15-يوليو-2017

لم يتطلب الأمر سوى سويعات حتى عادت اسطنبول إلى هدوئها (سترينغر/Getty)

كانت أمسية جميلة لا شيء فيها ينبئ بخطر داهم، كل شيء في إسطنبول كان على ما يرام. أنهينا مؤتمرنا ثم ذهبت رفقة أصدقائي إلى مطعم شامي بأكسراي، وهناك التقيت بمحمد وهو يحمل مسبحات وقطع شكولاتة ليبيعها. كان طفلًا سوريًا في الخامسة من عمره، يجمع وجهه الملائكي براءة الأطفال وإصرار الرجال.  

كانت التجربة الأحلى والأقسى في حياتي وأكثر ما فكرت فيه حينها فكرتي الموت ومصير السوريين اللاجئين في تركيا

سألته عمن يصحبه فأشار إلى والده المقعد على بعد أمتار. لم يكن محمد كثير الكلام، رفض أن ألتقط صورة معه أو أن أقبل وجهه الجميل بينما سمح للشباب الذين كانوا معنا بذلك. أعطته صديقتي ليرتين فقدم لها قطعة شكولاطة، امتنعت عن أخذها ظنًا منها أنها تساعده، لكنه رفض أخذ المال دون مقابل. ذهب محمد في حال سبيله لكن صورته بقيت في مخيلتي، لم تقطعها سوى صرخة صديق سوري "يا جماعة! انقلاب في تركيا".

اقرأ/ي أيضًا: الجدول الزمني لصعود وهبوط الانقلاب في تركيا

كان يمسك هاتفه مرتبكًا، لكن كلامه لم يلق تصديق المجموعة. حاولت أن أبين له بعقلانية استحالة كلامه معتقدة أن لدي قدرة على التحليل السياسي بعمق وعلى استشراف المستقبل، إضافة إلى أن الشارع كان في تمام هدوئه. لكن نظرتي قد خابت هذه المرة.  
بدأت المروحيات الحربية تقطع هدوء سماء اسطنبول، عقبتها شهقة من صديقي السوري وهو يقول "الموضوع جد يا جماعة! التلفزيون الرسمي اقتحم". حينها فقط ارتبكت وأدركت أننا أمام خطر عظيم، فطلبت من أصدقائي المغادرة. في تلك اللحظات بدأ الخبر ينتشر، فظهر التوتر على الوجوه وتسارعت الخطوات في كل الاتجاهات.

أسرعنا نحو المترو وأنا شاردة الذهن مبعثرة التفكير، الذي طغت عليه فكرة لقاء الله بلا استعداد ومصير السوريين هناك، إلى أن وصلنا إلى المحطة وكانت المفاجأة أن أبوابها موصدة. كنا تونسيتين في المجموعة، وكانت صديقتي أشدنا ارتباكًا، فحاولت جاهدة كتمان توتري والتظاهر بالهدوء سعيًا لتهدئتها. كنت أردد لها ونحن نحث الخطى نحو الفندق "ما تخافيش، الله خير حافظ، استغفري".

وصلنا الفاتح، فوجدنا تجمعًا كبيرًا من الناس يتبادلون العنف، كان واضحًا انقسامهم بين أنصار الانقلاب ومناهضيه. زدت في سرعة خطواتي وقد تقدمت أصدقائي وصرخت فيهم "ماتاقفوش"، حينها بدأ الجزء الأكثر رعبًا، إذ لم تكن تفصلني سوى أمتار عن ذاك الرجل الذي انغمس في موجة غضب هستيري شاهرًا مسدسه، مزمجرًا باللغة التركية، لكنني لم أستوعب من الموقف سوى أن المسدس كان مصوبًا في اتجاهي.

بدأ الكل بالركض في اتجاه واحد وكنت الاستثناء الوحيد، فكرت حينها أن التجمعات تكون عرضة للاستهداف في الحروب والانقلابات العسكرية. فركضت في اتجاه معاكس مرددة الشهادتين وكل تفكيري منصب على فكرة الموت.

توجهت نحو حي سكني، فدعتني سيدة تركية إلى منزلها، وقد كان وصولي إلى تلك العائلة من أعظم نعم الله علي حينها. لم يهدأ صوت الرصاص، ولو تتوقف المساجد عن الأذان حتى الفجر. كنا جالسين في حديقة المنزل، فتملكني النعاس قليلا لأستيقظ مذعورة باهتزاز الأرض من تحت أقدامنا جراء قصف عنيف، وحلقت المروحيات فوق الحديقة فهرعنا إلى الداخل في سرعة البرق.

لم يتطلب الأمر سوى سويعات حتى عادت اسطنبول إلى هدوئها. في اليوم الثاني، كان الموالي والمعارض للحكومة يدًا واحدة يهتفون "يا الله، بسم الله، الله أكبر". صليت رفقة أصدقائي في مسجد السلطان أحمد، فقرأ علينا الإمام في إحدى الركعات "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل". كانت التجربة الأحلى والأقسى في حياتي، لكنني فكرت بعدها كثيرًا بالصغير محمد الذي لا أدري كيف مرت عليه تلك الأحداث المرعبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

3 أسباب رئيسية لفشل الانقلاب العسكري في تركيا

تركيا... انقلاب أو تمرد