27-ديسمبر-2017

لقطة من الفيلم

تنويه: يحتوي هذا المقال على سرد ﻷحداث الفيلم بما فيه مشهد النهاية

عند الحديث عن أهم مخرجي السينما العالمية، لا بد من الإشارة إلى المخرج السويدي إنغمار بيرغمان باعتباره يمثل علامة فارقة ومدرسة متفردة في تاريخ السينما. بيرغمان تميزت أفلامه بقوة الأفكار المطروحة وصلابة القصة رغم قصر مدتها الزمنية وقلة الإمكانيات المتاحة -وقت صناعتها - مما جعله مصدرًا لإلهام العديد من المخرجين الكبار في العالم بعد ذلك، مثل ستانلي كوبريك الذي صنع مدرسة فريدة من نوعها هو أيضًا.

أفلام بيرغمان تعج بالمعاني الرمزية والصراعات الفلسفية والملاحم الدرامية بشكل غير مصطنع على الإطلاق بل تتوالى أحداث قصة كل فيلم بسلاسة شديدة

لعل من أهم ملامح عبقرية إنغمار بيرغمان؛ هي قدرته الفائقة على إقحام المشاهدين داخل عقله من خلال أفلامه ذات الإمكانيات المحدودة كما ذكر سلفًا. فأفلام إنغمار بيرغمان تعج بالمعاني الرمزية والصراعات الفلسفية والملاحم الدرامية بشكل غير مصطنع على الإطلاق بل تتوالى أحداث قصة كل فيلم بسلاسة شديدة ليطرح بيرغمان أسئلته التي تدور برأسه على أعين المشاهدين.

اشتهرإنغمار بيرغمان بأفلامه الفلسفية مثل Wild Strawberries الذي يحكي قصة رجل مسن يبحث عن معنى لحياته بعد أن أوشكت على الانتهاء. وThe Seventh Seal الذي تدور أحداثه حول فارس صليبي عائد لبلدته يظهر له ملك الموت فيطلب منه أن ينافسه في مباراة للشطرنج إن فاز فيها يتركه يعيش لفترة أطول وإلا فليقبض روحه بعدها وأثناء المباراة يدور نقاش فلسفي طويل بين الاثنين.

للمخرج إنغمار بيرغمان أيضًا العديد من الأفلام الاجتماعية التي تناولت العلاقة بين الأزواج والتي توجها بمسلسله الشهير Scenes From A Marriage والذي ربط البعض بين توقيت عرضه وبين ارتفاع معدلات الطلاق في السويد.

من المهم أيضًا معرفة كيف أثرت حياة إنغمار بيرغمان الشخصية على محتوى أفلامه، إذ أن إنغمار بيرغمان نشأ نشأة دينية حيث كان والده هو القس الشخصي لملك السويد، وقد رباه والده بشكل صارم وقاسٍ، فكان يعاقبه على أفعال طفولية بريئة كالتبول اللاإرادي.

اقرأ/ي أيضًا: سينما الأسئلة المُعَلّقة.. في مديح يورغوس لانتيموس

ورغم أن إنغمار بيرغمان فيما بعد ذكر أن بداية فقدانه الاهتمام بالمسائل الدينية حدث وهو بعمر الثامنة فإن الصدمتين الأكبر بالنسبة له – بعد نضوجه - كانت مذابح التطهير العرقي والديني التي حدثت على أيدي النازيين- وكان بيرغمان لفترة معجبًا بالنازية - وإلقاء القنابل على هيروشيما وناجازاكي.

بالنسبة للمخرج إنغمار بيرغمان كان وقوع هاتين المأساتين كان كافيًا بالنسبة له ليسأل السؤال الأزلي القديم المعروف في الفلسفة بـ"معضلة الشر" وهو: "إن كان الله موجودًا فلماذا توجد كل هذه الشرور في العالم؟". بالنسبة للمخرج إنغمار بيرغمان فإن محاولة البحث عن الإجابة لهذا السؤال ظهرت جليًا في العديد من أفلامه مثل Winter Light الذي يتناول قصة قس يعاني من أزمة إيمانية -وربما كانت شخصيته إسقاطًا على إنغمار بيرغمان نفسه - وفيلم The Virgin Spring الذي يتناول مشكلة الشر بالتحديد.

