11-ديسمبر-2017

مقطع من سكة حديد فلسطين بالقرب من محطة بتير غرب القدس (أرشيف وستمنستر)

قليلون من يتذكرون  خط سكة الحديد الذي كان يقطع الطريق بين القدس ويافا وبقية المدن العربية في فلسطين وحولها منذ نهايات القرن التاسع عشر وصولًا للنصف الأول من القرن العشرين، أي حتى قيام دولة الكيان الصهيوني عام 1948. كمصر على سبيل المثال، التي كانت ترتبط بعمق فلسطين وببلاد الشام عبر القاطع الجنوبي لسكة الحديد.  لكن ما قصة السكة الحديد تلك؟ متى أنشئت؟ وكيف؟ وما هي الوثائق والشواهد التي تحكي يومياتها؟ وكيف خربتها العصابات الصهيونية؟ وهل دوَن التاريخ قصصًا إنسانية حولها؟ وما مصير شريان القطار هذا الآن؟  

شهدت القطارات في فلسطين عشرات التفجيرات في حقبة الانتداب البريطاني على يد العصابات الصهيونية

خط " شمندفر" الحجاز.. توصيل إمبريالي وتواصل عربي

كانت الدولة العثمانية قد دخلت في طور شيخوخة سياسية وتهتك عسكري منعاها من السيطرة على مقاليد الإمبراطورية الشاسعة مترامية الأطراف، فما كان من السلطان عبد الحميد الثاني إلا أن قرر إحكام قبضته على الأمور واتباع سياسية مركزية في إدارة الدولة العريضة. وبما أن الحج كان أحد أهم المناسبات الدينية التي يرعاها آل عثمان، ويجزلون فيها العطاء، إذ كان يعهدون إلى ولاة القدس أو صيدا أو دمشق بالإشراف على تأميم قوافل الحجيج الشامي، ويعقدون الاتفاقات مع شيوخ القبائل البدوية لرعاية الحجيج ويعهدون إليهم بالهدايا، وكانت المسافة التي يجب أن يقطعها الحجاج من العراق إلى الحجاز تبلع حوالي 1300 كم ، تُقطع في شهر كامل، ومن مصر عبر سيناء حوالي 1530 كم تُقطع في أربعين يومًا، أما طريق الحج الشامي فكان مسيرته حوالي 1320 كم ويُقطع أيضا في أربعين يومًا أيضًا، وعلى إثر ذلك شيد السلطان عبد الحميد خطًا للسكة الحديد بين يافا والقدس عام 1886 بهدف نقل الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا بحرًا من يافا  إلى القدس، وبلغت مسافته حوالي 87 كم، ثم صدر الأمر السلطاني بمد خط حديد بين بيروت و دمشق بطول 147 كم .

اقرأ/ي أيضًا: سكة تل أبيب - الرياض.. تسريبات إسرائيلية عن قطار التطبيع السعودي

ولم تكن أهداف إنشاء السكة الحديد دينية خالصة بل كان لها أهداف سياسية منها، رفع أسهم السلطان عبد الحميد عند رعاياه من المسلمين، وتقوية شوكة الدولة العثمانية، وتقليل مخاطر الإنجليز المتربصين في البحر الأحمر.

عرف القطار في كثير من الأرياف الفلسطينية أوائل القرن العشرين باسم "البخارية" لارتباطه بالمحرك البخاري، ومن التسمات أيضا "بابور"

يقول الباحث مهند المبيضين في كتابه "مر القطار – مائة عام عمان- دمشق " : " كان ذلك الزمان، زمان دخول الحديد إلى دروب الشام وارتفاع صوت القطارات في المنطقة، في لحظة كانت ترسم فيها المنطقة من قبل الدول الكُبرى ".

كانت خطوط السكة الحديدية في فلسطين شريان حياة بحق، يربطها ببعضها البعض، و لا تزال بعض آثارها موجودة داخل الأراضي المحتلة، بينما أعيد تجديد أقسام أخرى وتستعمل اليوم من قبل سلطة القطارات الإسرائيلية. ويشار إلى أن  دولة الاحتلال قامت بفك بعض مقاطع السكة الحديدة جنوب فلسطين لتستخدمها في دعم قضبان خط بارليف في سيناء. أما العربات فقد وضع جزء منها متحف القطارات الإسرائيلي.

