20-سبتمبر-2018

روبرت دي نيرو في فيلم "سائق التاكسي"

رشفة من فنجان قهوة، كانت كفيلة منذ دقائقَ أن أعيد إليّ مزاجًا قلّما بدأت به نهاري. مزاجَ الرغبة في التفكير، والتأمّل، والهدوء، وربّما ترجمة كلّ ذلك بالكتابة، كما أفعل الآن...

أن تصحوَ بمثل هذه الحالة مكسبٌ لم يكن على سائق التكسي "اللعين" أن يعكّره بعد أن مرّ تأخيره دون مساءلة، فالوقت الذي قضيته واقفًا على الرصيف استغللته بمتابعة تلك الجارة اللذيذة وهي تتبادل حوارًا مائعًا مع جار لا توحي ملامحه ولا اللوحة الصفراء لرقم سيارته بالثقة.

السائق البائس اختار أن يمارس تلك العادة القبيحة من السائقين، بالثرثرة الكئيبة عن أحوال البلد، والتذمّر من الوضع الماديّ، مازجًا ذلك بانتقادات للمعمار، وحركة البناء في المدينة باعتبار أنّنا شعب محتل يستهجنُ عليه أن يُشيد المباني!

الراغبون أن تكون أملاكُ النّاس شراكة مشاعًا للجميع كُثُر، تفكيرٌ آثمٌ يحرّكهم ويُواري الجشع في سرائر لا يعلم أحد ما تحمل... لم يكتفِ الوغدُ الأشيب بمحاولة تكدير صباحي، بل حاول أن يجرّني إلى حوار ديني، وهذا آخر ما يمكنني احتماله، أنا لست صديقه ولا رفيقه في المقهى، لست من أقاربه ولا أريدُ أن يدخل إلى مساحتي، لذلك زجرته وأنا أتمنّى لو أن القانون يعاقب إزعاجَ الراكبين في السيارات العامّة خلال رحلة التوصيل.

أرأيتم؟ استنفد الخبيثُ ربع ساعة من وقتي في كتابة كلّ تلك السطور عنه، هراءٌ مزرٍ نمارسه في حشر أنوفنا في شؤون الآخرين، وهراء هو التودّد المزيّف... سائق الأجرة يجب أن يضع لاصقًا على فمه وأن يحترم رغبة الزبون... إلّا أنّ ذلك اللعين لم ينجح تمامًا في هدم مزاجي، وهذا لم أعهده فيّ وأستغرب منه... وشكرًا لمن اكتشف البُنّ وصنع القهوة... كلّ ما فعل السائق أن حرّضني أكثرَ على الكتابة.

ما أودّ أن أتناوله فيه شيءٌ من النميمة، وكثيرٌ من التدليس، ومسٌّ مُباشرٌ في أكثر فئة تحملُ مسؤوليّة الهبوط الحادّ في القيم، وارتهان الجميع للأفكار البالية، والسلوكيّات المُشينة، كما في حوادث القتل إياها، بما تحمل من بشاعة ما يسوّغها من أفكار مجتمعية... إنّهم "مُدراءُ الرأي" أو "قياداته"... من يُقال لهم "المثقفون".

لماذا نكتبْ؟ لماذا نُغرق الأوراق، والصفحات الإلكترونية بما نكتب؟ وماذا نكتب؟ ماذا نُريدُ ممّا نكتُب؟ من سيردعُ جرائمَ تحدثُ أحيانًا فيما نكتب؟ 

أكتبُ أحيانًا لأثيرَ مشاعر من يقرأ، كما أكتبُ في مرّات كثيرة ليُعجِبَ "هُنّ"... فالغرورُ الذي يملأ نفسي المريضة يحتاج للإشباع من ضعف وانبهار وسذاجة المُعجبين ومن أتوهّم أفضليتي عليهم، والشيطانُ فيّ يشتهي كل امرأة، وكلّ الزَهو، والحفاوة، والشهرةٍ، وأية ليلة فاسقة.

