18-ديسمبر-2016

الصحافي الراحل مصطفى أمين (1914 – 1997)

في كل وقت من حياة الشعوب يظلّ البعض خالدًا بذكراه أو ما فعله لتبقى سيرته محل اهتمام الآخرين. كثيرون هم من يعملون وينتجون ويثابرون للوصول للناس والرسوخ في ذاكرتهم، لكن من الصعوبة أن يتقبّلهم الناس ويحفروا لهم مكانًا في رؤوسهم لاسترجاع حكاياتهم وقت الحاجة إليها. 

يعتبر مصطفى أمين علامة راسخة في تاريخ الصحافة المصرية ومدرسة صحفية قائمة بذاتها

وفي ظل الأوضاع الحالية التي تشهدها مصر، والأجواء التعيسة التي تعيشها الجماعة الصحافية المصرية بعد الحكم بسجن نقيب الصحافين المصريين لعامين، بتهمة إيواء صحافيَين كانا مطلوبين للعدالة، ربما يكون مفيدًا استدعاء تجربة واحد من أشهر الصحافيين المصريين حُكم عليه بالسجن المؤبد على خلفية اتهامه بالتخابر مع دولة أجنبية. سجّل الكاتب الصحافي الراحل مصطفى أمين (1914-1997) تجربته القاسية في المعتقل السياسي في تسعة كتب، أشهرها "سنة أولى سجن"، وهو عبارة عن مجموعة من الرسائل التي كتبها من خلف القضبان إلى زوجته وشقيقه علي أمين وصديقه الصحافي اللبناني سعيد فريحة، ووصف فيها معاناته وآلامه التي عاشها في محبسه، ليخرج كتابه مُعبّرًا عن مأساة صحافي زرع نواة إحدى المؤسسات الصحافية المهمة في مصر، مؤسسة أخبار اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: ما وراء التعذيب

يعتبر مصطفى أمين علامة راسخة في تاريخ الصحافة المصرية ومدرسة صحافية قائمة بذاتها، أفنى حياته في خدمة صاحبة الجلالة، وتعلّم على يديه العديد من الكتاب والصحافين الذين تخرّجوا من مدرسته حتى أصبحوا أعلامًا بارزة في عالم الصحافة، ولا تزال كتبه ومقالاته مرجعًا مهمًا لأي صحافي يريد تعلّم فنون الكتابة الصحفية ومهارة التعبير. بدأ أمين حياته الصحفية مع بداية الثلاثينيات ثم أسّس جريدة "أخبار اليوم" عام 1944 وتوقّع الكثيرون فشلها، إلا أنه نجح وشقيقه التوأم علي أمين في إرساء قواعد المؤسسة الصحفية الجديدة، وصنع من صحفييها نجومًا بعد ذلك.

وقصة حبس مصطفى أمين نفسها درامية، فالقضية التي اتهم فيها الأخوان مصطفى وعلي أمين فيها الكثير من الغوامض والأخذ والرد حتى الآن، فقد كان مصطفى أمين مُكلّفًا من قبل الرئيس جمال عبد الناصر بالبقاء على اتصال بالولايات المتحدة بعد حرب 1956، وكانت القيادة تمدّه بما ينبغي أن يقوله لمندوبي أمريكا، وفي الوقت ذاته كان ينقل إلى عبد الناصر ما يقوله الأمريكيون، ولكن بعد فترة ساءت العلاقة بين مصطفى أمين وعبد الناصر وغيره من قيادات "يوليو"، الأمر الذي أدّى إلى القبض عليه ومحاكمته بتهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة، وكان دليل إدانته هو المعلومات التي كانوا قد أعطوها له سلفًا ليسلّمها إلى المندوبين الأمريكين، وصدر عليه الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة، قضاها مصطفى أمين في السجن وقضاها أمين هاربًا في لندن. 

الرواية السابقة هي الرواية التي ادّعاها مصطفى أمين، وكذّبتها المخابرات ومن بعدها الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل، الذي ذكر في كتابه "بين الصحافة والسياسة" أن أمين لم يجرؤ على رفع دعوى بعد خروجه لتبرئة ساحته من تهمة التخابر ضد مصر، رغم أنه ملأ الأجواء بالحديث عن تعرضه للتعذيب أثناء استجوابه من رجال صلاح نصر أو في سجنه.

وفي عام 1972، قامت ابنتا مصطفى أمين، رتيبة وصفية، بعد وفاة عبد الناصر بزيارة إلى جيهان السادات مع السيدة أم كلثوم أملًا في التوسّط من أجل الإفراج عن والديهما، ولكنهم لم يوفقّوا في الإفراج عنه فورًا، ولكن قام السادات بإصدار قرار العفو عنه بعد هذه الزيارة بثلاث سنوات، وقد تعمّد السادات توقيع قرار الإفراج الصحي عنه وسط مجموعة من قرارات رئاسية أخرى بالإفراج عن عدد من الجواسيس الإسرائيليين والأمريكيين في إطار عملية تبادل الأسرى حينها.

