06-يناير-2017

(Getty) شيوعيون صينيون يحملون صورة ستالين

يخبرنا أدب أمريكا اللاتينية أن الدكتاتور شخصيةٌ دراميّة، فبقدر ما تحاول أن تعيش حياةً خاصةً، وتظهر بملامح خاصة، وتُحدث جلبةً خاصة، إلّا أنها تنتهي نهايةً خاصة.

أمثلة المآلات التي انتهى إليها أرباب الطغيان كثيرةٌ ومعروفةٌ. إلا أن المفارقة أن هؤلاء المستبدين خلّدوا الصور التي أرادوها لأنفسهم، رغم أن رياح التاريخ جرتْ بما لا يُوافق أهواءهم. لا يزال شارب هتلر علامةً تدلّ عليه، رغم الكمية الهائلة من الكاريكاتيرات واللوحات والبوسترات التي حاولت جعله أضحوكة. لا تزال صورة ستالين، المُعالجة بشكلٍ لا يعكس شحوب وجهه الحقيقي، هي الصورة التي صنعت هيبته وجبروته. 

ترى هل هُزم هؤلاء الأباطرة كمشاريع وشخوص، وظلّوا أحياء عبر الرموز والإشارات التي خلقوها؟

تقوم لعبة الطاغية أساسًا على إحاطة نفسه بالرموز، وصولًا إلى المرحلة التي يصبح فيها هو نفسه رمزًا

تقوم لعبة الطاغية أساسًا على إحاطة نفسه بالرموز، وصولًا إلى المرحلة التي يصبح فيها هو نفسه رمزًا. القوة الرمزية توازي القوتين العسكرية والمخابراتية. تلك هي مآثر صنّاع الدول الشمولية، ولا تزال دروسها حاضرة بقوة، حتى لدى بعض مناوئيها.

اقرأ/ي أيضًا: صدام حسين.. حيٌّ في فيسبوك

أوجد ستالين منظومةً كاملة لصوره، كي يرسل إلى النّاس وجهًا ناعمًا معدّلًا، يخفي عيوبه الأصلية. وجنتاه كانتا محفّرتين بشكل كبير، بسبب إصابة بـ"جدري" قاسٍ في الطفولة، ناهيك عن أن يده اليسرى كانت تعاني من إعاقة، ثم يأتي قِصر قامته ليعقّد الحضور الكاريزماتيّ المطلوب من القائد، ولأجل هذا كانت توضع درجاتٍ سريةٍ تحت المنصات التي يخطب عليها، ليبدو أطول وأكبر مما هو عليه، ليبدو مهيبًا كما يليق بزعيم فذّ!

وصلت آلته الدعائية إلى إطلاق أغانٍ توصله إلى مراتب القديسيين، إذ تتحدّث إحدى الأغنيات السوفييتية عن تمشيه في الغابة، فتُقبل الغزلان لتتمسّح به وتتشمّمه. ستالين، ككلّ الأباطرة، فوق الطبيعة البشرية، أو خارقٌ لها. كما أن هناك صورًا كثيرة تظهره في مكتبه ليلًا، لتقول للناس إن القائد لا ينام لشدّة انشغاله بالوطن. وثمة أغنية من ألمانيا الشرقية تستلهم هذه الصور بالذات، تقول: "كلّ العالم نائم بعد منتصف الليل، إلا نافذة واحدة في الكرملين"، وتضيف: "قلبك لا ينام".

إذا ذهبنا إلى ماو تسي تونغ فسوف نجد الأمر ذاته؛ دكتاتور متوحش ارتكب الفظائع، لكنّ صوره المتداولة هي الصور الذي كان يبثها جهاز دعايته، ففي كثير منها يحتلّ مكان الشمس في السّماء، ومن تحته يتحد الفلاح والعامل والجندي والطالب.. في ملامحه علامات أبوّة قوية، تقريبًا هو مثل طغاة الأرض كلّهم، يتقنّع بصورة الأب الطيّب للشّعب، في الوقت الذي يجعل من الشعب أبًا له، لا مهمة له إلا تدليل ذلك الصبي المتربّع على العرش.

