11-مارس-2020

ديفيد هارفي وكتابه

يطرح المفكّر الأمريكيّ ديفيد هارفي في كتابه "مدن متمردة: من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2017، ترجمة لبنى صبري)، جُملة من الأسئلة المتعلّقة بالمدينة، كالحقّ فيها، وكيفية تعريف هذا الحقّ؟ يُوردُ في البداية تعريفًا للمدينة بما هي، وفقًا للأمريكي روبرت بارك، "أكثر محاولات الإنسان اتّساقًا، وبشكلٍ عام أكثرها نجاحًا في إعادة تشكيل العالم الذي يعيش فيه بما يتّفق بدرجة أكبر مع رغبات قلبه. لكن إذا كانت المدينة هي العالم الذي خلقه الإنسان، فهي بالتالي العالم الذي يتعيّن عليه العيش فيه فالإنسان بشكلٍ غير مباشر ودون إدراك واضح بطبيعة مهمّته، قد أعاد أثناء خلقه للمدينة تشكيل نفسه".

الحقّ في المدينة أكثر من مجرّد حقّ فرد أو مجموعة في الوصول إلى الموارد الموجودة في المدينة. إنّه الحقّ في تغييرها وإعادة اختراعها لتلائم أهواء قلوبنا بدرجة أكبر، بالإضافة إلى أنّه ليس حقًّا فرديًا بمقدار ما هو حقّ جمعي، باعتبار أنّ اختراع المدينة يتطلّب ممارسة قوّة جماعية عبر عمليات التطوير العمراني، الحضرنة. ويرى ديفيد هارفي أنّ الحقّ في المدينة يقصد به المطالبة بشكل ما من سلطة التشكيل على عمليات الحضرنة والطرق التي تتمّ عبرها صنع وإعادة صنع مُدننا، وأن تقوم بذلك بشكل جوهري وجذري.

الحقّ في المدينة أكثر من مجرّد حقّ فرد أو مجموعة في الوصول إلى الموارد الموجودة في المدينة. إنّه الحقّ في تغييرها وإعادة اختراعها

نشأت المدن في أساسها نتيجةً للتمركز الجغرافي والاجتماعي لفائض الإنتاج، أي الفائض الذي تنتجه الرأسمالية والذي يحتاجه التطوير العمراني، والعكس صحيح كذلك، لأنّ الرأسمالية تحتاج للحضرنة لامتصاص فوائض الإنتاج التي تحقّقها. هناك رابطة داخلية بين التطوّر الرأسمالي والتطوير العمراني وفقًا للمؤلّف الذي يطرح سؤال: كيف كان التطوير العمراني الرأسمالي مدفوعًا بالحاجة للتغلّب على العقبات المتعلّقة بتراكم الفائض وإنتاجه وامتصاصه، بالإضافة إلى القوّة الشرائية وتوسعه نطاق النشاط الرأسمالي المربح؟ الإجابة تكمن في لعب الحضرنة دورًا فعالًا بشكل خاص إلى جانب ظواهر أخرى مثل الإنفاق العسكري، في استيعاب فائض الإنتاج الذي ينتجه الرأسماليون.

اقرأ/ي أيضًا: ماردٌ يسرق شبح ماركس: تدمير العالم من أجل إنقاذه

يضرب مؤلّف "حالة ما بعد الحداثة" مثالًا عبر البرامج الضخمة للاستثمار في البنية التحتية داخل البلاد وخارجها أيضًا، كطريقة للتعامل مع مشكلة استيعاب الفوائض الرأسمالية، لا سيما أنّ هذه البرامج، الحضرنة، تستوعب عددًا ضخمًا من العمّال يُقابله كمّيات أكبر من رأس المال، وبالتالي تحقيق نوع من الاستقرار الاجتماعي باعتبار أنّ عملية الحضرنة بما هي بناء أو إعادة بناء تقوم أيضًا ببناء أسلوب حياة حضرية جديد وبناء نوع جديد من الشخصية الحضرية. واللّافت هنا أنّ عملية الحضرنة نفسها قد يتغيّر نطاق التفكير بشأنها وفقًا لتحوّلها إلى جزء من عملية استيعاب فائض الإنتاج وحل مشكلة التخلّص من الفوائض الرأسمالية، ومساهمتها أيضًا بتحقيق الاستقرار للرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية.

