13-نوفمبر-2017

أنس سلامة/ سوريا

الصّورة لا تشبه روز، لكنّ إعلان الجائزة، يؤكّد أنّها هي. بلحمها وعظمها، وابتسامتها الساخرة.

الصّورة الفائزة بجائزة عالمية، كأفضل صورة تظهر الإنسانية المُطلقة والوحشية الدّموية، في لقطة واحدة. لم تكن تتصدر أغلفة المجلات فقط. فالمحطات التّلفزيونية أوردت الخبر، وعرضَتْ الصّورة في زاويتها اليمنى، بينما خُصِّصَتْ المساحة الباقية من الشّاشة، للصحفيّة الأميركيّة وهي تستلم الجائزة، وتصافح مهنّئيها.  ارتجلت كلمة مقتضبة عن الكاميرا كسلاح. عن قدرة الكاميرا على التقاط الجوهري فينا من خلال لقطة عابرة. شكرت أمها الحنون على دعمها. شكرت زوجها الذي يتفهم ظروف عملها ويرعى الأطفال بعناية في غيابها وخلال أسفارها الطويلة، لكنها لم تقل شيئا عن روز.

لم تذكر وسائل الإعلام اسم روز، ولا عملها الذي حقّق للصحفيّة الضئيلة الشقراء الجائزة الأولى. لم يعرف أحد أن تلك المرأة بدأتْ عملها الجديد بدون خطط وبلا تفكير، حيث سارتْ الأمور معها بالسياق المعتاد الذي يفعله أيّ شخص، دون أن يخطر له أنه سيتحوّل إلى إدمان.

عندما كانت تتجوّل في الخراب، الذي كان قبل يوم واحد مأهولًا بالناس، تبحث عن ابنها الوحيد ذي السبعة عشر عامًا، وجدتْ صورة. بالكاد تعرّفتْ على من جلسوا في إطارها باسمين. كانت الصّورة المتآكلة المتربة، والتي تتخللها الكثير من الثّقوب، لجارتها منى.

الجارة القديمة تجلس وسط أبنائها المصطفين حولها كفريق لكرة القدم.

بحركة اعتيادية وغير واعية، دسّتْ روز الصّورة في جيب ثوبها، ومضتْ إلى مهمتها الأساسية.

لم تكن تعرف شيئًا عن مصير العائلة التي انتهت في أعماق البحر. كلّ ما كانت تفكّر فيه لحظتها هو إيجاد ابنها الذي خرج ولم يعد.

تتابع بحثها كل يوم ولا تهتمّ لتأكيد بعض من بقي بالحيّ أن ابنها انضمّ إلى المقاتلين الإسلاميين. كانت تضحك في وجوههم من خلال صوتها المتأرجح بين النّواح والقهقهة وتردّ بثبات:

ــ أنتم لا تعرفون. لا تعرفون شيئًا.

تؤكّد من خلال دموعها وتكشيرتها التي تظهر للآخرين كأنها ابتسامة سخرية.

وتتابع في سرها:

ــ لا تعرفون المعارك التي كنتُ أشنّها على ابني، عند عودته إلى البيت مترنّحًا من فرط السّكر. رائحة الخمر، كانت تفوح من عينيه لا من فمه. ابني كان يروي جسده خمرًا، ويقولون يقاتل مع الكتائب الإسلامية!؟ كنت سأصدّق لو كانت الكذبة أنه انضمّ إلى الجيش النظامي، مع أنه لم يصل إلى الثّامنة عشرة.

أكّد لها آخرون، أنهم شاهدوه يدخل إلى البيت، قبل ثوان فقط من سقوط الصّاروخ على بيتها، وتحويله إلى أنقاض.

بينما أقسم لها الشّاب الخارج مؤخّرًا من المعتقل، أنهما تشاركا نفس الزّنزانة أيّام اعتقاله. روايةٌ أخرى وصلتها من أبو السّلام، الذي يتعامل مع كتيبة من جيش الإسلام، تفيد أن ابنها معتقل عند تلك الكتيبة لمخالفته شرائع الله.

