30-أكتوبر-2018

أفرو باسالديلا/ إيطاليا

"فراغ" كان هذا هو عنوان كتابه الأخير الذي حقّق نجاحًا باهرًا هذه السنة. وفي أحد اللقاءات الصحفية سأله أحد الصحفيين عن سبب موقفه المتشائم من الحب، والذي يظهر جليًا في شتى كتاباته ابتسم ابتسامة حسرة ورد قائلًا:

"أنا لا أحكم على الأفراد وما يعتقدون أو على أفكارهم وقناعاتهم، ولا حتى كيف يتمثلون هذا الحب أو يعيشونه، كما أني لا أفرض من خلال كتاباتي نمطًا أو توجيهًا لإحساس معين، فكل واحد منا يستحق أن يجرّب، لكي يعرف بأنه إنسان حقًا. إننا نأتي إلى الحياة لنعيش أشياء تطابقنا ولنتقمص شخصية اختيرت لنا مسبقًا، وحتى لو أخطأ القدر ولم ينصف أحدًا في مسألة تقسيم الأدوار لا يجب أن يكون جبانًا ويرضى بما قدم له ويجلس مكتوف الأيدي ينتظر، ولا يحارب لينتشل حقه بالقوة. وأنا من أولئك الذين أخذوا دورًا ليس لهم لكنهم شعروا وفهموا بأن كل شيء هنا لا يشبههم فصارعوا لنيل ما لهم. أنا لم أخلق لعيش أشياء لا تطابقني. وفي مسيرتي للبحث عن العيش اكتشفت أن الحب كذبتنا الصادقة كما قال درويش. عندما نقع في الحب نعيشه بأحاسيس ومشاعر قوية غالب ما نشعر بها تجاه أحد من جنسنا تكون صادقة لدرجة تجعلنا نشعر كما لو أننا أبطال للأساطير اليونانية، التي تفسر كل شيء حسب ما تريده وليس حسب ما يجب أن يفسر به، وهذا ما يجعله يرقى إلى مستوى الكذبة التي نصدقها لحاجتنا في تصديقها، ولكي نعتبر من الأحياء ونهرب من كلمة وحدة التي غالبًا ما نشعر بها في الليل، في النفس، في الازدحام، في الصمت، في الصراخ، في الخوف، وفي القوة أيضًا. بالنسبة لي وبكامل قناعتي علاقة حب في واقعي تساوي شك، لكنه شك من نوع آخر لا يؤدي بك إلى اليقين، بل إلى شك أعمق من قبله عكس الكراهية والحقد الذي نتقنه ونجيد عيشه بأدق تفاصيله كما أننا نختاره، لا لأننا نريده ونتلذذ بطعمه حين نتسبب في تذوق غيرنا لمرارته".

خيم صمت رهيب في القاعة كان أشرف متأكد أن ذلك الصحفي المتطفل لم يفهم شيء مما يجب أن يفهمه فقال بسخرية: "هل من سؤال آخر؟".        

 بعد الانتهاء من اللقاء ركب سيارته وفي الطريق عاد إلى مسامعه سؤال الصحفي، فقرر أن يغير وجهته فجأة توقف مقابل إحدى البنايات ينظر إليها في صمت. أشعل سيجارة وبدأ يسترجع شريط حياته، تذكر ككل عاشر من أيام أيار استيقظ أشرف بحماس وحب وشوق وشغف كبير، لأنه يوم مميز في علاقتهم عكس غيره من الأيام اتصل بها لعدة مرات ولم تجب على مكالماته، بعث لها رسالة هاتفيه يقول فيها: "هل نسيتِ موعدنا اليوم؟". لكنها لم تجبه قرر أن ينتظر والتمس لها أعذارًا وهمية، لكي يسكت بها تساؤلات عقله التي طالما تهرب من الإجابة عنها فقال في نفسه مجددًا ربما لم تسمع صوت الهاتف أو مشغولة بأمر مهم، أو أنها لا تزال في صالون التجميل وربما ذهبت لتشتري فستانًا يليق بذكرى تعارفنا، فهي تحب أن تبدو فاتنة وجميلة.. لم تكن تهمه هذه التفاصيل البسيطة التي كانت تبدو لها كل شيء بقدر ما كان يهمه أن يرى ذلك البريق الساحر بعيونها، وتلك الابتسامة الصادقة المنبعثة من أعماقها، وأن يشعر بفرحها وبطفولتها وهي تداعب بأحاسيسها وبحبها روحه. هذا ما كان يتمناه في كل لقاء يجمعه بها أراد بحبه لها أن يخلصها من سيطرة المظاهر عليها وأن يحررها من هوسها بجعل كل الناس يلتفون حولها وينبهرون بجمالها. كان يعلم أنها لا تشبهه في شيء كما أنها ليست الفتاة التي حلم بها، لكنه أحبها وأصبح همه هو إرضاؤها لا لشيء فقط، لأنه يحبها. بقي في المنزل ينتظر اتصالها أعد قهوته التي لا يمل منها وجلس في مكتبه يقرأ كتابًا ويرتشف القهوة بعشق وهيام كبيرين، لكنها لم تفارق خياله، كان يراها وهي تتجول بوسط الكتاب ويسمع صوتها يردد كل كلمة فيه، ويخترق عطرها الساحر وجدانه كلما قلب صفحة من صفحاته. لم يعد قادرًا على التركيز ترك الكتاب بسرعة هاربًا من قبضتها خرج من منزله آملًا أن ينسيه ازدحام الشوارع في غيابها كانت الشوارع ضيقة وميتة بالنسبة له. وجد نفسه تائهًا وسط أناس غرباء يمشون في صمت وفي عجل. لا أحد يلتفت إلى الآخر يغطون وجوههم بأقنعة زائفة خوفًا من أن تبدو عليهم ملامح الإنسانية التي تعتبر ضعفًا، وليس لها أي قيمة في عالم يمزق برعبه كل شيء جميل لا يعلم إلى أين وجهته، كان يفر من صراع أفكاره التي ترمي به هنا وهناك. في وسط كل هذا تلقى رسالة على هاتفه أخيرًا وبلهفة فتحها ليقرأ ما كتب بها "أعتذر لن أستطيع المجيء". وضع الهاتف بجيبه وضحك ساخرًا من نفسه ومن سذاجته، فهي لم تكلف نفسها بالاتصال حتى. أما هو فكان يأمل بأن أن يجعل من ذكرى تعارفهم ميلادًا لعلاقة رسمية بينهم.