تدور أحداث الفيلم في قرية ريفية صغيرة في فترة العصور الوسطى في وقت لم تكن المسيحية قد انتشرت وهيمنت على العالم القديم بعد، إذ كان لا يزال البعض يؤمن بالوثنيات الأوروبية القديمة، وفي الدول الإسكندانافية تحديدًا - مثل السويد - كانت الوثنية المنتشرة هناك تقدس وثنًا يدعى "أودين" والذي -طبقًا للأسطورة- أنجب ولدين أحدهما يدعى ثور وهو الابن الخيّر والآخر لوكي وهو الابن الشرير.

في تلك القرية يوجد طقس سنوي يقيمه المسيحيون حيث يتوجب على إحدى الفتيات أن تقوم بتوصيل الشموع إلى الكنيسة وفي ذلك العام يتوجب على "كارين" وهي الفتاة الوحيدة ﻷبيها وأمها أن تقوم بهذا الطقس.

اشتهر بيرغمان بأفلامه الفلسفية مثل Wild Strawberries الذي يحكي قصة رجل مسن يبحث عن معنى لحياته بعد أن أوشكت على الانتهاء

على النقيض من شخصية كارين الفتاة المدللة والبريئة توجد شخصية إينجري الخادمة الغارقة في أوحال الخطيئة، فهي تعبد أودين في السر كما أنها حبلي بطفل مجهول النسب. ترافق إينجري كارين في رحلتها ولكنهما تفترقان في منتصف الرحلة بسبب بعض الهواجس والمخاوف التي تنتاب إينجري خلال الطريق، تكمل كارين الطريق بمفردها ولكنها تقابل عصابة قطاع طريق مكونة من ثلاثة إخوة.

ورغم عطف كارين عليهم في البداية وإعطائهم جزءًا من طعامها ظنًا منها أنهم مجرد فقراء مشردون إلا أن وجههم القبيح يظهر سريعًا فيقومون باغتصابها وقتلها وسرقة ملابسها الفاخرة التي ارتدتها خصيصًا لهذا اليوم.

وفي محاولة منها للتغلب على هواجسها وصراعها الداخلي بين عقيدتها الوثنية وكونها تعيش مع عائلة مسيحية تعاملها معاملة حسنة، تحاول إينجري اللحاق بكارين لكنها تكتفي بمشاهدة الجرائم التي ارتكبتها عصابة الإخوة الثلاثة الذين يتجهون بعد ذلك إلى المنزل الذي تقطنه عائلة كارين ليطلبوا من والدها - الذين لا يعرفون من هو -أن يسمح لهم بالمبيت في مزرعته في هذه الليلة الباردة. كأي مسيحي متدين يوافق الأب - الذي لا يعرف ماذا فعلوا بابنته- على ذلك ولكن سريعًا ما يكتشف فعلتهم بابنته فيقرر قتلهم.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الصرخة المخنوقة".. سوريات على مذبح الاغتصاب

يبدو الإله المصلوب -طبقًا للتصور المسيحي- هنا عاجزًا عن الانتقام في رأي إنغمار بيرغمان مخرج الفيلم: فقبل أن يشرع الأب في الانتقام يقوم بأداء طقس وثني قديم وكأن أودين -في رأيه- إله قوي يستطيع مساعدته في الانتقام على النقيض من التصور المسيحي المفرط في التسامح القائل "أحبوا أعداءكم باركوا لاعينكم".

وبالفعل يقتلهم الأب ولكنه سريعًا ما يشعر بالذنب ليبدأ في مناجاة الإله مرة أخرى طالبًا الرحمة والغفران بعد أن استوعب مدى فداحة فعله. وكرغبة منه في التكفير عن ذنوبه يبحث الأب عن جثمان ابنته ليدفنها ويقرر بناء كنيسة في المكان الذي قتلت فيه.

كأغلب أفلام إنغمار بيرغمان هناك العديد من المعاني الرمزية التي يحاول من خلالها إيصال ما يدور برأسه إلى المشاهدين، فعلى سبيل المثال تبدو الرحلة التي تخوضها كارين وإينجري معًا بمثابة رمزًا لرحلة الحياة التي يقطعها البشر كلهم الأخيار والأشرار على السواء.