كُلف مصطفى أمين من قبل جمال عبد الناصر بالبقاء على اتصال بالولايات المتحدة بعد حرب 1956

كل هذه الأسباب جعلت من مذكراته شيئًا مثيرًا للاهتمام، خاصة وأن رجلًا مثله تعرّض للحبس لا بد من متابعته ومعرفة مأساته. وفي كتاب "سنة أولى سجن" يحكي مصطفى أمين عن قيامه بمعاونة زملائه المسجونين بعملية تهريب هذه الرسائل، ووصفها بأنها كانت "عملية خطيرة وشاقة ومستحيلة"، وأن من يقوم بهذه المهمة كان يعرّض حياته للخطر، إلا أنه لم يهتم بما سيلاقيه من العقاب الذي ينتظرهم إذا وقعت إحدى هذه الرسائل في يد الضباط أو الحرّاس، وأوضح أن هدفهم كان "مقاومة الظلم وخروج الحقيقة المسجونة خارج الأسوار". 

اقرأ/ي أيضًا: 8 أعمال روائية من أدب السجون العربي

ويؤكد مصطفى أمين في كتابه أنه خلال فترة سجنه طيلة تسع سنوات تنقّل فيها بين سجون عديدة، من "سجن القبة" و"السجن الحربي" إلى "سجن الاستئناف"، حتى "ليمان طرة"، ثم "معتقل قصر العيني"، استطاع تهريب تسع آلاف رسالة واستطاعت هذه الرسائل كلها أن تخترق الحصار المفروض وتقتحم كل القيود المفروضة، دون أن يتم ضبط رسالة واحدة منها. وبعد خروجه من السجن حاول أن يستعيد هذه الرسائل، إلا أنه وجد بعض أصدقائه قد فزعوا من محتوى هذه الرسائل وقاموا بحرقها، خشية أن تُضبط في بيوتهم، وهنا يقول أمين أنه لا يلومهم فقد "كان الفراعنة الصغار يعتبرون الرسائل من سجين سياسي أخطر من قنبلة"، ولكنه أكدّ أن أغلبية هذه الرسائل بقيت سليمة. وكانت أولى هذه الرسائل تلك التي بعثها إلى زوجته من سجن القبة في تموز/يوليو 1965، والتي يصف فيها وحشية رجال الأمن الذين جاؤوا إلى منزله في الإسكندرية للقبض عليه، واصطحبوا معهم مصورًا لكي يلتقط له الصور، وهذا جعله يتأكد أن هذه "المسرحية" مُدبَّرة، وقد قاموا بوضع الحديد في يده وأركبوه سيارة خلفها وأمامها عدد من السيارات بداخلها عدد من العساكر المسلّحين بمسدسات ومدافع رشاشة اتجهوا به إلى القاهرة، وبالتحديد إلى مبنى المخابرات، المكان الذي يتواجد بداخله صلاح نصر مدير المخابرات الذي أبلغه أن عبد الناصر نفسه هو الذي أصدر قرارًا بالقبض عليه.

كما أخبرها في الرسالة بعلمه أن المخابرات العامة قدّمت بلاغًا ضده للنائب العام تتهمه فيه بتكوين عصابة من بعض المُحرّرين في "أخبار اليوم"، تكون مهمتهم خدمة أمريكا وتقديم أسرار البلد، وأخبرها بأنهم قاموا باستدعاء محرري "أخبار اليوم" وانهالوا عليهم بالوعيد والتهديد للشهادة ضده، ولكن المحرّرين رفضوا الإدلاء بأي شهادات ضده. كما وصف لها وسائل التعذيب التي لجؤوا لها ضده داخل سجن المخابرات منذ صدور قرار بمنعه من الأكل والشرب، وهو الأمر الذي اضطره لشرب ماء الاستنجاء بداخل دورة المياه، وفي اليوم التالي لشربه من بوله لم يجد بولًا لكي يشربه حتى أصبح كالمجنون من شدة العطش، خصوصًا أنه مريض بالسكري ويحتاج الماء بكثرة، حتى جاءه حارسٌ وأعطاه كوبًا من الماء المثلج الذي عادت معه روحه وعادت الدماء تجري في عروقه. وبعد ذلك أخذوه إلى السجن الحربي بناء على طلب حمزة بسيوني قائد السجن، الذي وجد ما يحدث له من تعذيب داخل سجن المخابرات مجرد "دلع"، وفي الطريق إلى السجن كان الفريق بسيوني يهدّده ويتوعّده بأنه لم يتسلّم المسجونين بإيصالات وأن أحدًا لن يسأله عن جثثهم، وأخبره أنه كلما دفن مسجونًا سياسيًا يتلقّى خطاب شكر من القيادة. 