كان الخط ينطلق من دمشق، ويتفرع من بصرى جنوب سوريا إلى خطين، أحدهما يصل إلى الجنوب نحو الأردن، أما الآخر فكان يتجه غربًا نحو فلسطين، وتعد نابلس وحيفا وعكا أهم محطات الخط فى فلسطين، ويتفرع من كل من حيفا واللد خطان على طول الساحل الفلسطيني جنوبًا ليرتبط بمصر في نهاية المطاف.

من قنطرة مصر إلى كرمل فلسطين

كان خط السكة الحديد الرئيسي يبدأ من القنطرة بمصر إلى حيفا بفلسطين، ثم إلى بيروت. وكانت هناك فروع تخدم يافا، والقدس، وعكا ومرج بن عامر. واستغل المحتل الصهيوني سكة الحديد لدعم عمليات الاستيطان الصهيونية بالمنطقة فيما بعد. إذ يقول المؤرخ مصطفى عليان من قرية بيت صفافا غرب القدس التي كانت تضم إحدى نقاط وقوف القطار، "إن السكة الحديدية أنشئت خلال الحكم العثماني بجهود السكان الفلسطينيين المحليين، وكان عمال القطار فلسطينيين من عدة مناطق وبلدات منها اللد وبتير وبيت صفافا وغيرها".

 وأضاف "لقد حاولوا تغيير الطابع الفلسطيني للقطار، حتى أنهم قاموا بإزالة الاسم الذي كان منقوشا باللغة العربية واستبدلوه باللغة العبرية، لقد تم تهويده بشكل كامل".

وخلال الحرب العالمية الأولى أقام الإنجليز "خط سكة حديد سيناء العسكري" ، لخدمة أغراضهم العسكرية في فلسطين، وأنشأوا أيضا لذلك كوبري الفردان الأول، الذي يصل إلى العريش، ومن ثم رفح في مارس/آذار  1917. وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ووقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، تم مد  هذا الخط إلى داخل المدن الفلسطينية في القدس وبئر السبع.

شهدت نقابة عمال سكك الحديد في فلسطين في حقبة الانتداب البريطاني انقسامات على خلفية قومية بين العمال العرب واليهود

كان القطار يستغرق عدة ساعات ليصل إلى القاهرة من فلسطين، عند رفح كانت هناك لجنة هدفها الأول التفتيش على الجوازات والتذاكر، وكان يستقله العديد من الطلاب الذين يتوجهون من فلسطين إلى الدراسة في مصر.

وتذكر جريدة العاصمة، جريدة أردنية قديمة، والوثائق الهاشمية التي تخص إدرايات السكة الحديد، أن السكة الحديد مثلت رافدًا هامًا لتنشيط حركة البضائع وتوفير الوقت والأمن للتجار، و تحدد جريدة العاصمة الإجراءات التي تتبع عند شحن البضائع، من دمشق وحيفا إلى مصر، و يظهر من خلال ما ورد فيها، أنه كان يجب بيان الوزن والحجم والكمية، للبضاعة المشحونة،  وبيان اسم المحل المشحون إليه، ويبدو أن نقل بعض البضائع قد تعطل بسبب الحرب العالمية الأولى. في حين تطول الشروحات حول الخط وما كان يحيط به من أبنية سكنية سكنها الفلسطينيون قبل النكبة آمنين في بيوتهم، قبل أن يخرجوا منها قسرًا إثر موجات التهجير المستمرة لتهويد المكان.

بينما تذكر مصادر أن "السكك الحديدية التي مرت عبر الأنفاق ظلت  تخدم البريطانيين ومستلزماتهم العسكرية بين عامي 1943 و1948 شكلت المنظمات شبه العسكرية الصهيونية في عام 1945 تحالفاً، هو حركة المقاومة اليهودية، والتى شنت حرباً ضد الإدارة البريطانية، حيث قامت عدة منظمات صهيونية بتخريب خطوط سكك الحديد الفلسطينية ومحطاتها وجسورها، ومن أهم تلك المنظمات البالماخ والإرغون وشتيرن. قامت هذه المنظمات بعمليات إرهابية في 153 موقعاً في جميع أنحاء فلسطين.  وفي عام 1946 هدمت قنبلة الجزء الرئيسي من مبنى محطة شرق حيفا، إلى جانب تدمير 11 موقعاً من جسور ومسارات للسكك الحديدية التي تربط فلسطين بدول الجوار.