يتباهى ماو تسي تونغ بمعاداته للنظافة، وبأنه لم يفرّش أسنانه مرةً واحدة في حياته

بعيدًا عن الصورة العامة لماو، قدّم لي جوسي، طبيبه الخاص بين عامي 1954-1976 كتابًا ضخمًا بعنوان "الحياة الشخصية للرئيس ماو"، يرسم فيه صورة "الزعيم" الشخصية التي لم تظهر إلى العلن، حيث يبدو شخصًا معاديًا للنظافة، وأنه كان يتباهى بأنه لم يفرّش أسنانه مرةً واحدة في حياته، بل إن الطبيب يعلّق على قذارة المنطقة الحميمية في جسد الدكتاتور، والغريب أنّ ماو، الماجن والمتهتك، قال له مرّة: "أغسل جسدي بجسد المرأة". ربما لا تكون الصورة التي يرسمها الطبيب حقيقيةً، فهي توافق أهواء المعسكر المعادي لمعسكر ماو، لكنّها تصلح مقترحًا لصورة أخرى، أو بديلًا ينسف تلك الصورة الإلهية.

اقرأ/ي أيضًا: الدكتاتور الأرعن

هذه الأمثلة وسواها، أخذت وقتًا طويًلا، مليئًا بالحروب والمجازر والمعتقلات والإفقار، حتى دُحِضت، إلا أنّها لم تتغيّر، فلا تزال صور ستالين وهتلر وماو.. إلخ، هي الصور نفسها التي استعملها هؤلاء الطغاة في دعاياتهم لأنفسهم، فقد ساعدت حقبة احتكار البث والنشر هؤلاء على فرض الصور التي يريدونها.

على المستوى العربي، برز صدام حسين كطاغوت لا تغريه مباهاةٌ كما تغريه المباهاة بالقوة. ولهذا كان يترك إعلامه يصوّره وهو يقطع نهر دجلة سباحةً، أو وهو يطلق النّار من البندقية بيدٍ واحدة، أو وهو في متاريس الجبهة العراقية، أثناء الحرب مع إيران. ناهيك عن صوره اللامتناهية بأزياء متنوعة بين العسكريّ والبدويّ والكرديّ، وتماثيله ورسوماته الجدارية. لكنّ صورة البطل التي أرادها صورةً خالدةً انكسرت مع صورة خروجه من مخبئه السريّ، دون أن ينتحر كما هو متوقّع من الجبّار الذي أصرّ على أنه فيه، وانكسرت كذلك مع صور الفحص الطبي الذي بدا فيه مهانًا، صاغرًا، رثّ المظهر.

أدرك صدام أن حرب الصور تكاد تفوته، فقرّر دخول المبارزة البصرية كميدان أخير لم يعد أمامه سواه، بادئًا جولاته، خلال المحاكمة الهزلية التي أقيمت له ولأقربائه، بأن ظهر رجلًا ورعًا متدينًا لا يفارق القرآن يديه، شديدَ الصلابة، لا يخاف المواجهة، بليغَ اللسان. تقريبًا أراد صدام حسين أن يلعب دور صدام حسين، ونجح. جاءت عوامل إعدامه صبيحة عيد الأضحى، بما حملته من رسائل لا مواربة فيها، لتجعله بطلًا مرّةً أخرى. كان يمكن لرواة الحكاية أن ينهوا مصيره عند صورة الفحص الطبي، لكنهم، ربما، ظنوا أنه سينتهي كما انتهى تشاوشيسكو، ودون أن يدروا أعطوا صدام فرصة الخلود التي طالما سعى إليها، ففي مشهد إعدامه استطاع أن يكون هو المُخرج، والمُنقذ لصورته كمهزوم، وذلك بالخرق الكبير الذي أحدثه، فلأوّل مرة يكون المحكوم بالإعدام بدون غطاء على الرأس، في حين أن منفذي الحكم هم من كانوا يغطون وجوههم.

لم يسرف الأسد الأب في تنوع لقطات صوره، لأنه أدرك أن الغموض سرّ السلطة

في تلك الصورة، نجح صدام المهزوم في أن ينتصر، ونجح صدام المهان في أن يموت بكرامة، ونجح صدام الظالم في أن يكون مظلومًا. تلك هي الصّور التي أرسلها صدام نفسه، في الوقت الذي أرادت العقول الشيطانية الأمريكية، في كواليس المحاكمة وتنفيذ الحكم، أن تجعل من ذلك الإعدام مولّدًا لحرب طائفية، بحيث يبدو الاحتلال أمامها تفصيلًا هامشيًا. 