أكمل سيره ليجد نفسه واقفا بالقرب من منزلها لا يعلم ما الذي أدى به إلى هناك بقي يراقب نافدة غرفتها لعله يراها فجأة. سيثير انتباهه صوت يشبه صوتها مشى باتجاهه شعر بحرارة تغمر جسده وبرعشة كما أنه أحس بدوار يقلب معدته، وبخوف شديد يجعل من نبضات قلبه تتسارع مع خطوات قدمه كلما اقترب من مصدر الصوت.

مرت بباله في أقل من دقيقة العديد من الصور والأحداث التي عاشها معها والتي تحيل إلى حقيقة تجاهلها دعا الله أن يكون هذا كابوسًا بمنامه، لكنه لمحها ولم تكن لوحدها بل برفقة شاب يقفون بمحاذاة سيارته الفاخرة ومن خلال تصرفاته معها اتضح له أنهما على علاقة. لم يقترب ولم يطرح أي سؤال وقف جامدًا في مكانه واكتفى بالنظر إليها وبتأمل ابتسامتها الماكرة ونظراتها الخبيثة. بدت له رخيصة حقيرة وقذرة لا تستحق حبه. شعر بالاشمئزاز منها ومن نفسه لأنه أحبها.

عاد إلى المنزل دخل وأقفل الباب عليه وهو لا يزال مصدومًا من حقيقتها قام بإطفاء كل الأضواء جلس وأشعل التلفاز لمشاهدة فيلم عنوانه "فراغ"، لكن هذه المرة لوحده وبدونها حتى نال النوم منه في الصباح الباكر دهب إلى البحر جلس أمامه وبتنهيدات متحررة منه إلى الفناء. تذكر يوم كان فيه كل شيء لا معنى له، وكيف حولت بغرورها قلبه المسكين إلى كومة قش مرمية ببحر النسيان، وكل محاولاته الصادقة والملحة على امتلاك قلب قاسٍ جافٍ خالٍ من الإحساس. تذكر يوم قدم لها وردة من حياة فأعدمت بداخله الحياة، وكيف كتب لها بدماء قلبه قصيدة جعلتها مجهولة المنتمى، متشردة الديار، وبدون تردد وضعتها بالقرب من النار فأحرقت بكرهها البياض الفار من الليل. تسرب إلى قلبه دخان أصابه بالاختناق. كانت كذبة صدقها وحين اكتشفها امتنع قلبه عن تكذيبها. لم يستطع فعل شيء لأنها لا تستحق أي ردة فعل على فعلتها. كل ما فعله أنه رمى بها خارج قلبه رمى بها بعيد حيت لا وجود إلى لأمثالها، وبقي ولا أحد غيره يراقب الأمواج، وبين مدها وجزرها صرخ صرخة لم يسبق له أن تجرأ على فعلها، وبها عاد إلى حياته، وبعد فترة التحق أشرف بالجامعة لإتمام دراسته. لم يخلق أي علاقة بعدها، ولم يعد يثق بأحد فأصبحت الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لتفريغ همومه وأحزانه.

في يوم، قرر أن يشارك ما يكتبه مع غيره ويخرج من قوقعته، وبالفعل قام بإصدار عدة كتب التي استطاعت ان تحقق نجاحًا كبيرًا، رمى سيجارته من نافدة السيارة وغادر متجهًا إلى منزله.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

الملاك في جحيمه

كواليس مراسم دفني