11-يناير-2018

جان باتيست كميل كورو/ فرنسا

  • يُقرأ هذا النص في الظلال الملحوظة وغير الملحوظة لحالة العجز عن، ومن وجهة أخرى، التحرر من، الكتابة التي تصيب الكُتّاب كعنصر متممٍ للدورة الحكائية الواحدة.

مصطفى حسيب الياسيني ندفٌ من الحكايات. وأنا هنا لا أقصد مسيرة حياة الرجل وحسب، بل وتكوينه العضوي والوجداني على حدٍ سواء. الحكايات لا تشكل أطرافه وقلبه وعينيه فقط بل تنفذ إلى ذاكرته ومدخلات وعيه. نبتت يده من حكاية، وكذا أصابع قدميه وذاكرة طفولته، إن كان للرجل طفولة وإن لم يكن قد انبثق هكذا رجلًا مكتملًا يركض لاهثًا كما كان عندما تعثرت به أو انشق عنه مساري.

الحق أنني لستُ على يقين من حقيقة ما كانه قبلي، غير أنه قد تناهى إلى سمعي شذرات وإشاعات، قد لا يعول عليها كونها خرجت من المجتمع الروائي الأكثر شهرة بالنميمة والتلفيق وسعة الذمة، المهم أن مصطفى حسيب الياسيني قد شوهد أو سُمِع أو عُلِم عنه كونه، في رواية، أبٌ لأحد الرواة، رغم أنه يصغره بقرابة نصف عمره، وأنه خرج لتوه مغسولًا من الموت، لأن على الرجال أن يقتلوا آباءهم ليعيشوا، خاصة في ظل رواج فلسفة مفادها أنه من لم يقتل أباه يعيش عمره ظلًا لينجب فيما بعد ظلالًا أخرى تحاول قتله ولا تفلح. وفي رواية أخرى تليها أو تسبقها، لا أحد يعلم على وجه الدقة، كان مصطفى حسيب الياسيني هو هو، ليس راويًا وإنما عَجْزُ الراوي عن الخلق والتخيل والتجدد متى تعلق الأمر بسروال زوجته، وهكذا وما إلى هذا وما إلى ذاك.

غير أن لمصطفى حسيب الياسيني رأيًا آخر؛ فقد صرّح لي، أو اعترف حسب توصيفه، في لحظة يأس وغضب، أنه لم يكن أبدًا ابن الحكاية، وأنه وُلِد هكذا ككل خلق الله مكتملًا بذاته، ويحمل بذور مصيره مزروعة في أرصفة الطرقات التي يسلكها مختارًا تمامًا غير مرغم على شيء. وأنه يملك أطرافًا وأعضاءً وخيارات ومفارقات منذ أن انزلق من بين فخذي أمه. وأن موضوع الحكايات هذا ليس إلا عمله الذي يتقنه وحسب.

فهو قادر، بحسب ما يدعي، على أن يلقي بذاته شديدة البدائية والخامية في رأس أحد الرواة المأزومين، ثم يوحي إليهم أنه ابن مخيلاتهم، وعليه فإنه مما يحق لهم أن يسكبوا فيه تهويماتهم وإيحاءاتهم ودلالات المسمى في عوالمهم. فيسير عوضًا عنهم أو مضافًا إليهم طريق آلامهم. ويشهد معهم أو من دونهم أيام الجلجلة وأزمنة مغرقة في المذلة. ويصير في صورتهم أو متحدًا بذاتهم عصا الله القادرة على جرّ الكينونة من الغياب واللامقدمات. فتتضاعف الملذات بلا رغبة مسبقة، وتتناسل الدهشة من العجز وهكذا، حتى يقع الرواة في وهم كون الحاشية أهم من المتون، وأن ما لم يُقَل أبلغ مما قيل، وأن ذاكرة النص أسطع حضورًا من حاضره... وإلى آخره من ضروب تضخيم الأنا وادعاء العظمة.

وقد ظل هذا الحال بزعمه مُرضيًا، أو في أقله محتملًا، حتى أسلمته يد الراوي الأخير إلي. فأنا، هبة، بحسب ما يدعي، أفيض أزمات أخرجته عن دينه ودين آبائه. ثم إن فشلي وهزائمي ساقته إلى هذا القدر البغيض من الركض غير المنقطع. وعندما ذكرته بادعائه أنه ليس من خلقي، لا من قبيل الإقرار بهذا، ولكن من قبيل إدانة المرء بلسانه، قال إنه أوحى إلي بذلك لأنه لم يجد منفذًا إلى عقلي، المحتضر بزعمه، إلا إذا وجدته لاهثًا يرتجف، وأنه لم يخطر بباله أبدًا أن أعجز لأشهر عن الكتابة، وأن أتركه هكذا يركض على غير هدى وبلا أجل مسمى.

