18-يناير-2017

لقطة من الفيلم

كل شيء هادئ في جزيرة لامبيدوزا التي اقترن اسمها بالمأساة. وكل شيء هادئ في البحر الذي تأتي منه استغاثات البشر التي تبدأ وتنتهي بعبارة "أرجوكم أنقذونا"، وريثما تختنق الأصوات وتغيب عن وجه الماء وعن ارتدادات الصوت.

يعيش في لامبيدوزا ومثل أيّ مكان على الأرض رجال ونساء وأطفال يبحثون عن شكل ومعنى لحياتهم، يتأثرون بعيشهم أمام البحر في حال هبت عواصف وقطعت رزقهم، ولكن عاصفة أخرى هبت على أهل المكان الفقير والمهمش منذ عشرين عامًا، عندما تحولت شواطئ جزيرتهم إلى مرفأ يتلقف كل ما يرميه البحر، يحمل سفنًا محطمة وأخرى تم انتشالها من قاع البحر.

أمّا عن الأعداد الواصلة إلى هناك، إلى إحدى محطات رحلة اللجوء الأكثر خطورة التي يسلكها المهاجرون والهاربون من الحرب، فلا يقول أهل لامبيدوزا عنهم شيئًا.

في جزيرة لامبيدوزا لايمكن أن تغض النظر عن قوافل الموت القادمة، المكان الذي بات محطة للنجاة أو الموت

وبعيدًا عن التوصيفات رأيت في نومي أن العالم انتهى وجثث البشر المحروقة ملأت الأرض إثر وقوع حرب كبيرة دمرت البشرية، هذا ما طرأ للاوعي بعدما شاهدت الفيلم الوثائقي "نار في البحر" للمخرج الإيطالي جيانفرانكو روسي. الذي يحرض مجموعة أسئلة أولها كيف لا يفعل العالم شيئًا أمام كل الموت هذا؟

وبعيدًا عما رأيت يسير الفيلم خلال مشاهده والتي أكثر ما يميزها أصوات فرق الإنقاذ واختلاط العديد من اللغات بين مجموعة من الناس تحاول التفاهم وبعض الفواصل الموسيقية.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "أنا أولغا هيبناروڤا".. خيارات داعشية

مشاهد للحياة اليومية على الجزيرة بوسعها كشف الغطاء عن تلك القسوة التي تقوم عليها الصور حول مأساة الهجرة عبر البحر، هناك من ينقب في هذه القسوة عن حقيقة مايحدث في الجزيرة. فلماذا يموت البشر خلال طريقهم لحياة أفضل؟

يضع الفيلم الموت والحياة قبالة بعضهما في محاولة منه لتكثيف الأول بهدف تحريك الثاني، ففي لامبيدوزا لا يمكن أن تغض النظر عن قوافل الموت القادمة، المكان الذي بات محطة للنجاة أو الموت.

كل هذا على مقربة من الطفل صامويل الذي يحمل بشكل ما هوية الجزيرة ولديه الكثير من الأشياء التي يقولها من خلال ما يقوم به، هو الذي يخاف ركوب البحر يتعامل مع الطبيعة من حوله ويُكيفها على مزاجه، يصنع مقلاعه الذي يطال به كل شيء، يعيد تشكيل نبات الصبار على هيئة بشر يرميهم بالحجارة ثم يلصق جراحهم باللاصق الأسود.

وحالما يُصاب صامويل بكسلٍ في عينه اليسرى التي يغمضها أثناء اللعب، فكم من مرة راح يقصف بعين واحدة. مثله مثل عالم شاسع يُضرم الحرب بعين واحدة فيحترق الجميع في البحر.

هربنا من الحرب لم نعد نستطيع العيش في نيجيريا، عبارة من شهادة شاب وصل حديثًا إلى لامبيدوزا، يحكي حكايته وكأنها صلاة تضرع أو رسالة عليه إخبارها للجميع، هربنا من انعدام توفر الحياة إلى الموت بشكل آخر، إلى أن مات كثيرون على طريق الخلاص من مآسي العالم.

لا راوٍ في الفيلم يحكي حكايته، فالحكاية تلون وجوه الواصلين والمقيمين على الجزيرة، وحده الطبيب يمكنه أن يعرف حال هؤلاء الذين قضوا سبعة أيام جالسين في أسفل القارب، والذين دفعوا مبلغًا أقل ممن يحق له الجلوس عند المقدمة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "أهلًا بكم في هارتمان".. حرب على التنميط

الجلوس أسفل القارب هو ليس أمرًا توصيفيًا شكلانيًا بالنسبة للمهاجرين، بل هو جوهر فكرة الموت، كأن تحمل معك مكونات العيش كالماء والنار وتموت بينهما، النار التي أصبحت رمزًا أيضًا بالنسبة لمشكلة رحلات اللجوء، فالنار تلاحقهم في بلدانهم وفي حروبها، في رحلة اللجوء ومخاطرها، وأيضًا في قلب البحر الذي غالبًا ما يفيض بجثثٍ متيبسة.

لا راوٍ في فيلم "نار في البحر" يحكي حكايته، فالحكاية تلون وجوه الواصلين والمقيمين على جزيرة الموت والحياة تلك

مشاهد الفيلم التي تقوم على امتزاج بين البياض والسواد والتي تشبه إلى حدّ كبير ما يجري على الجزيرة. السواد الذي لايتأثر به أهل المكان، فتبدو لهم فوكو مارا أو نار في البحر أغنية من أغاني الحرب العالمية الثانية، عندما اشتعل البحر وقتها، فعاد ليشتعل اليوم بكارثة تبدو بحدّ ذاتها حربًا على البشر الهاربة من الموت.

أمّا البحر ذاته فهو حاضر كتكوين بصري أساسي للحكاية التي تبدأ منه، ولكن كل مرة تأخذ لونًا مختلفًا لها. فالبحر أسود على المهاجرين الذي إن وصلوا إلى الجزيرة تكون الحياة قد وهبتهم فرصة جديدة، وإن لم يصلوا ستكون قوارب الإنقاذ مأواهم الأخير. وأبيضًا على أهل الجزيرة كالمجهول والغائب الذي تصعب معرفته ويجب التدرب على الغوص فيه. بينما يبدو أزرق للصيادين ممن يجيدون الغوص والصيد ولا عائق لهم إلاّ العواصف القوية التي تفقر حالهم إن استمرت. وغالبًا ما يبدو أحمر من عيون المخرج روسي الذي فتح عدسة كاميرته لتكون عين الوعي التي يجب أن ترى كارثة البحر المتوسط.



اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "هي".. الاغتصاب كغريزة معكوسة

6 من أجمل الأفلام التي شاهدتها في 2016