19-مايو-2017

من العرض

في السنوات القليلة الأخيرة، رسخّت رواية "قواعد العشق الأربعون" للتركية إليف شافاق نفسها كرواية شعبية، بمعنى انتشارها بين عدد كبير من القرّاء مختلفي الفئات والتوجهات، أغلبهم يتعاطى القراءة كبروتوكول اجتماعي يضفي بعض الوجاهة. لكن بغض النظر عن كل الانتقادات التي يمكن توجيهها للرواية ذائعة الصيت، فإنها تحمل بداخلها مقومات ذلك الانتشار بداية من جمعها بين تيمات متعلقة بالدين والفلسفة والسياسة والتاريخ والماضي والحاضر، وتطعيم ذلك المزيج بأجواء صوفية وحكاية حياة جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، من خلال معالجة فنية تستهوي غالبًا المستغربين أو أصحاب الثقافة الغربية. 

جمعت "قواعد العشق الأربعون" تيمات الدين والفلسفة والسياسة والتاريخ والماضي، ضمن أجواء صوفية

تدور رواية قواعد العشق الأربعون في زمنين مختلفين، القرن الثالث عشر والقرن الحادي والعشرين، حيث يتقاطع الماضي والحاضر من خلال حكايتين في خطين متوازيين، حكاية جلال الدين الرومي الشاعر والفقيه والعلامة مع مرشده الروحي الدرويش شمس التبريزي، والحكاية المعاصرة حول إيلا وعزيز وهما ناقدة أدبية وروائي تركي يعيشان في عالمنا المعاصر، لتبعث المؤلفة برسالة مغزاها الحب وكيف يغيّر الناس من خلال التضحية.

اقرأ/ي أيضًا: بغداد.. خشبة تتحدث عن الخشبة

تعمل إيلا ناقدة في وكالة أدبية، ويقع تحت يدها رواية لتقيّمها تحمل عنوان "الكفر الحلو" لكاتب اسمه عزيز زاهارا، وتُعجب إيلا بالرواية التي تناقش فلسفة توحيد الأديان ووجود الحب داخل كل شخص، وتشعر بأن ما فعله شمس التبريزي في جلال الرومي يفعله عزيز بروايتها في حياتها التعيسة، حيث حوّلها من امرأة عادية إلى عاشقة مجنونة تضحّي بكل شيء في سبيل الحب، كما ضحّى الرومي يمكانته الدينية والاجتماعية في سبيل تلبية نداء أستاذه التبريزي، وتؤكد الرواية على أن العصرين الذين تدور فيهما أحداثها لا يختلفان، فكلاهما حافل بالصراعات الدينية وسوء التفاهم الثقافي والشعور العام بعدم الأمان والخوف من الآخر، وأنه لا شيء تغيّر في الحقيقة، وأننا لا نزال نعيش في الماضي تقريبًا، وفي أوقات كهذه، تكون الحاجة إلى الحب أشد من أي وقت مضى. هذا هو جوهر الرواية، ذلك التقاطع بين زمنين لطرح مفهوم إنساني يدعو إلى روحانية عالمية شاملة تكون بديلًا عن دعوات الجهاد والغزو الخارجي، فعلى الرغم من مقتل التبريزي بعد 3 سنوات من علاقته بالرومي على يد قاتل مأجور لا يختلف عن الإرهابيين الحاليين فإن الحكاية لا تزال باقية، حكاية الحب.

