28-مارس-2017

بيكاسو خلال عمله على غرنيكا

على موقع صحيفة "الباييس" الإسبانية، كتبت ماريا دولورث خيمينز قصة حياة لوحة الغرنيكا، وكيف جالت أوروبا والولايات المتحدة، ونالت شهرة عالمية بصفتها أهم عمل فني يرمز إلى رفض الحرب في العالم، وعرضت في مقالها تفصيلًا لتاريخ اللوحة، وآراء النقاد حولها، وكيف اتخذت مكانتها الفنية الكبيرة.


عندما كلفت حكومة الجمهورية الثانية بيكاسو عام 1937 أن يرسم لوحة كبيرة، كانت إسبانيا غارقة حتى أذنيها في الحرب الأهلية التي أعقبت انقلابًا نفذه مجموعة من الجنود في الجيش الإسباني بقيادة الجنرال فرانكو. وقد استخدمت هذه اللوحة لتمثيل الدولة في جناحها بالمعرض الدولي للفن، وتقنيات الحياة المعاصرة في باريس، وهو معرض يشي بأوروبا التي عرفت الحكم الشمولي، ولكنها كانت بعيدة بمسافة عامين عن الحرب العالمية الثانية.

الاضطراب الذي ربط في خلجات بيكاسو الفردي بالعام، أثمر في أعماله في تلك السنوات

من جانبه كان بيكاسو الفنان المعترف به عالميًا، والمقيم في باريس في بدايات القرن، والمشهود له على حد سواء من قبل أولئك الذين شعروا بأنهم مدينون لقوة وتأثير الطليعيين، أو بالنسبة لأولئك الذين راهنوا على الكلاسيكيات الجديدة. ذلك الاضطراب الذي ربط في خلجاته الفردي بالعام، وأثمر نباته في أعماله في تلك السنوات، والتي صنفها هو نفسه على أنها "الأسوأ في حياته" قائلًا: إن قسوة الحياة في الثلاثينيات هددت بسحق العصر الذهبي للحداثة.

اقرأ/ي أيضًا: فان غوخ في قريتنا

التزم الرسام مع الجمهورية عام 1937 في كانون الثاني/يناير عندما سلم لوحتين بعنوان "الحلم والكذب لفرانكو"، ولكنه لم يبدأ العمل في اللوحة الكبيرة إلا عندما علم بالمذبحة التي حدثت في القرية الباسكية "لا جيرنيكا" في الـ26 من نيسان/أبريل عام 1937 من قبل القصف الألماني عليها على يد الفيلق كوندور. بيكاسو الذي لم يزر في حياته القرية، ولم يكن حتى على علم بوجودها، انفعل بعنف شديد لمعرفته بالقتل العشوائي للأبرياء الذي شعر أنه لا يخص هذه الحرب فقط، بل كل الحروب في العالم؛ شرع في ورشته الكائنة في شارع "ديس غراند أوغسطين" بعملية تصوير قامت بها دورا مار تجعل من اللوحة الدائرية الكبيرة تبدو وكأنها رمز دائري كبير للعالم. كثافة العمل الذي قام به، والذي امتد لأسابيع ظهرت من خلال سلسة من الأعمال التي قام بها بيكاسو في نفس الوقت، 60 قطعة بين رسومات ولوحات زيتية محملة كلها بشحنة معبرة كبيرة.

عندما قدّم بيكاسو اللوحة إلى العلن، تركز النقد على التوتر الحاصل بين الشكل والمضمون: لطالما كان ذلك مفتاح الأمر كله. ذمه النقاد الماركسيون من الشاب أنتوني بلانت وحتى الشاعر لويس أراغون، وأحيانًا دون أن يصرحوا بذلك مباشرة، وذلك لأن رفضه التجديد في القالب أعاقه عن تحقيق الكفاءة الرمزية في الدلالة الاجتماعية للواقعية. وعلى النقيض من ذلك فإن فنانين مثل أوزنفانت دافعوا عن اللوحة بقولهم: "الحقبة الزمنية التي يتناولها كبيرة وخطيرة ودرامية، وبيكاسو قد صنع عملًا يرقى لخطورة ما يعبر عنه". هذا الجدل الذي كان قائمًا حول علاقة الفنان بعصره بدا محوريًا في سياق التعبيرية التجريدية لمدرسة نيويورك.

