09-سبتمبر-2017

الفنون شريك ضروري في الوصول إلى شارع صالح (تعبيرية/ جان بيير/ أ.ف.ب)

بالفعل، إنه لمن العيب والعار أن ننفق مبالغَ ضخمة على استيراد اللحوم من الخارج، كما قال الوزير الأول السابق عبد المالك سلّال، لأننا نملك كل الإمكانيات التي تجعلنا محلّ تصدير لا محلّ استيراد. لكن، أليس من العيب والعار أيضًا، ألا نستورد ما يشكّل غذاء العقل والروح من الإنتاجات الفكرية والأدبية والفنية التي يزخر بها العالم؟ خاصة تلك التي لا نملك الإمكانيات لإنتاجها محليًا، ونملك الحاجة الملحة إليها لمواكبة آخر ما جادت به قريحة الكون، وهو يزحف نحو المستقبل؟

من المفارقات الجزائرية أنه في مقابل الندرة غير المبررة للكتب الفكرية والأدبية المستنيرة، هناك وفرة في الكتب السلفية 

إن الجزائر لا تستورد الكتاب الأدبي والفكري، ولا تمنح التسهيلات اللازمة لمن يرغب في ذلك، خارج الصالون الدولي للكتاب. ولا تعمل على توفر المجّلات الثقافية والفنية الغربية والعربية، ولا تملك منظومة سينمائية صحية تسمح بتوفر الفيلم العالمي الجديد خارج عقلية القرصنة، التي صنفتها في مقدمة الدول التي لا تحترم الملكيات الفكرية، رغم أنها تتوفر على ديوان عريق لحقوق التأليف والحقوق المجاورة. ولا توفر منظومة مسرحية نشيطة، تمكّن المتلقي الجزائري من مواكبة جديد المسرح العالمي، ما عدا بعض الفرص المحدودة جدًا من خلال بعض المهرجانات المسرحية. إنه اليتم الكبير.

اقرأ/ي أيضًا: المؤسسات الثقافية في الجزائر كأداة لخدمة النظام

ومن المفارقات العجيبة، أن هذه الندرة غير المبررة للكتب الفكرية والأدبية المستنيرة في المشهد الجزائري، تقابلها وفرة غير مبررة للكتب والمنشورات السلفية ذات الخلفية المنافية لهويتنا الفقهية والحضارية، التي اكتسبناها عبر تراكمات القرون، بحيث يمكنك أن تجد الألباني وابن باز والعثيمين وهلمّ زحفًا، في كل الأرصفة لا في المكتبات فقط، بل إن بعضها بات يوزّع في القطارات والحافلات، لكنك في المقابل لن تجد كتب محمد أركون أو علي حرب أو محمد عابد الجابري أو ميشال فوكو، حتى في المكتبات الكبيرة في قلب الجزائر العاصمة.

أتفهم أن تتوفر هذه الكتب السلفية في الشارع الجزائري، من باب التنوع والاختلاف، لكنني لا أستطيع أن أتفهم هيمنتها على سوق القراءة، في ظل صمت حكومي طال حتى بات يُفهم قرارًا رسميًا.

زرت أكثر من مدينة عربية في السنوات الأخيرة، ولاحظت أن القارئ فيها يستطيع أن يقتني ما يشاء من المجلات الثقافية والكتب الأدبية والفكرية، والجرائد العالمية، في زوايا مختلفة من المدينة، كما لاحظت أن معظم هذه المجلات والجرائد، تشكّل منابرَ لكتّاب ومثقفي هذه المدن، ليس للقراءة والمواكبة فقط، بل للكتابة أيضًا.

يحقّ ظاهريًا لكل من يقرأ هذه الهواجس، بعد أن سمع تصريحات الوزير الأول السابق أيضًا، بخصوص عدم جدوى العلوم الإنسانية من أدب وشعر وتاريخ وجغرافيا، أمام العلوم الدقيقة، أن يعتبرها هواجسَ إنسانٍ رومانسيٍّ محلقٍ في الخيال، بعيدًا عن واقع حاكم اسمه عبد المالك سلال، لكن أليست أحلامنا بغد جزائري أقلّ جهلًا وأكثر إيمانًا بالعلم والفن معًا هي واقع أيضًا لا يمكن إلغاؤه؟

