02-أكتوبر-2018

كان كيلة يعرف نفسه من خلال الخصومة مع الاستبداد (تويتر)

من غير الممكن العثور على كلماتٍ تختصر أو تختزل تجربة الكاتب والمفكّر الفلسطينيّ – السوريّ سلامة كيلة الذي رحل اليوم بعيدًا عن المكان الذي ولد فيه، فلسطين. وأيضًا، المكان الذي عاش فيه ما يزيد عن ثلاثين عامًا من سنوات حياته، دمشق. ولكنّ مقولة مثل "أنا مواطن سوريّ، أنا مواطن فلسطينيّ كما أنا مواطن أردنيّ، كما أنا مواطن مصريّ. وبالتالي، أنا معني بتغيير هذه النظم"، قد توجز الكثير من سيرة المناضل المفكر، الذي لم ينفك يعرف نفسه على أساس نفي الحدود بين هاتين الصفقتين.

ما كان يُمثِّلهُ سلامة كيلة دائمًا، هو الصورة الحقيقية والمميزة للمثقّف العربيّ الذي أصرَّ، دون اكتراثٍ بعنف الدكتاتوريات الذي اختبرهُ قبلًا، أن يكون ملتزمًا بقضايا الأمّة العربية

ما كان يُمثِّلهُ سلامة كيلة دائمًا، هو الصورة الحقيقية والمميزة للمثقّف العربيّ الذي أصرَّ، دون اكتراثٍ بعنف الدكتاتوريات الذي اختبرهُ قبلًا، أن يكون ملتزمًا بقضايا الأمّة العربية. ومواكبًا، بنزاهةٍ وعمقٍ وجرأة، لجميع تحوّلاتِها أيضًا. من هنا، كان الوقوف على الحياد خارج معجم من قدّم "من هيغل إلى ماركس: موضوعات حول الجدل". ولا يتوافق من الأساس مع ما كان يدعو إليه، وينظر لهُ. وأيضًا، لأنّ لا فائدة من الخوف من الموت، كما قال في لقاءٍ تلفزيونيّ سابق. بالإضافة إلى وضعه لصراعهِ مع دكتاتوريات العالم العربيّ هدفًا لم يتوقف عن الإشارة إليه، مؤكّدًا أنّه سوف يستمرّ فيه حتّى تتغيَّر الأوضاع القائمة في المجتمعات العربية، سياسيًا واجتماعيًا، وهو ما غادر الحياة قبل أن يتحقق، تاركًا غصة مضاعفة في قلوب قرائه ومحبيه.

اقرأ/ي أيضًا: ضرورة سلامة كيلة.. براعة تخريب إشكالياتنا الرائجة

ما يُمكن أن يلاحَظ الآن أيضًا، هو أنّ سيرة سلامة كيلة ظلّت تدور، غالبًا، إمّا حول ما ينجزهُ معرفيًا وفلسفيًا وفكريًا، أو حول صراعه المستمرّ مع الأنظمة الاستبدادية والقمعية العربية. وبالتالي، تظهرُ سيرته هنا مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالحياة الأخرى التي عاشها الراحل، سياسيًا ومناضلًا. ولكنّ هذه السيرة لا تنجح غالبًا في الكشف عن الجوانب الإنسانية لمن كتب "المشروع الصهيوني والمسألة الفلسطينية". وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى سيرةٍ إنسانية – شخصية تُقابل السيرة الفكرية، ومن غير الممكن أساسًا أن تكتمل الأخيرة دون ذكرها.

ما كابدهُ كيلة في سجون النظام السوريّ لم يمنعهُ من الاستمرار بالمسيرة التي بدأها إطلاقًا. بل، وعلى العكس تمامًا، أضاف إليها المزيد من النضج والوعيّ الفكّري

هي سيرة تحملُ كمًّا هائلًا من المعاناة والأسى، تبدأ من كونه فلسطينيًا صاحب أرضٍ مستعمرة، وتمرُّ كذلك بمنعه من العودة إلى أرضه الأولى بعد اكتشاف عمله في صفوف حركة فتح. ولكنّ التجربة الأقسى دون شك، ستكون تجربته في سجون النظام السوريّ، حيث كاد يفقد عينيه بعد أن وجّه لهُ عاطف نجيب، المسؤول عن تعذيب أطفال درعا، عددًا من اللكمات على نظّاراته. حدث الاعتقال عام 1992، واتّهم حينها بـ"مناهضة أهداف الثورة"، التي أثبت دائمًا انحيازه لها أكثر من متهميه. لاحقًا، أصدر النظام السوري قرارًا بسجنه لمدّة 8 سنواتٍ تنقّل فيها مؤلّف كتاب "النهضة المجهضة" بين عددٍ من الفروع الأمنية والسجون التي كان أهون ما يحدث فيها بحسب قوله، أن يُعذّب ويُهان الإنسان ببساطة شديدة، ولا سيما في "سجن تدمر" سيئ الصيت، والذي وصفه الراحل بـ"معسكر اعتقال" مشابه لنماذج معسكرات الاعتقال عند النازيين، وهكذا إلى أن خرج منها عام 2000.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لم تساهم النقابات السورية في الثورة؟.. سلامة كيلة مقدمًا 3 إجابات

ما كابدهُ كيلة في سجون النظام السوريّ لم يمنعهُ من الاستمرار بالمسيرة التي بدأها إطلاقًا. بل، وعلى العكس تمامًا، أضاف إليها المزيد من النضج والوعي الفكري الذي تمثّل فيه موقفه من وصول الأسد الابن إلى السلطة بعد وفاة الأب، وحديث عددٍ من النخب عن انفتاح ديمقراطيّ وسياسيّ سوف يشهده المجتمع السوريّ. آنذاك، كان سلامة كيلة مصرًّا على أنّ المشكلة لا تكمن في الشخص الذي يتولّى إدارة النظام، إنّما في بنية النظام نفسه. ولذلك، لم يتأخّر بالانخراط في صفوف المتظاهرين مع بداية الثورة، ليجد نفسه معتقلًا للمرّة الثانية آنذاك، قبل أن يقرر النظام السوريّ ترحيله من البلاد.

ليس رحيل المفكر الفلسطيني السوري، مجرّد موت، وإنما جاء كرزمةٍ من الخسارات. فيما بدا ابتعاده جزءًا من المشهد العام، ومن انحسار الحلم الكبير الذي طالما حمله، بعد أن تحالف عليه القاصي والداني. وكأن الموت الذي غيب كيلة، المفكر وصاحب ما يزيد عن 30 كتابًا في الفكر والفلسفة والسياسة والاقتصاد، كان تواطؤًا نهائيًا مع الأنظمة؛ خصم كيلة اللدود.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سلامة كيلة.. هكذا هي "التراجيديا السورية"

في تعثّر الثورة السورية