يُشدّد ديفيد هارفي في كتابه على فكرة أنّ إنشاء الضواحي لم يكن مجرّد مسألة بنية تحتية جديدة، وإنّما عملية تحوّل جذري في أسلوب الحياة. بيد أنّ عملية التحوّل هذه كانت المسؤولة عن تعرية عملية الحضرنة وإنتاجها أحياءً جديدة تفتقد فيها الحياة إلى الروح. بالإضافة إلى تعرية الرأسمالية التي هوى نظامها إبّان الأزمة العالمية سنة 1973، الأمر الذي صعد إلى الواجهة بسؤال: كيف يُمكن إنقاذ الرأسمالية من تناقضاتها؟

يجيب عنه هارفي بذكر ردٍّ نيوليبراليّ قدّمه وليام تاب، مفاده أن "تتمّ حماية النفوذ الطبقي لرأس المال على حساب مستويات معيشة الطبقة العاملة، في حين يجري تحرير السوق ليقوم بعله".

من التحوّلات الكارثية التي أصابت عملية الحضرنة هي المشروعات العمرانية الباذخة والسخيفة لدرجة إجرامية كوسيلة للتخلّص من الفوائض الرأسمالية الناجمة عن الثروات النفطية، كما هو الحال في أبو ظبي ودبي. تندرج هذه المشاريع كجزءٍ من تحوّل عالمنا إلى مكانٍ أصبحت فيه الأخلاق النيوليبرالية التي تتسمّ بفردانية ذات نزوع مُفرط للتملّك، نموذجًا للتنشئة الاجتماعية لشخصية الإنسان، وتتمثّل عاقبة ذلك في تزايد معدّلات الانعزالية الفردانية والقلق والاضطّرابات العصبية وسط أعظم الإنجازات الاجتماعية التي شُيَّدت في تاريخ الإنسانية لتحقيق رغبات قلوبنا.

تحوّل عالمنا إلى مكانٍ أصبحت فيه الأخلاق النيوليبرالية، التي تتسمّ بفردانية ذات نزوع مُفرط للتملّك، نموذجًا للتنشئة الاجتماعية لشخصية الإنسان

ولكنّ هذا النظام الذي تنطوي ضمنه عملية التنشئة تلك، باتت تصدّعاته واضحة تمامًا، فنحن نعيش في مدن مقسّمة ومتشرذمة ومعرّضة للصراعات بشكلٍ متزايد. وبحسب صاحب "الليبرالية الجديدة"، تعتمد نظرتنا إلى العالم وتحديد الفرص التي يوفّرها تعتمد على الجانب الذي نقف فيه، ونوع الاستهلاك المُتاح لنا، لا سيما بعد أن أعاد التحوّل النيوليبرالي خلال العقود الماضية السلطة الطبقية إلى أيدي النخب الغنية. ونتج عن عملية إعادة السلطة هذه استقطاب في توزيع الثروة والنفوذ يقول هارفي إنّ نتائجها لا محفورة لا تُمحى من السمات المكانية لمدننا التي تتحوّل بشكلٍ متزايد إلى مدن من أجزاء محصّنة، من مجمّعات سكنية مغلقة وساحات عامّة جرت خصخصتها، وتخضع لرقابة دائمة.

اقرأ/ي أيضًا: شباب يحتضر.. إدوارد سعيد وسلطة يأس أدورنو

تكون الحماية النيوليبرالية لحقوق الملكية الخاصّة وقيمتها، بهذا المعنى تحديدًا، هي النموذج المهيمن للسياسة حتّى بالنسبة إلى الطبقات المتوسّطة الدُنيا، وفي العالم النامي على وجه الخصوص. والنتيجة في مثل هذه الظروف زيادة صعوبة الإبقاء على مثاليات الهوية الحضرية، والمواطنة والانتماء، وباختصار: السياسات الحضرية المتّسقة والمهدّدة بالفعل بسبب انتشار الشّعور بالضيق من الأخلاقيات النيوليبرالية الفردانية. ويرى هارفي أنّ المدينة قد تكون كيانًا سياسيًا جمعيًا وموضعًا يمكن منه وعبره أن تنشأ حركة اجتماعية تقدمية تصبح على الأقلّ، على المستوى السطحي، غير قابلة للتصديق بشكل متزايد. في الوقت ذاته، هناك أيضًا كلّ أشكال الحركات الاجتماعية الحضرية التي تسعى للتغلّب على الانعزالية وإعادة تشكيل المدينة بصورة اجتماعية مختلفة عن التي يعيد صناعتها المطوّرين العقاريين.

