12-أغسطس-2018

الفنان علي فرزات

لم يفعل حمزة الخطيب ابن السنوات العشر، سوى أن مارس طفولته بعمق: بال فوق صورة الطاغية السوري. فجنّ جنون النظام. لم يحتملوا طفولته، فقتلوه. ثم قطعوا عضوه الذكري حتى لا يتمكن مرة ثانية من البول في الجنة، فربما يمطر بوله فوق رأس الأسد، أو فوق رأس الغابة كلها.

رحل قاشوش، لكن ظلّت الأغاني، وظلّت الحناجر، واستمر لسوريون في ترديد الأغنية التي ذُبح بسببها

لم يفعل إبراهيم قاشوش، الشاعر الحموي الشعبي، سوى أن أطلق صوته وسط المتظاهرين. كل جريمته أنه كان يغنّي. لكن صوته أزعج السلطات، فذبحوه. واستأصلوا حنجرته من الوريد إلى الوريد. رحل قاشوش، لكن ظلّت الأغاني، وظلّت الحناجر، واستمر لسوريون في ترديد الأغنية التي ذُبح بسببها. يموت المغني وغنوته ما تمتش. هكذا رسم علي فرزات، قاشوش، مذبوحًا على الطريق، بينما جسده ينزف موسيقى، لنستعيد في نفس اللحظة صورة المغني فيكتور جارا، الذي قام النظام التشيلي بقطع يديه، وقتله عام 1973، ورحل، لكن لم ترحل الحناجر، وظلت الجماهير في تشيلي تردد ذات الأغنية.

اقرأ/ي أيضًا: معرض مكتبة الأسد للكتاب.. رسالة الثقافة الدموية

على فرزات أيضًا لم يسلم من الأذى. لاحقته عند الفجر جماعة من الملثمين. كان خارجًا من مكتبه، عائدًا إلى بيته، فانقضوا عليه، وأوسعوه ضربًا.. كسروا يديه حتى لا يتمكن من الرسم ثانية، وأصابوا عينه اليسرى، حتى لا يرى سوى ما يريدونه، وألقوا به داميًا في طريق المطار بدمشق.

هي النهاية بالتأكيد، قال أحدهم يومذاك. لكن، عندما تلاحق السلطة المبدعين، وتلغي أصواتهم وحناجرهم وموسيقاهم، تطارد خيالهم، وألوانهم، عندما ترتعد السلطات أمام أغنية أو قصيدة، ويفزعها طفل صغير، ضحك أو تبوّل.. نكون أمام ما هو أفظع من قتل "الآن"، نكون أمام اغتيال "المستقبل" أيضًا، وخنق طاقة المجتمع على الإبداع، تأطير حريته، ومحاصرة خياله، إجباره على الطاعة والاستكانة، وإغلاق النوافذ. السفاح السوري يعرف هذا كله، وخدّامه وأزلامه وأسياده. لكن الأغاني تبقى رغم الدم والرصاص، والرسم يبقى توثيقًا للأحلام، التائهة والمغدورة والمؤجلة.

*

 

جاء الدهّان ليدهن بيت علي الطفل، وفي أوقات فراغه ظلّ يتسلّى برسم شخصيات بشرية على الحائط. هذه الرسومات ألهبت خيال الطفل كثيرًا، لدرجة أنه بدأ من ساعتها يرسم بالفحم على جدران البيوت المحيطة، بل ويرسم على معاملات أبيه الرسمية. هكذا، يبدو أن علي فرزات لم يتوقف أبدًا عن إفساد عمل الكبار. كان طفلًا يلعب، وفي لعبه يقلق الأنظمة التي تحاول بدورها إخراس صوته، ولا تفلح.

