06-يناير-2017

أحد السجون الجزائرية (فايز نور الدين/أ.ف.ب)

هناك أمثال وحكم شعبية نكبر على ترديدها يوميًا، لكنّنا لا ننتبه إلى جرعة الحكمة التي صبّها الأجدادُ فيها، إلا بعد أن "يقع الفأس في الرّأس"، فنستحضرها من جديد، لندرك كم كانوا حكماء ومتأمّلين وعارفين بحقائق الزّمن والإنسان. نجد من تلك الأمثال "اللي ما يقرا للزّمان عُقوبْ يطيح على فمّو مكبوبْ"، ويعني أن الذي لا يُراعي عاقبة فعلته، سيقع حتمًا في مشكلة ترديه أرضًا.

لا يحتاج الكاتب داخل السجن إلى أن يُشغّل خياله، ذلك أنه يجد نفسه أمام كم هائل من الحالات التي تمكنه من الانخراط في عمل سردي عميق

هذه من الدّروس التي يقول الممثل المسرحي الجزائري قادة تاتي، 1990، إنه خرج بها من تجربة السّجن التي خاضها ما بين آذار/مارس 2015 وآذار/مارس 2016، بسبب تأخره في دفع غرامة مالية مستحقّة للخزينة العامّة. "يدجّجنا محيطنا منذ صغرنا بالتحذير من فعل ما يجرّنا إلى السّجن، بالموازاة مع تدجيجه لنا بما يحثّنا على الذهاب إلى الفضاءات الفاضلة، مثل المدرسة، لكنّ بعضنا يجد نفسه، رغم ذلك كلّه، يتسرّب من المدرسة ويلتحق بالسّجن. إنها واحدة من المفارقات الإنسانية الجديرة بالتأمّل".

اقرأ/ي أيضًا: نيستاني.. فنان إيراني دخل السجن بفعل حشرة

يقول تاتي لـ"ألترا صوت" إنه شرع في كتابة تأمّلاته في السّجن، بمجرّد دخوله، حتى يستفيد منها مستقبلًا بصفته مسرحيًا، لكنّه اكتشف أنهم يفتشون السّجناء تفتيشًا دقيقًا، كلّ أسبوعين، ويصادرون كل ما يُشكّل شبهة، بما في ذلك الكتابات التي تتضمّن معلوماتٍ عن أسرار السّجن ومناخاته. "لا يحتاج الكاتب داخل فضاء السّجن إلى أن يُشغّل خياله، ذلك أنه يجد نفسه أمام كمٍّ هائلٍ من السّلوكات والحالات والمقامات والأمزجة والنفسيات والذّهنيات التي تمكّنه من الانخراط في عمل سردي عميق".

يتحفّظ السّجين في البداية، يقول محدّثنا، حتى يحيط نفسه بهالة من الهيبة، لأنه يدخل حاملًا حكمًا مسبقًا مفاده أنه سيكون ضحية سهلة على أكثر من صعيد، لكنه سرعان ما يطرح تخوفاته المختلفة، وينخرط في واقعه الجديد بكلّ مفرداته، فهو لا يستطيع أن يبقى منعزلًا. "الحاجة إلى العيش المشترك في السّجن أكبر منها في الفضاءات المفتوحة، خاصّة بالنّسبة للمحكوم عليهم سنواتٍ طويلةً. يشرح: "كم تستطيع أن تصمد من غير أن تحتاج إلى حماية ما أو خدمة ما، ولو كانت مجرّد سيجارة؟".

تجعل هذه الحاجات السّجينَ، في أوقات معيّنة، ملزمًا بأن يعلن الولاء لنزيل قوي ومهاب، على أن يترجم ولاءه إلى خدمات، كأن يتنازل له عن بعض ما تتضمّنه "القفّة"، التي تجلبها له الأسرة خلال فترات الزّيارة، أو إلى نصرة له في المشادّات والشّجارات التي يخوضها ضد منافس من المنافسين لبسط هيمنته. "لقد تعلّمت أن أكون منتميًا من غير أن أفقد شخصيتي، وأن أخالط الآخرين، من غير أن أذوب فيهم، وهو الخيار الذي لم تعد الأسرة العربية تحسن تربية أولادها عليه".

