرزت تنظيمات المؤسسات الضخمة من شركات تجارية وهيئات حكومية ومنظمات مدنية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اقتل سوريًا... أسبوع الكراهية

هامبورغ.. لم تكن جحيمًا تمامًا