اقرأ/ي أيضًا: محسن مخلمباف.. الثورة بعيون الدكتاتور وحفيده

ذهب صدام إلى المكان المشتهى لدى كلّ الطغاة، إلى الصورة. بفارق أن صورته هذه المرة لم تكن كالعادة تحت إشراف جهاز الدعاية التابع له، من رسامي جدارياته، ونحاتي تماثيله، ولا من إخراج خصومه، بل صورة حيّة وحقيقية من صناعته هو ذاته.

من جهته، ساعد الحظ حافظ الأسد على أن يسيطر على صوره سيطرة تامّة، لم تكن صوره كثيرةً من حيث التنوّع في صور صدام حسين مثلًا، فكل ما هنالك صور ذات طابع رسمي، يجلس فيها إلى مكتبه غالبًا، تراها في كل مكان، من دفاتر المدرسة إلى الأمكنة الأثرية كمسرح بصرى الروماني. صور حافظ الأسد كانت غامضة، مثلها مثل صور "الأخ الأكبر" في فيلم مايكل رادفورد المأخوذ عن رواية "1984" لجورج أوريل. ربما كان الأسد الأب مدركًا أكثر من سواه من الطواغيت أن فيض الصور، المتنوع والواسع، لن يفيد من يسعى إلى حكم فرديّ خالص، ذلك أن الإسراف في تنوع اللقطات وتعددها قد يخرّب سلطة الصور المعنوية، بطريقة تجعل الحاكم يبدو مألوفًا. بالنسبة للأسد الأب، الغموض سرّ السلطة، الغموض قوّة.

على المقلب الآخر، لعب الأسد الابن في بداية دور الرئيس العصريّ، والمنفتح، و"المودرن". فظهر بثياب يومية، وفي أماكن عامة، ومع عائلته، وسائقًا لسيارته الخاصة بنفسه. بدا كما لو أنه موظفًا في هيئة دولية، أو بنك، وهي الصورة التي يتقبلها العالم الغربي بسهولة، بحيث تنافس صورة الوريث. ومع اندلاع الثورة السورية ضدّه راح يصرّ أكثر على تلك الصورة، ليظهر نفسه حاكمًا حضاريًا يحارب همجًا وبرابرة. 

الصورة الأبرز التي ظهر فيها كانت في خطابه الأول لجمهوره في ساحة الأمويين، يومها عملت وسائل إعلامه على إظهار بنطلونه في الصورة، تحديدًا حوضه، لننتبه إلى عضوه الذكري البارز من تحت ثيابه. كانت الصورة لافتةً إلى درجة أن المراقب المتمعن بات ينتبه إلى أن الأسد الابن لا يرتدي حزام خصر تحت بدلته، وهذا ما تشير إليه صورٌ أُخر. 

في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، صورة الدكتاتور تمزّق وجه الدكتاتورية

اقرأ/ي أيضًا: كيف أصبح مستبدًا أفضل؟ (1- 6)

تنتمي تلك الصورة إلى أن فحولة السلطة هي سرّ قوتها، لا شك أنها فكرة قديمة، لكنّ مثل هذه الرسائل تلقى قبولًا عاليًا لدى الغوغاء، وإذا كان ذلك الخطاب جزءًا من سلسلة إعلانات الحرب على الشعب السوري، فإن التركيز على بنطال "الرئيس" كان يهدف إلى إعطاء ذلك الإعلان الحربي صبغة جنسية، سنراه لاحقًا في تركيز هذا الإعلام المهووس على وسم الأعداء بصفات جنسية، ليس أقلها فكرة "جهاد النكاح".

لم تعد صورة الدكتاتور العصرية تحت السيطرة، لا الأسد الابن، ولا عبد الفتاح السيسي كذلك، قادرَين بعد الآن على تثبيت الصور التي يريدونها، كما فعل الطغاة الكلاسيكيون، ففي زمن البث المباشر، ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكن لسيلفي واحد، أو مقطع فيديو، أن ينسف هيبة السلطة المزعومة، وأن يمرّغ أنف الدعاية الدكتاتورية بالتراب. صور هتلر وستالين المتلاعب بها، لتوصل التأثير المبتغى منها، تتحوّل إلى الضدّ من سلطة السلطان، حين تظهره غبيًا وأبلهَ ومحششًا، حين يقول كلامًا غير مترابط، وحين يضحك بطريقة صفيقة. باختصار، ما يحدث الآن أنّ صورة الدكتاتور تمزّق وجه الدكتاتورية.



اقرأ/ي أيضًا:

في نفسية الطاغية

سوريا.. من عصر الطاغية إلى عصر الطغاة