كانت روز تسمع تلك الرّوايات بأذن صماء، فالحاسة السّادسة لديها تؤكّد أنّ كلّ ما يقال مجرد أكاذيب. هذا ما تحقّقتْ منه عندما سمعتْ أحدهم يعترف بأنهم فعلوا كل ما استطاعوا من أجل التخلص من نواحها.

كان نداؤها لابنها بذلك الصّوت العالي النائح، يؤرق الجميع. أصبحت لا تتحدث ولا تجيب ولا تسمع.

كانت الجملة الوحيدة التي ينطق بها لسانها.

ــ يا سامح! يا سامح!

جزم الجميع بجنونها، وتعاطفوا معها قليلًا. لكن تكرار تلك الجملة أصبح من أشد وسائل التعذيب التي لم يعودوا قادرين على تحمّلها. ذلك الصّوت المنادي على الغائبين، أضحى بالنسبة لهم أكثر إزعاجًا من دويّ القذائف والصّواريخ.

في صباح يوم شتوي بارد، انطفأ صوتها. انتبه مَنْ بقي بالحيّ لذلك، لكنهم لم يكلفوا أنفسهم عِبْء زيارتها والاطمئنان على حياتها. بل لعل أكثرهم رأفة، تمنّى في قرارة نفسه أن تكون تلك المجنونة قد قضَتْ تحت صواريخ ذلك الصّباح.

لم يعرف أحد أن روز لم تخرج من البيت، لأنها بدأتْ عملها الجديد.

في الحقيقة لم يكن لروز بيتٌ تعود إليه، بعد تهدّم بيتها.

كانت تنام في أيّ مكان، عندما ينهكها التّعب، بعد جولات البحث عن ابنها.

لكنها وبسبب مهنتها الجديدة، اتخذت من بيت يقع في أطراف المنطقة مسكنًا لها. البيت لم يكن بيتًا كاملًا، بل بقايا بيت أطاح صاروخ بجزئه الجنوبي ـ الشّرقي.

هكذا توجّب على روز أن تستخدم الغرفة الصغيرة في الجهة الشّمالية، السّليمة نوعًا ما، كمأوى لها، ومكان لعملها الجديد.

عندما أبصرت البيت المهجور المهدّم، دخلت بين الركام وارتمت في الغرفة الصّغيرة، حيث لم تعد قدماها قادرتين على حملها. لم تكن تعرف كم من السّاعات سارت وهي تبحث عن ابنها. لكنها كانت تشعر أنها لم تنم منذ أيام.

عندما استلقت على الأرض، أحست بشيء قاس يحتّك بفخذها. مدتْ يدها تبعد الحجارة وبقايا الرّكام عن الأرض، لتكتشف أن ما ينخزها كان داخل ثوبها. مدت يدها إلى جيبها وأخرجت مجموعة من الصّور. نظرت إليها باستغراب، ثم رمتّها جانبًا. هي لا تتذكّر كيف وصل ذلك الكمّ الهائل من الصّور إلى جيوبها. استلقت مجددًا وأغمضت عينيها، لكنها لم تغْفُ.

راحتْ تتذكّر كيف وصلتْ هذه الصّور إلى جيوبها؟

كلّ ما خطر ببالها بعد سماع تلك الكذبة السّمجة عن دفن ابنها تحت الأنقاض، أنها توجّهَتْ إلى البيت سريعًا.

كانت قد عاينت البيت مئات المرات، لكنها عادتْ إلى أنقاضها، تعاين من جديد. يومها راحت تمشي على رؤوس أصابعها، تعاين كل حجر، تتفقد، تلمس، وتشمّ كل ما تقع عليه عيناها. لم تجد قطرة دم واحدة. لم تعثر على أيّ شيء يؤكد تلك الكذبة.

يومها وقبل أن تهمّ بمغادرة الأنقاض لمتابعة البحث. أحستْ بعين تراقبها. نظرتْ حولها، راحتْ تلتفّ بكل الاتجاهات. هناك عين تراقبها، هي متأكدة من ذلك. كادتْ تجنّ.

لمحتْ ألبوم الصّور، الملقى بين الركام. التقطته وراحتْ تقلّب صفحاته.