*

 

سُئل علي فرزات ذات مرة، في حوار صحفي، عن بداياته، فحكى حكاية طريفة: كان يذهب إلى بعض المجلات لمقابلة رئيس التحرير ليعرض عليه رسوماته، وكان البوّاب هو الذي يقرر رفضه. في إحدى المرات، ذهب إلى مجلة "الجندي"، فقابله البوّاب وطلب رؤية رسوماته، وبعد أن رآها وقلبها، أعادها إليه. "رسوماتك حلوة، لكنني لم أفهم منها شيئًا"، قال البوّاب، وأضاف "بصراحة يوجد لدينا رسام، ولسنا بحاجة إلى رسام آخر. يمكنك أن تبحث عن عمل في محل آخر أو دكانة ثانية". هذه الحادثة خلّفت أثرًا مهمًا داخل فرزات، إذ كان كلما مرّ الرسام الشاب بجانب جريدة أو دائرة حكومية ورأى شخصًا قرب الباب انتابه شعور أنه الوزير أو المدير أو رئيس التحرير، كان ينفر منه تلقائيًا.

*

 

تأثر فرزات بمدرسة أوروبا الشرقية في الكاريكاتير، وهذا يمكن ملاحظته في الكتل السوداء الضخمة المميزة لأعماله. ومثل أقرانه الأوائل من رسّامي الدول المحكومة بالاستبداد الشيوعي، وجد فرزات نفسه معارضًا للنظام السوري، يرسم بقوة ويكهرب الجو.

الفنان علي فرزات

وفي الوقت الذي كان فيه الفنانون يتفننون في رسم وجوه مبارك وقفاه بأشكال مختلفة، فإن النظام السوري لم يكن يسمح برسم صورة الرئيس، ولذا فقد لجأ فرزات إلى الرمز. صار يرسم الديكتاتور شخصًا غليظًا ذ ملامح عربية، لا تعرف إن كان مصريًا أو سوريًا أو عراقيًا، ولذا فإن المتلقين العرب أصبحوا يتعاطون رسوماته كلها باعتبارها تخصّهم. كل قارئ عربي يظن أن الحديث/ الرسم هو عن الديكتاتور الذي يحكم بلده الخاص. هكذا نجا علي فرزات من فخّ المحلية، واستطاع أن يتحول إلى أيقونة عربية، وهكذا خدمه النظام السوري، إذ أجبره على عدم شخصنة رسوماته الكاريكاتورية. هذا بالطبع باستثناء الرسمة التي أدت للصراع المعلن بينه وبين النظام السوري، حين رسم فرزات، القذافي راكبًا توكتوك وبشار الأسد يشير إليه طالبًا منه الركوب معه في نفس التوكتوك. هنا كان فرزات يتبأ بنهاية وشيكة للنظام السوري ستأتي على شاكلة نهاية النظام الليبي.

*

 

في عام 2003، أغلقت السلطات مجلته المستقلة "الدومري"، ولكن مشكلة فرزات مع السلطة لم تبدأ من غلق مجلته الساخرة. هناك مشاكل سابقة أدت لهذا الغلق. رسوماته التي تمحورت حول شخصية الديكتاتور أدّت بصدّام حسين إلى الضجر منه ومحاولة تخريب معرضه في باريس، كما منع القذافي مجلته من الدخول إلى ليبيا، ومنعه رئيس الوزراء السوري السابق من النشر في الجرائد السورية، كما رفعت وزارة الدفاع السورية دعوى بحقه. كل هذا أدى لغلق "الدومري". وبالمناسبة، فاسم الدومري يشير إلى الشخص الذي كان يتولّى تعليق مصابيح الغاز في الشوارع في الشام القديمة.

علي فرزات

من قبل لم يكن فرزات يؤمن بوسائل النشر الإلكترونية. كان يظنها، كما قال في حوار صحفي، كالقبلة من وراء زجاج. ولكن بعد إغلاق مجلته، وجد نفسه معلّقًا في الهواء. كان لابد له من الوصول للناس، والجمهور على الإنترنت يزداد حجمه، وما كان يصل إلى جمهور محدود أصبح يصل إلى العالم أجمع. بالإضافة إلى الميزة الجليلة التي يتيحها الإنترنت: آراء المعلّقين على أعماله، وهي الآراء التي كان يسترشد بها فرزات. هذا ما أشعره، كما يقول، أن "الدومري" عاد للظهور وبيده الفانوس الإلكتروني بدلًا من فانوس الغاز، وهذا لا يمكن أن تطفئه عواصف الفروع الأمنية.