في العودة إلى فكرة امتصاص الفوائض عن طريق التحوّل الحضري، يقول ديفيد هارفي إنّ العملية تمتلك بُعدًا أكثر قتامة، لأنّ العملية استلزمت نوبات متكرّرة من إعادة الهيكلة الحضرية عبر التدمير الخلّاق، وكان لذلك بعد طبقي بما أنّ الفقراء والمحتاجين والمهمّشين من السلطة السياسية هم عادةً من يعانون أوّلًا وبدرجة أكبر من هذه العمليات. والعنف هنا يصير مطلوبًا لتحقيق العالم الحضري الجديد على أنقاض القديم. والقصد هنا رفض عملية نزع الملكية وتمزيق الأحياء القديمة والعالم بأنماطه وأساليبه الخاصّة في العيش. رغم ذلك، كانت هناك عملية مضادّة للثورات التي انطلقت لمواجهة هذه الوحشية.

الخلاصة أنّ عملية الحضرنة وعبر دورها الحاسم في استيعاب فوائض رأس المال ضمن نطاق جغرافي يزداد اتّساعًا تؤدّي إلى عمليات تدمير خلّاق يستلزم حرمان سكان الحضر من أي حقّ في المدينة، الأمر الذي يؤدّي إلى ثورة تسعى إلى استعادة المدن المفقودة. ويرى هارفي في هذا السياق أنّ الحضرنة أصبحت تحفلُ بالخراب والتصدّعات وعدم الأمان. ولكنّ التصدّعات نفسها هي ما يسمح للضوء بالدخول. وبالتالي، هناك تمرّد في كلّ مكان.

هذه المفردات يُمكن أن تُصبح معدية، بغض النظر عن النظام المالي الذي يجعل من الحركات الاجتماعية الحضرية وشبه الحضرية المعارضة غير مترابطة بإحكام، لذلك من غير المرجّح أن تُشعل شرارة واحدة حرائق واسعة. ولكن إن تجمّعت هذه الحركات المعارضة معًا، والتفّت حول شعار: الحقّ في المدينة، فبماذا يجب أن تُطالب؟ الجواب عند ديفيد هارفي الذي يؤكّد أنّه ينبغي المطالبة بديمقراطية أكبر في التحكّم بالإنتاج باستخدام الفوائض. وبما أنّ عملية الحضرنة هذه تُعدّ القناة الرئيسية لاستخدام هذه الفوائض، فإنّ الحقّ في المدينة يتشكّل عن طريق وضع رقابة ديمقراطية على توجيه الفوائض لعمليات الحضرنة.

الحقّ في المدينة بهذا المعنى هو مطلب سياسيّ وثوريّ أيضًا، الهدف منه إعادة حالة المساواة الاجتماعية

تقود كلّ تلك المعطيات الكاتب إلى السؤال عن كيفية مقاومة هذا الشكل من الحضرنة، أي الحضرنة التي أنتجتها الرأسمالية. ويرى أنّ بداية الإجابة تكمن في العودة إلى تجربة كومونة باريس ضدّ مشروع جورج أوسمان الذي حوّل مدينة باريس إلى مركز استهلاك أكثر منها مكانًا للعيش، بالإضافة إلى تجربة الحركات الاجتماعية الأمريكية التي تبلور عندها سؤال آخر حول سبب انطلاق غالبية الثورات من المدن الحديثة، يُجيب عليه ديفيد هارفي بالقول إنّ للمدينة خصائص توفّر ما تحتاجه الحركات الاجتماعية الاحتجاجية لتسهيل مهمّتها، عدا عن القدرة في تعطيل الاقتصاد الذي قد يسهّل أيضًا من تحقيق هدف الانتفاضة.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "روح الديمقراطية".. قدر الجغرافيا وسؤال النفط في العالم العربي

يؤكّد المفكّر الماركسيّ في كتابه هذا أنّ الحقّ في المدينة بهذا المعنى هو مطلب سياسيّ وثوريّ أيضًا، الهدف منه إعادة حالة المساواة الاجتماعية التي كانت قائمة قبل عملية الحضرنة الرأسمالية. أمّا عن كيفية تحقيق هذه الثورة، يقول هارفي إنّه لا بدّ من تحالف العمّال والسكّان المحليين وتوحيد قواهما ضدّ الحضرنة، ومن ثمّ العمل على وضع تعريف جديد للعمل المشترك بحيث يكون شاملًا لكلّ العوامل التي يمكن أن تُساهم في إنتاج حياة جديدة بدلًا من تلك القائمة. وهذه الثورة في حال تحقّقت، ستكون قادرة على تجاوز النظام الرأسمالي، ممّا يجعل من المدينة مركزًا للثورات بدلًا من المصنع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الانتقال الديمقراطي في روسيا.. حين تكون الثقافة والنخبة عائقًا

كتاب "أسئلة الحداثة في الفكر العربي".. حتمية المخاطرة