ويضيف أمين في رسائله عن شواهد التعذيب الذي يتلقّاه المسجونين على يد بسيوني من الأجسام المصلوبة والظهور التي مزّقتها الكرابيج، وجثث آخرين يتمّ حملها في الظلام لتدفن في الصحراء. أخبر زوجته عن بقع الدماء التي تغطّي كل جدران الزنازين، وعن "ميمي" و"ليلي" الكلبين المُعدّين لاستقبال النزلاء من السياسيين للترحيب بهم، ووصف تعذيبه لمدة 12 يومًا بسبب كتابته لعبارة "والله العظيم مظلوم" على ورقة الاعترافات.

وفي اليوم الثاني عشر أخذوه لمكتب حمزة بسيوني ومعه عدد من ضباط صلاح نصر وجرّدوه من ملابسه، ثم أمروا الشاويش بضربه بالسوط، لكي يرى ضباط صلاح نصر مدى قسوة بسيوني.

وروى أمين في رسائله عن الولد الصغير الذي كان يدخل إلى الزنازين يضربه ويضرب زملاءه من المساجين بمساعدة الشاويش باستخدام الكرباج، كان "الولد اسمه موسى، وهو ابن أخت حمزة بسيوني، والذي كان يأتي إلى السجن للترفيه عن نفسه بضرب المساجين وتعذيبهم".

في "سنة أولى سجن"، يروي مصطفى أمين شواهد عن التعذيب في السجون الناصرية

أما عن لهفته واشتياقه لقراءة الجرائد التى حرموه منها في سجن المخابرات والسجن الحربي، فيقول إنه كان يلجأ إلى الصفحات المُلقاة في صندوق القمامة بالسجن، ووصف حركته البهلوانية التي يقوم بها لكي يستطيع الحصول عليها، وأنه كان يتابع مباريات كرة القدم من خلال الأحاديث التي كان يتبادلها الحرّاس أمام الزنزانة. وتحدّث عن تعذيبه النفسي بحرمانه من السجائر، وعن تعذيبه في سجن القبة الذي كان يقوم فيه حرّاسه بتجريده من ملابسه ليشدّوا شعر جسده وينزعوه بأصابعهم وبعدها ينهالون عليه بالضرب والصفع والركل، وإذا قال لهم "هذا لا يُرضى الله" ردّوا عليه ضاحكين: "إن الله في الزنزانة المجاورة لك".

اقرأ/ي أيضًا: إرنستو ساباتو.. كبرياء الحكاية وسخريتها

كما لم يستطع أن يمحو من ذاكرته ما حدث معه داخل سجن الاستئناف، عندما انهالوا عليه صفعًا وصلبًا وبقي صامتًا، ولكنهم عندما قالوا له إن أمه عاهرة وجد نفسه يبكي كالأطفال، وهو ما أصابه معذبيه بالذهول، لأنه لم يبكِ من التعذيب وبكى عندما سُبَّت أمه التي كان يعشقها. وحكى عن الأيام والشهور التي مرّت عليه دون أن يرى فيها الماء، وعن توسلاته لأحد سجّانيه ليعطيه مسدسًا يقتل به نفسه. وكانت آخر هذه الرسائل في 20 تموز/يوليو 1966 من داخل سجن الاستئناف والتي بعثها ليشكو لعزيزته فيها عن حياة السجن الموحشة التي تشبه حياة القبور.

ورغم الاتهامات التي طالت مصطفى أمين بأن ما كتبه عن وقائع التعذيب في سنوات اعتقاله لم تكن سوى فبركة وأكاذيب، بحسب محمد حسنين هيكل الذي نفى ادعاءات أمين بتعذيبه في السجن، مستعينًا بشهادة محاميه في قضية التجسس وشهادات أصدقاء مقرّبين من مصطفى أمين، إلا أن هذا كلّه لا ينفي إمكانية حدوث ذلك لكثيرين غير مصطفى أمين، والأمثلة كثيرة ومتعدة، لم يُمنحوا الفرصة لتوثيق جرائم ارتكبت بحقهم، وتمت التضحية بهم فداء لبقاء أنظمة دكتاتورية تجيد أيضًا سبك الأكاذيب وترويجها على مدار سنوات طويلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جولان حاجي.. بنات الثورة السورية

سيرة ذاتية متنها رضوى