*

 

واحدة من ميزات عمل فرزات، هي خلو رسوماته من التعليقات الكلامية. كل رسوماته تعتمد على الحركة والإيماءات وليس التعليق. هذا النوع من الكاريكاتير بإمكانه الوصول إلى العالم كله، لأنه لا يعتمد على اللغة، وبالتالي يستفز الأنظمة بشدة. بالإضافة إلى عدم ارتباط فرزات بمكان معين. لجوءه إلى الإنترنت جعل رسوماته تصل بشكل أسرع لكل الشعوب، وهذا يستفز الأنظمة أكثر وأكثر.

الفنان علي فرزات

ما حدث مع فرزات في بداية الثورة السورية لم يكن الحادثة الأولى لاغتيال رسام كاريكاتير عربي، فقد سبقه الفلسطيني ناجي العلي في الثمانينيات. الاغتيال في حالة العلي كان ماديًا، فقتلوه ببساطة. أما في حالة فرزات فهو اغتيال معنوي، وهو أفظع وأمضى تأثيرًا. إنها رسالة من النظام السوري لكل من يعارضه، سواء كان رسّامًا أو لحّامًا، كبيرًا أو صغيرًا. رابط آخر يجمع بينه وبين ناجي العلي، حيث الاثنان فنانان سياسيان ومعارضان.

ما حدث مع فرزات في بداية الثورة السورية لم يكن الحادثة الأولى لاغتيال رسام كاريكاتير عربي

العلي ناضل بريشته في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتواطؤ الأنظمة العربية، بينما فرزات عارض النظام السوري القمعي ورفد منهجه بما يصله بكافة أشكال القمع العربي. وإذا كان ثمة درس مستفاد هنا، فهو أن تعامل السلطة العنيف مع الكاريكاتير لم يختف منذ الثمانينيات، وإنما يعاود الظهور، وبقوة أكثر غشومية.

*

 

في عام 2011  فاز فرزات بجائزة حرية الصحافة، التي تمنحها منظمة "مراسلون بلا حدود"، وصحيفة "لوموند" الفرنسية. في حوار صحفي أجرته معه الصحيفة الفرنسية بمناسبة الجائزة، يُسئل فرزات عن السبب في لجوئه لرسم بشار الأسد بوجهه، بعد أن ظلّ يعبّر عن الديكتاتور بأشكال عامة ولا يمكن تمييزها. يقول ببساطة إنه أحيانًا ما يشعر المرء أنه ريشة في الهواء وليس له وزن، والرمز أصبح عاجزًا عن مواجهة كل تلك الدماء. الرمز يحتاج إلى التأمل. لابد اليوم، كما يقول، من رسم كاريكاتير مستعد للنزول إلى الشارع مع الناس وبكامل عتاده.

اقرأ/ي أيضًا: عامر سبيعي وأسئلة الأغنية السورية

عندما هاجمه شبيحة الأسد، أثناء عودته إلى بيته، كانوا يصرخون بنه "عم يتطاول على أسياده". يبدو أن الدرس كان جيدًا، فعلي فرزات سيتعلم فيما بعد التطاول أكثر على "أسيادهم". فكما أنتج مقتل مغني الثورة السورية إبراهيم قاشوش واقتلاع حنجرته، قواشيش آخرين كثيرين، تطوع كثيرون لرسم صور كاريكاتورية لفرزات وهو في المستشفى، مضمدًا وعظامه مكسورة، ولكن يظهر إصبعه الأوسط من تحت الضمادات، مرفوعًا في وجه الأنظمة.

لم يعد البوّابون إذن قادرين على منع نشر أعماله الآن، كما كان سابقًا. رسوماته تطير وتحلّق ذاتيًا، فوق الخراب الأسدي الجاثم على سماء سوريا إلى حين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أكرم رسلان: ناجي العلي السوري

عن اختراع ميتة لخالد تاجا!