الانتشار الواسع لرواية قواعد العشق الأربعون لفت إليها أنظار بعض الفنانين ممن استهوتهم الخلطة الروائية، من بينهم الكاتبة المسرحية المصرية رشا عبد المنعم التي كتبت معالجة مسرحية للرواية حملت اسم "قواعد العشق 40"، قدّمته فرقة المسرح الحديث مؤخرًا وكان نصيبه من الثناء مشابهًا لما لاقته الرواية. كتبت رشا عبد المنعم دراماتوراج العرض المسرحي وأشرفت على ورشة الكتابة التي شملت كل من ياسمين إمام وخيري الفخراني، أما الإخراج فكان لعادل حسان، وهذا الأخير أقنع صانعي العمل بضرورة إدخال تعديلات على القصة الأصلية لصالح إضفاء "حالة روحانية" على المعالجة المسرحية، فقام بحذف الجزء العصري المتمثل في التجربة الإنسانية للكاتبة رشا عبد المنعن وركّز على الشخصيتين الرئيسيتين، الرومي والتبريزي، كما جعل مشاركة فرقة المولوية العربية للرقص والإنشاد ركنًا أساسيًا من العرض، وأدت دورًا أقرب إلى الجوقة اليونانية في المسرح الكلاسيكي.

اختار المسرحيون إذن زمنًا واحدًا وهو القرن الثالث عشر وحكاية واحدة، ما جعل النصّ المسرحي أشبه بنصف غير مكتمل، فالرواية الأصلية تبنيها الكاتبة بالأساس على التقاطع بين الماضي والحاضر، وربما يكون ذلك أيضًا هو السبب الأكبر في نجاحها. ولكن في التمصير المسرحي للرواية، تركت رشا عبد المنعم وفريق العمل الأمور لتدور الأحداث بصورة نمطية في فضاء مسرحي لا يتغير على مدى ساعتين، حيث قسّم مصمم الديكور هذا الفضاء إلى مساحات خاصة بكل شخصية، وهي أزيد بالطبع عن شخصيات الرواية، بوضع 8 غرف/علب مفتوحة في قلب المسرح، أربع أسفل وأربع اعلى في دورين، في الجزء العلوي راقص على اليمين وآخر على اليسار وبينهما غرفة الرومي، مكتبته وخلوته التي سيعتزل فيها العالم 40 يومًا مع أستاذه شمس التبريزي، والغرفة الرابعة فيها كبير الدراويش الذي لن يبرح مكانه مثل الراقصين، وفي الأسفل راقص ثالث إلى أقصى اليمين وإلى جواره المنشد وفرقته، وسوف يخرج المنشد من الغرفة ويعود إليها وإلى جواره مدخل سوف يدخل ويخرج منه الممثلون، والغرفة الرابعة فضاء بيت الرومي، وإلى أقصى اليسار منبر مسجد سوف يكون البطل في مشهد لقاء الرومي بالتبريزي.

هكذا، لن يتغيّر الديكور طوال زمن العرض، وكأن كل مساحة مشهد مسرحي مستقل، بعضها ثابت وبعضها متغير، كمن يشاهد شاشة تحوي العديد من المشاهد المتزامنة، وهي فكرة، على قدمها، أسهمت في إثراء المشهد المسرحي من خلال فتح مساحة أكبر للخيال، حيث جمعت عوالم كثيرة في لحظة واحدة، وجعلت المخرج يقدّم بعض المشاهد بأسلوب المونتاج المتوازي. وثمة مشاهد أخرى في مقدمة المسرح جسّدت مجموعة من الأحداث منها ما يدور في السوق أو يعرض لأحوال الشعب، بالإضافة إلى الحانة وبيت البغاء، أي ما هو خارج عالم التصوف والروحانيات، حيث يتقاطع هذان العالمان من خلال حركة الشخصيات، مثلما يقف شمس التبريزي أمام نافذة إحدى فتيات الليل ليخبرها برغبته أن يسقي وردة، يسقيها حبًا حتى تتغير، أو حين يهبط جلال الدين الرومي إلى الحانة ويشتبك مع روّادها كما أمره التبريزي ويحضر له الخمر، وكأن هناك عالمين متناقضين متجاورين ومتوازيين. 

لم تكتب شافاق روايتها لتسرد حكاية الرومي والتبريزي وحسب، كما فعلت المسرحية المصرية المأخوذة عنها!