انطلقت سكة الحديد العثمانية لخدمة الإمبراطورية وتعزيز سيطرتها، لكنها أسهمت بالقدر عينها في تعزيز التواصل العربي بين المناطق التي عبرتها

وبعد احتلال الصهاينة لأجزاء من فلسطين عام 1948 تعطلت جميع الخطوط الواصلة بينها وبين الدول العربية المجاورة، وقامت الدولة الصهيونية بتمديد خطوط جديدة وصلت الخط القديم (حيفا – القدس)  بتل أبيب، ومدت خط آخر بين تل أبيب وكريات غات وبئر السبع،  وتم إنجازه في عام 1955، ثم أكمل إلى ديمونة، في عام 1965 ومنجم الفوسفات في شمال شرق النقب، منطقة وادي عربة المحاذية للحدود الأردنية،  بحلول عام 1970. وقد بلغ طول الخطوط الحديدية في فلسطين المحتلة عام 1978 نحو 516 كم .

أنثروبولوجيا بطعم الآلة البخارية

يورد الباحث مهند المبيضين عن ذاكرة القطار حكاية إنسانية ترويها أم عدنان. إذ تقول " كنا حين نركب القطار  نضحك، لكن أبو عدنان، بهجت عبد القادر التهلوني، كان يحمل في داخله ذاكرة سلبية عن القطار تخص أمه وأبوه. وهي ذاكرة تعود للحرب العالمية الأولى حين كانت جيوش الدول المتحاربة تتبادل القصف وكانت السكة الحديد أحد الأهداف الرئيسية للطيران الانجليزي و الفرنسي.  

كان والد  بهجت "أبو عدنان" تاجرًا بين سوربا ومعان في الأردن، وركبت أسرته القطار، أبوه وأمه وإخوته وخالاته، وكانوا قد وصلوا إلى المفرق، أين هاجمتهم الطائرات الفرنسية أو الإنجليزية، وقصفت القطار ونزل الركاب ومشوا على أرجلهم من المفرق إلى درعا في سوريا. حين أصابهم القصف للمرة الأولى اختفى أحد إخوة  بهجت. بحثت عنه العائلة دون جدوى، حتى أنهم لم يجدوا الجثة، فاضطرت الأسرة إلى استكمال طريقها إلى الشام دون الأخ المختفي، فماتت الأم في الطريق، هدية أم بهجت، وكان من يموت في القطار يُلقى على جنبات الطريق. تنتهي القصة الإنسانية هنا، وربما لم يعد شخوصها أحياء حتى اليوم، ولكن الذاكرة والوثائق والكتب، والمراجع والمواجع تحكي لكل جيل، حقيقة الحياة التي دارت حول سكة الحديد الفلسطينية، وإن تغير اسمها ووجهتها اليوم.

استفاد الفلسطينيون في الأرياف من سكك الحديد قبل النكبة في نقل منتوجاتهم الزراعية للمدن الرئيسية والحصول على وظائف فيها

هذا إضافة إلى الواقع الحيوي اليومي الذي خلقه إطلاق السكة الحديدية بين المدن الرئيسية في فلسطين والحواضر العربية حولها. فكما كانت أداة وصل وتواصل وتنقل للمثقفين والتجار والطلاب بين المدن العربية الشامية والعراقية وبين مصر، أسهم مرورها في الأرياف الفلسطينية بين المدن ووجود محطات للركاب بالقرب من مصادر المياه عبر الطريق لتزويد المحرك البخاري بالمياه وإفراغ الفحم المحترق والتزود بفحم جديد، في خلق فرص عمل للسكان المحليين، وإدماجهم في شكل جديد من العمل الحديث الذي لم يعدوه من قبل. وكانت نقابة عمال سكك الحديد، التي سيطر عليها الشيوعيون أولى النقابات التي وجدت في فلسطين، وشهدت هذه النقابة صراعات كبرى، وإن كانت السيطرة فيها شيوعية، على خلفية قومية بين العمال العرب ونظرائهم اليهود، وقد تطرق الباحث زاكري لوكمان بالتفصيل لخلفيات هذه الصراعات القومية داخل النقابة في عمله التاريخي "رفاق وأعداء".