قامت فيما بعد الغرنيكا بجولة حول أوروبا لتوعية الرأي العام بالوضع الإسباني حيث سافرت بين عام 1938 وعام 1939 إلى أوسلو وكوبنهاغن وستوكهولم وغوتنبرغ، ومن ثم إلى لندن وليدز وليفربول ومانشستر، وفي الأول من أذار/مارس عام 1939، انتهت الحرب الإسبانية بهزيمة الجمهوريين، وبدأت الحرب العالمية الثانية. خلال شهر أيار/مايو من نفس العام عُرضت الغرنيكا في معرض "فالنتاين جاليري" كرمز للنضال ضد الفاشية، وكأداة لمساعدة اللاجئين من الجمهوريين الإسبان، حتى تحولت اللوحة إلى تحفة فنية سياسية من بين أهم القطع الفنية في القرن العشرين. وإذا كانت الجولة التي قامت بها اللوحة في أوروبا قد أعطتها تلك السمعة الكبيرة، فإن عرضها في نيويورك مع المجموعة الأخرى من الأعمال التي لها علاقة بها غيرت سوء الفهم الذي سيطر على الفن المرتبط سياسيًا باللغات الواقعية.

قامت اللوحة أيضًا بجولة في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1939 (لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو وشيكاغو) الأمر الذي وسع رقعة الجدل النقدي حول علاقة الفن بالسياق السياسي الخاص بالحرب العالمية الثانية، وعندما عادت اللوحة إلى نيويورك في تشرين الثاني/نوفمبر، اتخذت مكانة محورية في المسيرة الفنية لأعمال بيكاسو. وقبل معرض الفن الحديث الذي أقيم عام 1939 كان بيكاسو بالفعل قد تحول إلى أسطورة ثقافية في القرن العشرين بين معاصريه الكبار، في التيارات الأخرى: التكعيبية والتجريدية والفن الفانتازي والدادايزم والسريالية.

لطالما كانت لوحة غرنيكا مصدر إزعاج لسلطات فرانكو بصفتها رمزًا فنيًا ضد الدكتاتورية

بعد عام 1939 أقامت اللوحة طويلًا في متحف الفن الحديث في نيويورك، وفتحت أبواب الجدل حولها، وقال ستيوارت ديفيس عن اللوحة: "إن الرسم في حد ذاته عمل اجتماعي".

اقرأ/ي أيضًا: كيف انعكس الكساد الكبير على الفن في أمريكا؟

كان الاحتفال ببلوغ بيكاسو الـ75 عام 1956، وتزامن ذلك مع مغادرته لنيويورك، ومع ذلك ظلت اللوحة ذاتها تذكيرًا دائمًا لمفهوم الفنان كجسر ضروري بين الفردي والجماعي. وقد ألهمت وشجعت من رفضوا الحروب التالية مثل حروب كوريا وفيتنام، وفي حروب معاصرة مثل تلك التي في سوريا والعراق وأفغانستان، كانت لوحة غرنيكا تُحمل في المظاهرات، وفي الشوارع كرمز لهذا الرفض. وقد استخدم الرسام الإيراني سيافاش أرماجاني -وهو مثال إيراني أمريكي- بعض عناصر من اللوحة في قطعته الفنية المسماة بالفلوجة بين عامي 2004-2005 للإشارة إلى الدمار الذي أحدثته الحرب بالبلدة العراقية.

لطالما كانت اللوحة مصدر إزعاج لسلطات فرانكو بصفتها رمزًا فنيًا ضد الدكتاتورية، وقد استطاعت السلطات في إسبانيا استعادة اللوحة من متحف الفن المعاصر في نيويورك بعد مفاوضات شاقة معه ومع ورثة بيكاسو، والتي مثلت استعادتها رمزًا للمصالحة الوطنية في إسبانيا في الفترة الانتقالية التي أعقبت موت فرانكو. وقد ظلت من موقعها أكثر الأعمال تعبيرًا وتمثيلًا للعديد من القيم (بقدر لا تملكه أي لوحة أخرى).

 

اقرأ/ي أيضًا:

9 تشكيليين رسموا الست.. تلوين صوت الزمن

لوحات لفنانين عراقيين تغزو المستشفيات والجامعات