ولكن، ما بعدَ حصّتي من كل ذلك، لماذا أكتب، أو سأكتب؟ أزعمُ دائمًا رغبتي في تقديم الجديد، والمختلف، إننا جميعًا نلبسُ ذلك القناع، ونحملُ تلك الرغبة الحقيقيّة غالبًا إلا أنّنا نقتلها مع أولِى النقرات على مفاتيح الكتابة، أو نقطة حبر على ورق، فنغرق في رقابتنا على أنفسنا قبل أن تُغرقنا الفكرة، نحسبُ حساب الآخرينَ، ورضاهم، نخشى غوغائيّة الرافضين، وأحيانًا هراوةً ما... الأهمّ من ذلك أنّنا نخشى على إعجاب الآخرين بما نقول وإن كان إعادة إنتاج لثرثرة سطحية عامّة، وأن يختلف أو يقلّ أو يختفي ضجيج التصفيق من حياتنا...

ولكن، ما بعد كلّ تلك المحاذير، لماذا سأكتب؟ أأكتبُ حقّا من أجل من يقرأون؟ إن كُنت كذلك فهؤلاء يدخلون عقلي بإرادتي، ماذا أقدّم لهم، ماذا أقول ولماذا سأستضيفهم في وعيي يُطالعونه، ويشاركونني شيئًا من طعم الحياة كيف أجده، ما الحاجة لكل ذلك وما المهمّ في "اتصالي" هكذا بهم؟

أأرضي نفسي، ونوازعي، وثاراتي الشخصية، وبُغضًا في داخلي إن زيّفت الواقع، أو زدته قتامة؟ أأخون عقلًا أكتبُ فيه لحظة قرأ ما وضعت على الورق؟ إنّني كذلك إن لم يكن في حساباتي المختلفة إياها شيءٌ من ضمير... شيءٌ من حقيقة.

وما بعد الضمير إن امتلكته ونزاهة الطرح، لماذا سأكتب؟ لماذا سأكتبُ بعد كل ذلك، ما هاجسي الذي سيثيرُ محبرتي؟ إنّ حصول الآخرين على المعرفة، بالتناقل حقّ، ولكن من أنا لأزعم المعرفة، أو امتلاك الحقيقة؟ أو من أنا لأقول ما أقول مُفترضًا أنّه الصواب الوحيدُ المخبأ في جيبي؟ فلماذا سأكتب؟

ربّما أكتبُ الآنَ لأواجه الخوف على مُستقبلي مما في حاضري من آثام، وأكتبُ لأقول إنّني لن أغادرَ بسهولة قبلَ أن أحاربَ اليأس، والرتابة، والقتامة، إذًا أكتب كي لا أقول ما يُحبّ أحد أن يسمعه، بل ما أريد أن يختلفَ معي عليه حين يسمعه... وغدرًا بالقارئ وظّفت الاستماع محلّ القراءة، فنحن نجيد استقاء المعلومات المزيفة والكاذبة، والأريبة بآذاننا ولا نُتعب أنفسنا بالبحث... لا نُحبّ البحث لخوفنا من مواجهة النقصِ، وابتعاد الآخرين عن مكاننا...

أهذه مسؤولية ما يحملها الكاتب، وإن حملتها فرضًا لا جزمًا، لماذا أكتب؟ ما حاجتي لأكون كاتبًا؟ إنّ الناس لا يحتاجون مارقًا آخر يُمارسُ الأستاذيّة، ولا استعراضَ التميّز أو المعرفة... فلماذا أكتبُ إذا؟

طلّقت رواية أكتبها منذ شهرين طلقة واحدة مؤقتة كي أفكّر قليلا في حقيقة رغبتي في الكتابة، ومدى اقتناعي بحجم التأثير فيما أكتب... هذا سببٌ خفيّ لا أسوقه عادة لأحد يعاتبني، وهو سؤال مشروع لمن يحمل القلق، وزعمَ الرغبة في إحداث شيء ما... شيء يمنحني حصّة من كلّ شيء يثيرُ فيّ الشبع...

إنّنا نشكو وضعنا منذ قدّم القلمُ أنانيّة الذات على عطش الفضاء للجديد، ومنذ أحجمنا عن قتال السيئ فينا تملّقًا، فأنشأ كلٌّ عالمه، بل ضيعته الخاصّة...  تلك الضيعة المحصّنة ضد النقد الذي نخشاه، ونهابه حدّ تزييف كلّ شيء حتى مشاعرنا المكتوبة...