عمال فلسطينيون يصحلون سكة الحديد بعد تفجير على يد عصابة الإرغون (أرشيف وستمنستر)

اقرأ/ي أيضًا: هل يحيي قطار تونس-الجزائر مشروع قطار "الوحدة"؟

إلى جانب مسألة خلق سوق جديد للعمل فقد أسهمت السكة الحديدة عبر مرورها بالأرياف في توفير وسيلة نقل للمنتوجات الزراعية من القرى الفلسطينية نحو المدن الرئيسية كحيفا ويافا والقدس واللد. وفي هذا الصدد تقول نعمة المصطفى "88 عام" من قرية دير الشيخ المهجرة، غرب القدس شمال اللد، لألترا صوت، أنها اختبرت السفر عبر القطار مرات عدة مع والديها، "كنا ننزل ليافا نستبدل العنب الذي نقطفه من كرومنا وزيت الزيتون والبرتقال اليافاوي في موسمه، وكنت أذهب معهما إلى القدس أيضًا في المواسم والأعياد كموسم النبي موسى ورمضان". وتضيف المصطفى " كنا نسمي القطار باسم البخارية، لأنه يصفر ويصدر صفارات ودخان وبخار كثير، وقالو لنا أن الماتور يعمل على البخار، لا أعرف كيف".

كانت سكك الحديد في فلسطين قبل النكبة أداة للتواصل الفعال مع المحيط العربي، لذلك استهدفتها العصابات الصهيونية مبكرًا

بينما يشارك محمود حسن الحسين (97 عامًا) ذكرياته مع ألترا صوت، إذ عمل في صيانة السكة الحديدة أثناء الحقبة الإنجليزية، وكان والده من قبله قد عمل مساعد سائق قطار أثناء الحقبة العثمانية، فيقول "كانوا العمال اليهود والشيوعيين يقولون لنا عن فوائد التسجيل في النقابة، لتحسين الأجر والحصول على تأمين صحي وبدل أضرار عندما نتعرض للإصابة، لكن مندوبين النقابة في حيفا كانو يهود، ولم يكونوا يهتمون عندما نتحدث معهم وكانوا يقيمون اجتماعات خاصة بهم، للعمال اليهود فقط وليس لكل النقابة، لذلك لم أسجل معهم، وأضربنا عن العمل مرة أثناء صيانة خط بالقرب من اللد في منطقة وادي الصرار، لكن الإنجليز حولونا للمحكمة ووقفونا عن العمل 6  شهور وقتها". ويضيف الحسين "كان العمل أكثر خطورة وقت ثورة الفلاحين بعد ثورة القسام في الـ1936، من جهة كانت مصلحة القطارات تجبر العمال على العمل، وفي نفس الوقت كان هناك إضراب عربي وهجوم على قطارات الجيش الإنجليزي والقطارات التي تحمل سلاح لتخزينه مع عصابات المستوطنين".

هذه جوانب من قصص وسرديات من عايشوا القطار في فلسطين قبل أن يكون هناك وجود لدولة تسمى إسرائيل، وقبل أن تحرم الضفة الغربية وقطاع غزة من الاتصال بباقي فلسطين، كذلك حرمانها من وجود قطارات، وقبل تقطيع اتصال فلسطين بمحيطها العربي، وعيًا من إسرائيل الاستعمارية بأهمية عزل الفلسطيني عن سياقه العربي وامتدادته القومية ثقافيًا واقتصاديًا، ومعنويًا وماديًا.​

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رمضان في الجزائر من عربة قطار

بعد مأساة قطاري الإسكندرية.. الإهمال وسوء الإدارة يخيمان على قطاع النقل في مصر