وجدَتْ يومها صورًا حديثة لها ولابنها. صورًا قديمة لسامح وهو باللباس المدرسي. صورًا لزوجها وأمها رحمهما الله. صورها مع الجيران، مع أصدقائها، وإخوتها، صور ابنها مع أصدقائه. لم تكن الصّور بحالة جيدة، فبعضها تمزّق، وبعضها بنصفٍ محروق، بعضها بلا رؤوس، بعضها بلا أطراف، لكن ذلك النّقص لم يؤثر على معرفة روز لمن يقبع داخل الكروت الكرتونية.

كانت ببساطة، ودون جهد، تركّب بذهنها فورًا الجزء المفقود، وترى الصّورة القديمة ذاتها.

من ذلك اليوم، راحت تجمع الصّور من أنقاض البيوت، بدون أن تعي.

تذكّرت كيف وصلت الصّور إلى جيوبها، لكنها لم تتخيّل، أن يكون ما جمعته بهذا العدد.

صور أشخاص تعرفهم، وأشخاص لا تعرفهم. صور ابنها، وجيرانها، وزوجها، وإخوتها. صور أطفال، ورجال، ونساء. صور أطباء، وطلاب مدارس، وفتيات ضاحكات. صور ضبّاط مكشّرين، ونساء على الشاطئ. صور حجّاج في بيت الله. صور شخصية، وصور ملونة، وصور بالأبيض والأسود. صور عشاق ولهانين، وصور عجائز بَشوشين. صور في مكاتب فاخرة، وصور مع حيوانات في الزرائب. صور بيوت وشوارع وسيارات.

كيف جمعت كل هذه الصّور؟ ومتى؟ كانت الجيوب الأمامية لثوبها ممتلئة، وجيوب سترتها أيضًا.

اتكأت على مرفقها وراحتْ تنظر باهتمام إلى الصّور.

اكتشفت روز أنّ كل الوجوه في الصور كانت واجمة، باستثناءات قليلة، لبعض الوجوه الباسمة.

ابنها بلباسه المدرسي، كان عابسًا. جارتها ليلى، كانت مثل صنم. صورها أيضًا، مثل فزاعة الطّيور. كانت تقف باستعداد، كأنّها تحيّي العلم الوطني.

كانت الصّور بحالة سيئة، بعضها مثقوب. ثقوب في العيون، ثقوب في الرّؤوس، ثقوب في الأفواه، ثقوب في الوجوه، ثقوب في الأطراف.

صور أخرى كانت سليمة الوجوه، باسمة الأفواه، لكن بلا أجساد.

تخلّت روز عن فكرة النوم، ونهضتْ تبحث في ركام ذلك البيت عن إبر وخيطان.  

الصّورة الأولى: يبدو فيها ابنها متهّلل الوجه، بجانب مجموعة من أصدقائه. لكن مكان عينه اليسرى هناك ثقب. ربما هي ذات العين، التي كانت تحملق فيها في أنقاض المنزل.

راحتْ تكرّ خيوط صوف البطانية، التي أعطتها لها جمعية الصّليب الأحمر. قصّتْ قطعة قماش بحجم عين ابنها. وضعتْ القطعة الصّوفية الرّمادية خلف الصّورة، وراحتْ تخيطها.

انتقلتْ إلى صديقه رامي.

رامي كان بوجه سليم، لكن بلا ذراع. الصّورة تمزّقت مكان ذراعه.

قصتْ قطعة قماش بحجم الذّراع، وضعتها أيضًا خلف الثّقب، وخاطتها.

عدي أيضًا يحتاج لبعض التّرميم. وجهه وأعضاؤه تظهر سليّمة بالصورة، لكن ذلك الثّقب الصّغير في جذعه، يحتاج إلى إعادة إعمار.

قصّتْ قماشة صغيرة. رمّمتْ مكان الثّقب. خاطته جيدًا، محاولة عدم إظهار الخيط الصّوفي، حتى لا يفسد جمال الصّورة.

انتبهتْ إلى خلفية الصّورة، فهي تحتاج هي الأخرى إلى لمساتها.

كانت الشّجرة ممزقة، والسّماء مثقوبة، من عدة جهات. سارعت إلى قماشها.

قصتْ قطعًا بحجم ثقوب السّماء المحروقة، وأخرى بحجم الشّجر الممزق. خاطتها بهدوء، معيدة كل شيء إلى مكانه.