ورغم أنني لست متأكدة تمامًا مما كان عليه حال الرجل قبل أن يتفتق في وعيي هكذا يجري مذعورًا بلا وجهة محددة على ما يبدو، في يده ولاعة سرقها من مكتب ما يعود على الأرجح إلى موظف قصده لهدف نسيه الآن في غمرة محنته المتواصلة بعد أن انتقلت الرواية إلى عهدتي. الأرجح أن الراوي الذي سبقني مباشرة كان يرمي إلى كون مصطفى قد تفاجأ بالولاعة في يده وهو ينزل درج الطابق الثاني لبناية المؤسسة، قبل أن يُفاجأ، الراوي أو مصطفى، معًا أو كلًّا على حدة، أن الولاعة ليست في يده بل هي يده، وأن صافرات الإنذار التي انطلقت، كفم جهنم المفترس، لم تعد تنبعث من سيارات الشرطة وحسب، بل ومن الحدائق والأرصفة والأزقة القذرة وحفر المناهل. وفي ظل هذه المعطيات التي تورطتُ فيها دون أن أقع على سبب لذلك أو تفسير واحد مقبول، ما الذي كان بإمكاني أن أفعله؟ غير أن أبتر يده أو أقشر المدينة من تفاصيل المكان وأوقعه في عقدة اغتراب ستكون حتمًا أشد من محنته وأبعد أثرًا.

ثم إنني، فليشهد الله، لم أزل منذ شهرين وحتى تاريخ كتابة هذا النص، أحاول ما استطعت تلافي كل الفخاخ التي نصبها الحكاؤون من قبلي، والتي تندرج، دون أن تنحصر، في الذاكرة المتكئة على العجز والتخلي وما تمخضتْ عنه من لغةٍ مبتورة عن الرمز، تلك التي تقول كل شيء دفعة واحدة ورغم ذلك لا تخرج عن حدود العام المسطح.

ثم هناك تلك النقطة الدقيقة المتعلقة بالقيمة الشخصية وراء مظهرية السلوك، والتي قد لا يلتفت إليها الرواة حين تحاول إحدى شخصياتهم إلغاءهم أو تحييد دورهم أو التلاعب بمصائرهم. فَلَو افترضنا أن ما ادَّعاه مصطفى حسيب الياسيني، وأنا أجد نفسي في كل مرة مضطرة إلى تكرار اسمه كاملًا لشعور غامض بفقد الذاتية الشخصانية للرجل إن أغفلتُ أحد الأسماء، هو جدلًا صحيح؛ وأن ابن نفسه ولم يكن يومًا ابن الحكاية، وبالتالي فإن مسلكه يكتسب قيمة شخصية وينبع عن إرادة منفردة، فما الذي دفعه لتصديقي حين حاولت، غير صادقة ولا عابئة إلا بتلاشي قدرتي على الكتابة، إيجاد تسوية بيني وبينه؛ فناديته

"يا مصطفى حسيب الياسيني وصدرك المفتوح على هاوية وعمرك المفتوح على الفراغ: يخرج الآن من قبعة الله العظيمة شجرة، لا تعبأ بأغصانها الميتة فكل فرع فيها لفافة تبغ تكفيك مؤونة يومك ومذلة السؤال، كُلْ واشربْ وقرّ عينًا، فالله ليس أباك، ولن يقول لك أنت عاري اخرج الآن من ملكوتي ولا تعد، وهو بالتأكيد ليس زوجتك ولن يقول لك أنت لست رجلًا وأعضاؤك زوائد دودية، وهو بتأكيد أشد ليس هبة ولن يدعك تركض حتى تطوي أنت الأرض أو يطوي هو الأرض ومن عليها. بصحتك كل أشجار هذا العالم البذيء. لقد كُنتَ جنتلمانًا حقيقيًا ولكن ما باليد حيلة، بعض النساء وياللعجب يعشقن الأوغاد. كما أنك لم تكن شاذًا ولا نذلًا ولا ابن حكاية، لا بالطبع لستَ كذلك، أنتَ سويّ، سويٌّ جدًا، وأنت إن تركض، تركض حتى لا تبصق السماء في وجهك!

لماذا لم يتوقف حينها؟! رغم أنني بعدها دخلتُ على عرض الرجل وقلتُ له أنا بعرضك يا سيدي أن تحل عني، اخرج من رأسي لا لأنك عصيت أمري بل لأنك صدقتَ كل الكذب الذي سقته إليك كأنك فعلًا ابن الحكاية. والآن اخرج من رأسي، اهبط إلى عهدة الرواة الآخرين، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ولن تعوزك بعدها لفافات التبغ! ولكن لا، فالحكايات قبلي تركتْ له أذنًا من طين وأذنًا من عجين.

وهكذا يا سادة، هكذا بالضبط، يعجز الرواة عن الكتابة كلما نبتتْ في عالم أحدهم شخصية مفذلكة ونرجسية وخسيسة، تركض حتى يصير الركض لا إلى اللاوجهة بل هو الوجهة ذاتها، ولا إيغالًا في الغياب، بل حالة مقيتة من الحضور الدائم المفضي إلى العادية والهامشية، ولا عجزًا عن الفعل بل توليدًا مستمرًا لفعل فارغ، ولا وضعيةً من تبادل الأدوار بل من انعدام فاعليتها وتوقفها القاتل عن الرغبة في شكل توقفها القاتل عن الأمل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عكس روزنامة الأيام

الموتُ جرحٌ ينزف