وما بين هذه الأحداث والمشاهد من أشعار المتصوفة والعارفين، وعلى رأسهم ابن الفارض، وقواعد العشق الأربعين التي وضعها شمس التبريزي؛ يبدو للمشاهد أنه في حضرة عرض سطحي عن التصوف والعشق الإلهي يخبره عن عن وحدة الأديان والمحبة التي تجمعها، فكل مفردات العرض تؤكد هذه الفكرة، بعد أن قرر فريق العمل استبعاد الجانب المعاصر من الرواية الذي يجسّد رؤية الكاتبة رشا عبد المنعم، لينتزع الرواية من سياقها الإنساني إلى السياق الديني البحث، وينتهي العرض بكلمات من نوعية "سنرقص وحدنا للحب والسلام، قتلوا شمس التبريزي الذي يرقص"، أو "يموت عاشق يولد عاشق جديد، ديننا دين العشق".. كلمات مباشرة تحمل رسالة واضحة، يدعمها ما تقوم به فرقة المولوية من رقص وإنشاد موجَّه للجمهور العام والاستشراقي، في صورته السلبية، وهو الأمر الذي يجعل رواية إليف شافاق تحمل وزنًا مضاعفًا مقارنةً بتلك المعالجة المسرحية المنقوصة والساذجة، فلم تكتب شافاق روايتها لتسرد فقط حكاية الرومي والتبريزي أو تسرد القواعد الأربعين للعشق كما حددها التبريزي، لكن لتمزج بين هذا التاريخ القديم وحكاية إيلا وعزيز لتضع معادلًا موضوعيًا للحكاية في عصرنا الحالية.

اقرأ/ي أيضًا: عيسى شوّاط.. الاستثمار في بلاغة الجسد

فالرومي، العلامة والفقيه الإسلامي، تزوّج من امرأة مسيحية ولم يحب أن يتزوج غيرها، فيما عشقت إيلا، اليهودية الأمريكية، مؤلفًا مسيحيًا اعتنق الإسلام وهام حبًا بفلسفة التبريزي، ومات بسرطان الجلد ودُفن في قونية إلى جوار قبر الرومي، وهذه العلاقات، على سخافة اتباعها التام لشروط "البيست سيلر"، تؤكد امتداد فلسفة الحب التي طرحها التبريزي من خلال جدل كبير بين زمنين، ولكنها تحوّلت في العرض إلى مجرد حكاية تدعو إلى الحب والتسامح في خطاب مباشر لا يتجاوز حدود الكلمات، فكما اختار الإعداد الحل الأسهل بحذف الحكاية المعاصرة ووضع العرض في زمن واحد، اختار المخرج أيضًا نفس الأسلوب حين ذهب إلى حشد العرض بالإنشاد الصوفي ورقص المولوية "السياحي للغاية"، وليس بالحوار والجدل وطرح الأسئلة. 

"قواعد العشق 40" عرض مسرحي لتقديم إجابات مجانية ومريحة عن أشياء جميلة كالحب والتسامح، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ بل يتخطّاه إلى الطريقة التي يفعل بها فريق العمل ذلك، فيقوم بإزحام العرض المسرحي بخلطة مضمونة الرواج بين المشاهدين "الكاجوال" من الإنشاد والرقص الصوفي على حساب أحداث كثيرة محذوفة من النص الأصلي، ولعل ذلك يتضح في أغلب الكتابات التي اهتمت بتغطية العرض والحديث مع صنّاعه والتي أفاضت بالمديح على "رسالة" و"روحانية" المسرحية، فماذا لو قُدّم العرض بدون بهرجة الرقص والإنشاد الصوفي؟ ولماذا لم يفكر فريق العمل في تقديم عرض عن علاقة شمس التبريزي والرومي بعيدًا عن إليف شافاق وروايتها أصلًا طالما أنهم مهتمون بهذين الشخصين إلى هذه الدرجة؟ ربما لم ينتبه فريق العمل إلى عبارة شمس التبريزي التي يقول فيها " إنك عندما تكسر إحدى الجرتين فإن الجرّة الأخرى تنكسر أيضًا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"كوما كافيه".. وكر الفن السوري في هامبورغ

فريد عمارة.. سحر البساطة