يُشكّل السّجناء مجموعاتٍ صغيرةً داخل القاعة الواحدة، تسمّى الواحدة منها في قاموس السّجن الجزائري "القربي"، ومن الأمور التي تتفق عليها أن تأكل معًا، وتقتسم كلّ ما يصل الواحد منها من الخارج، "خاصّة الأشياء التي يشتهيها السّجين مثل الفاكهة والشوكولاتة والسّجائر والعطور، ويحدث أن يكون أحدهم بلا أقارب ولا أصدقاء فلا يستثنونه. صحيح أن كثيرًا من الخدمات مشروطة في السجن، لكنني لاحظت أن التكافل بين السّجناء في الجزائر، أفضل منه في الشارع والأسرة والمؤسسات المدنية، وهو معطىً جدير بالدّراسة أيضًا".

الحاجة إلى العيش المشترك في السّجن أكبر منها في الفضاءات المفتوحة، خاصّة بالنّسبة للمحكوم عليهم سنواتٍ طويلة

اقرأ/ي أيضًا: عبد الحميد الجلاصي.. حصاد السجن التونسي

يقول تاتي إن كلّ قفة تدخل السّجن، تخضع لرقابة صارمة من طرف حرّاسه، غير أن "عبقرية" السجناء، كثيرًا ما تسعفهم بحيل تجعل بعض الممنوعات تصل إليهم. "أصرّ على رفضي أن أكشف عن تلك الحيل، ما دامت اعترافاتي ستقرأ، وهو ما قد يؤدّي إلى تنبيه إدارة السّجون إليها، فتحرم منها النزلاء". يشرح: "على إدارة السّجون أن تفعل ذلك بنفسها، فليس من النبل أن أفعل ذلك، ثمّ إن صورة "القوّاد" بين السجناء بشعة جدًّا، حتى أنهم يضربونه ويخلقون له المشاكل المختلفة. قد يسامحك السّجناء على كل شيء، ما عدا الوشاية وكشف الأسرار".

واعترف تاتي بأن الرجل الجزائري لا يبذل جهدًا في فهم الحالات النفسية التي تعانيها زوجته أو أخته الماكثة في البيت، "بعضهم يمنعون زوجاتهم أو أخواتهم من متابعة المسلسلات الدرامية، ولا ينتبهون إلى أن ذلك يشكل متنفسًا لهن، في ظل غياب برامج أسرية واجتماعية للترفيه. لقد كنا في السّجن ننتظر يوميًا بفارغ الصبر موعد بث المسلسل التركي، وكان ذلك يًشكل لنا ساعة مهرّبة من الأحلام، بفعل وطأة الفراغ والملل والرّوتين".

عرف تاتي، الذي شارك في مسرحيتين بعد خروجه، مزيدًا من الأسرار الإنسانية الخاصّة بفضاء السّجن، "بعدما تشاجرتُ مع أحدهم، بدافع من عزّة نفسي، فعاقبتني الإدارة بأن أخدم في المطبخ وأوزّع الخبز على الزنازن المشكلة للسّجن، بما فيها زنزانة المحكوم عليهم بالإعدام، وزنزانة المحكوم عليهم في قضايا الإرهاب، وزنزانة سجناء الرأي واختلاس أموال الدّولة". ويضيف: "كان كلّ واحد منهم يشكّل لي تجربة إنسانية جديرة بأن يستنطقها الرّوائيون والقصّاصون والمسرحيون والسينمائيون، ويقفوا على تفاصيلها المثيرة للدهشة". ويختم: "بالمناسبة: لماذا بقي السّجن مناخًا بعيدًا عن هؤلاء؟".

[[{"attributes":{},"fields":{}}]]

اقرأ/ي أيضًا:

موريتانيا.. القروض الجامعية تودي إلى السجن

"مهند"..الشاب الذي واجه السجن واللوكيميا"