تعتبر الفنون شريكًا ضروريًا في الوصول إلى شارع صالح، يتحاشى العنف ويُنتج التحية والابتسام 

أغرق في موسيقى ياني المبدع. لا أستنجد حين أحظى بهذا النوع من الغرق، بل أتمنى ألا ألتقي بشرًا، حتى لا ينتشلني من نشوتي تلك. نشوة الموسيقى المبدعة، وهي تنصّبك سلطانًا على نفسك. ما ألذّ ألا تتسلطن إلا على نفسك. إنها نشوة الاختلاء بالذات بعد أسبوع من الناس. الكلّ يشكو من الكلِّ في الجزائر، فلماذا لا يريحُ الكلُّ الكلَّ، بأن يلعب كل واحدٍ دورَه، مثلما يفعل ذلك أفراد فرقة ياني؟ التكامل الضروري لمعزوفةٍ/ حياةٍ جميلة.

اقرأ/ي أيضًا: الثقافة الجزائرية: حين تصير الرداءة منظومة حاكمة

لا يتعب ياني من العزف، ولا أتعب أنا من الغرق فيه. كم يجب علينا أن نناضل في الجزائر من أجل فنان لا يَتعبُ ولا يُتعبُ؟، كم يجب أن نناضل من أجل أنفسنا قبل كل شيء، حتى نجعلها لا تمرّ مرور الجاهلين على الفنون العظيمة؟ كم عدد الداخلين إلى المسارح والمكتبات والمعارض والمتاحف، في مقابل العابرين من غير التفات؟ علمًا أن الدخول إلى هذه الفضاءات في الجزائر مجاني حتى النخاع، بل إن الدخول المجاني يتبعه أحيانًا عصير وحلويات.

هناك مشكلة ما. من يفكك هذه المشكلة؟ لماذا نكتفي بطرح سؤال التلقي بسطحية في مناسبات معينة، ثم نغرق في الصمت؟ أما آن لنا أن ندرك أن الفنون شريك ضروري في الوصول إلى شارع صالح، يتحاشى العنف وينتج التحية والابتسام؟ 

حدّثني مرة شابّ من الحومة، يتعاطى الفن التشكيلي، فقال: "سأجد من يأخذ بيدي، ويستغلني كما أراد، إن أنا رغبتُ في ممارسة الإرهاب، أو ممارسة المخدّرات، أو ممارسة السرقة، فمالي لا أجد من يأخذ بيدي في طريق الفن؟ صحيح أن الدولة شيّدت هياكلَ كثيرة وكبيرة للفن والثقافة، لكنها لم تعرف كيف تنفخ فيها الروح".

بات الشارع الجزائري ينتظر كل شيء من الدولة، بما في ذلك المبادرات التي هي من اختصاص المجتمع، والدولة لا تستطيع أن تحل محل المجتمع 

قلت له: "لم تعرف أم لم ترد حسَبَ رأيك؟"، فقال: "إن الذي لا يريد لا يبني أصلًا، هناك أزمة كفاءة، وهنا لابد من الإشارة إلى سلبية المجتمع المدني في الجزائر، من حيث روح المبادرة، هناك مبادرات هي من اختصاص الدولة، وأخرى من اختصاص المجتمع، وأخرى شراكة بينهما، والحاصل اليوم أننا بتنا ننتظر كلَّ شيء من الدّولة، والدّولة لا تستطيع أن تحل محل المجتمع حتى وإن أرادت".

اقرأ/ي أيضًا: المثقف والسّلطة في الجزائر.. قناع لوجهين

كم مكثتَ من الوقت لإنجاب هذه الموسيقى يا ياني المبدع؟ هل كنتَ تفكّر، وأنت في مرحلة الإنجاب، في ضروريات الحياة من مأكل وملبس ومأوى؟ هنا يفكر الفنان والمثقف الجزائري في ذلك، وأحيانًا في ما دون ذلك، ما عدا قلة، ورثتْ وضعًا مريحًا. لكن لماذا فشل الفنانون الجزائريون في تأسيس نقابة قوية لهم حتى الآن؟ وما يوجد من نقابات يعرف هشاشة لا علاقة لها بإيجابية الفنان؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

تريد أن تقتل كتابك؟ انشره في الجزائر

مثقفو الواجهة في الجزائر.. ضوء مغشوش