إلا أن عودة إينجري الشريرة - التي تعترف بذنوبها إلى والد كارين في النهاية - وحدها دون كارين الطيبة التي تموت ميتة بشعة ترمز إلى أصل المعضلة التي يعاني منها بيرغمان وهي انتصار الأشرار على الأخيار في هذا العالم.

فإينجري بكل مشاعرها السيئة لا تموت وعصابة الأخوة الثلاثة يرتكبون جريمتهم قبل أن يكتشفها الأب الذي يشعر بالذنب لانتقامه منهم وكذلك الأم بينما كارين التي ترمز للبراءة هي أول من تلقى حتفها وكأن لا مكان للبراءة في هذا العالم الموحش الذي لا يبقي فيه سوى مجموعة من الذئاب المتفاوتين في درجات الشر.

هنا يتوجه إنغمار بيرغمان - من خلال الأب الذي يقوم بدوره الممثل ماكس فون سيدو - بسؤال الإله في النهاية عن السبب الذي جعله يسمح بحدوث كل هذه الشرور. ورغم أن الأب يقر بعجزه عن فهم مشيئة الإله إلا أنه - في نفس الوقت- يقر أيضًا بأنه لا يستطيع التعايش مع نفسه إلا إذا طلب المغفرة من الإله أيضًا في مشهد يرمز لقمة التناقض البشري وتقلب أحوالهم وأفكارهم ومشاعرهم في ثوان معدودة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Gerald’s Game".. الرعب بأسلوب مختلف وخيال مبهر

بينما يوجد في العالم مؤمنون حسموا أمرهم بوجود إله خالق لهذا العالم مدبر لشؤون هذا الكون، وملحدون يرفضون الإيمان بهذا كله يوجد أيضًا من اصطلح على تسميتهم باللاأدريين أي الذين لا يعرفون إذا كان هناك إله أم لا، وإنغمار بيرغمان كان واحدًا من هؤلاء ورغم أن الكثيرين ممن يضعون أنفسهم تحت هذا التصنيف هم في الحقيقة غير مهتمين على الإطلاق ببحث هذه المسألة فهم "لا مهتمين" أكثر منهم "لا أدريين" أو حائرين.

إلا أن حيرة إنغمار بيرغمان وتردده حقيقيتان بالفعل كما يظهر في هذا الفيلم في مشهد النهاية ففور إعلان الأب عن عزمه بناء كنيسة ينفجر ينبوع من المياه تحت جثمان كارين لتغتسل به إينجري، ويقوم اﻷب والأم بتنظيف وجه كارين وهكذا يرمز "ينبوع العذراء" (كما هو اسم الفيلم) إلى رغبة إنغمار بيرغمان في الإيمان وأن يكون لديه أمل حقيقي في الحياة بسبب هذا الإيمان وإلى عدم قدرته على فعل ذلك بسبب ما شهده من شرور في حياته وهو ما يفسر حيرته وتردده.

من المهم معرفة كيف أثرت حياة بيرغمان الشخصية على محتوى أفلامه، إذ أن بيرغمان نشأ نشأة دينية حيث كان والده هو القس الشخصي لملك السويد

حينما تكلم الفيلسوف الدانماركي سورين كيركيغارد عن الإيمان بوجود إله لإيجاد معنى للحياة، وصف الإيمان بأنه ليس فعلًا عقليًا بالكامل بل جزء منه قلبي، لذلك استعمل تعبير "قفزة الإيمان" Leap Of Faith ليصف هذا الجزء، اﻷمر الذي رفضه فلاسفة آخرون مثل ألبير كامو الذي وصف هذا الفعل بأنه خروج عن قواعد الفلسفة أو "انتحار فلسفي" على حد تعبيره. وفي حالة إنغمار بيرغمان (الذي صنع أفلامًا تعبر عن حيرته ببراعة) فهو لم يكن قادرًا على القيام بتلك القفزة الإيمانية رغم رغبته الشديدة في ذلك لعلمه بأنه إذا لم يكن هناك إله فإن هذه الحياة التي نحياها جميعًا بكل الرعب والشرور والكوارث التي تملأها لا معنى لها على الإطلاق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جولي دلبي: على الناس الاهتمام بجوهرهم الداخلي

ديزني تستحوذ على فوكس.. هل تحتكر مستقبلًا خدمات البث عبر الإنترنت؟