عندما انتهتْ من الصّورة الأولى، لاحظتْ، أن كل التّرميمات، كانت بنفس القماش السّميك لتلك البطانية الرّمادية الغامقة. عين ابنها، وذراع رامي وبطن عدي وثقب السّماء، وجذع الشّجرة، حملوا نفس اللّون.

راحتْ ترسم عينًا، وذراعًا، وجذع شجرة، وقطعة سماء، وبدأتْ تلصق كل عضو في مكانه تمامًا، على الصّور المقطَّبة جيدًا. لم يكن لديها سوى قلمٍ أزرق، لهذا حالف الحظّ السّماء فقط، بشيء يشبهها قليلًا.

بدتْ الصّورة كاريكاتورية. العينان متباينتان. الذّراعان، إحداهما أطول من الأخرى. لحسن حظ، جذع عدي، بدا أكثر تعديلاتها مصداقية. بطن طبيعية، تغطيها قطعة قماش رمادية، تتمّم سروال الجينز الفاتح.

لم تهتم روز لهذه التّباينات، وتابعت عملها بدون استراحة، حتى ارتمتْ على الأرض من شدة الإعياء.

كانت قد أنهت خمسًا وعشرين صورة. رممت خلالها ثلاثة عشر رأسًا، وخمسة وثلاثين ذراعًا، وثلاثة وعشرين عينًا، وستة أنوف، وخمسة أفواه ـ أصرّت على رسمهم باسمين ــ، وجذعين، وسبعة أرجل، وإحدى عشرة أذن.

البطانية انتهت. ثوبها القديم أيضًا، تحوّل إلى أعضاء على أكثر من مئة صورة.

أصبحت خبيرة بالرسم، فالعيون لم تعد متباينة كثيرًا، والأطراف شبه متناظرة.

بالإضافة لخبرة التّرميم، صارت روز تبتكر طرقا جديدة، عندما تعوزها الأدوات.

راحتْ تركّب أجزاء صور على صور أخرى. فالصّور التي تمزقت إلى نصفين، ولم تجد روز إلا جزءًا منها، ركّبتها على صور لم تجد أنصافها أيضًا.

رؤوس الرّجال في الصورة التي لم تجد لها تتمة، ألصقتها بأجساد الأطفال. أجساد النّساء، ركّبتْ لها رؤوس الرّجال. قدما الرّجل المشعرتان، خاطتهما على جسد المرأة التي لم تجد قدميها. الصّورة الجماعية التي لا يظهر من شخوصها إلا الجزء السّفلي، ركبت لها روز أجزاء علوية من صورة أخرى.

كانت روز تخلق كائناتها الجديدة، الذّين لم يكونوا نساء ورجالا وأطفالا، بل كانوا كل ذلك معًا. كان الكائن منهم ممتزجًا بالأنوثة والذكورة في آن. كانوا أطفالًا بأجساد رجال، ورجالًا بأجساد أطفال. كانوا نساءً برؤوس رجال، ورجالًا برؤوس نساء. وجه رجل بفم امرأة. قوام امرأة بجذع رجل. رأس طفل بذراعي رجل. لم تكن روز تهتم للتباينات تلك، كل ما كان يعنيها هو أن تسفر عمليّاتها الجراحية عن أجساد كاملة.

راحت روز تلصق الصّور على جدران الغرفة، وتغطيها بشريط لاصق، شفاف.

لم تكن إلا قطعة صغيرة من ثوبها الأخير تظهر بالصّورة الفائزة.

كان الثّوب كان قد تحول إلى عشرة بيوت وثلاث وعشرين سيارة، وتسعة عشر قدمًا، وثلاث وثلاثين عينًا، وخمسة وعشرين رأسًا، وأربع وأربعين ذراعًا، وستة شوارع، وسبع وأربعين ابتسامة.

فازت عين الكاميرا المتحركة بصورة الغرفة الصغيرة، التي حوّلتها روز إلى معرض، وحولها الصّاروخ إلى سقف منهار، وجدران متكئة على بعضها، والتي تناثرت بينها أعضاء جسد روز الممزّق فيما يتكئ رأسها على بقايا كائناتها الجديدة المقطَّبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

علّة في الصمت

ثلاثة أوقات للقتل