النقد ليس رأيًا، النقد علم إجرائي يترافق وكل العلوم، النقدُ تقويمٌ وإصلاح وتغيير وترقية، نحتاجه كي يُرشدنا للحالة المعياريّة، للحالة الأقرب للمعيار فنعرفَ أين نحن من الكلمات... أين نحن من الأفكار والتقنيّات، وأين نحن من أنفسنا وما نريدُ حقّا...

لماذا أكتبُ إن لم أحتمل النقد؟ الكتابة مواجهة شرسة ضارية بين الأشياء، بين العقول، بين رأي ورأي، مواجهة لا يتعيّن أن تُبنى على طريقة الصالونات والابتسامات المزيفة، شرطها الوحيدُ أن تكونَ حقيقيّة لا تدليس فيها كما أفعل الآن... فأنا أدلّس وأستدرجُ الأشياء كي أعلن تأفّفي من برد السطر، ورجم النّاس بِغَثّ الإنتاج، والتصفيق كذبًا لما لا يستحقّ من حبرٍ، ورأيٍ، وسياسةٍ، وعاداتٍ، وهراء آخر يثير الأعصاب.

لماذا أكتبُ؟ هل أنا مهرّج استعراضي يُحبّ أن يدعم نفسه بالزّج بالأسماء والمعارف في نصّه؟ من هو بوكوفسكي؟ أنا لا أعرفه، ولا أعرف مكسيم غوركي، لم يَسْعَد أحدٌ منهما بلقائي الكئيب... أجدُ هذه الأسماء في القصائد العربية، وفي الرواية العربية، وفي نصوص كثيرة، أهو سحرُ الآخر الناطق بلغة أخرى، أم سحر طبيعة "حياتهم" وكيف "يعيشون"؟ أم ضعف الشخصية العربية أمام الغريب ما يجعلني أقرأ في نصّ عربيّ استعراضًا بائسًا، ركيكًا لا طعم له يدّعي صاحبه به معرفته بهؤلاء؟ أنا لا أحتاج هذه الحنجلة السمجة... وأحسّها ممارسة للجنس المثليّ أكثر منها فتحَ أبوابٍ حقيقيّة على عقول هؤلاء... كيف أذكرهم ونصّي يخلو من تأثيرهم ومعرفة منقولة؟  لماذا أكتبُ أسماءهم إذًا؟
 
هل أكتبُ للترف؟ حاولتُ كثيرًا أن أمارس هذه العادة، عادة التّرف، إن لفافة تبغ وفنجان قهوة، أو كأسَ خمر أو لعبة ورق أو مغامرة نسائية، كلّ تلك العادات، أو السلوكيات، أو الإجراءات، سمّها أنت كيفما تشاء، فيها ما يمنح الشعورَ بالترف لمن أراد... كثيرة هي السلوكيّات المُرضية، كلّ إنسان يحدّدها كيفما يشاء، ويختار منها ما يمنحه ترفًا يحتاجه... فلماذا أكتب إذًا؟ لا أعلم سوى أنّ حالة الكتابة عندي شيء مزاجيّ ينتابني كنوبة النيكوتين أحيانًا، ولأنّها تضغط الأعصاب أحجم عنها أغلبَ الوقت...

إنّنا نكتب لأجل كلّ شيء ولكل الأسباب، لكنّنا نخلو من هاجس المراجعة، ولا نخوض المُجازفة إلا في تجربتها الأولى، نكتب لأننا نرغب أن نفعلها فنخوض غمار التجربة، ومغرياتها، ثم نتوقّف عن مُجازفة النقد، ومُجازفة التجديد، أيجبُ أن نكتُب حقّا؟ لماذا أكتب إن لم أتمرّد على الفكرة بفكرة؟ لا أعلمُ ما الحاجة للكتابة بعد كلّ ذلكَ إن لم نلمس التغييرَ، أو بعبارة أخرى إن لم تفعل الكلماتُ ما وُجدت له... إن لم تجعل منّا أشخاصًا أفضل، ومجموعًا ينهض... وإن لم نفعل، فماذا نكتب حقًّا ولماذا نكتب؟

أظنّني أشبعتُ غروري الآن بما زعمتُ، وأنجزت أكذوبتي، واستعراضًا خطّطت له، وألغيتُ من جدولي سائقَ أجرة لن أسمح أن ينتزع صباحي في أي يوم، سائقًا أظنّه لن يقرأ هذا النصّ لو وقع في يده فكله صحراءُ لن تُضيف له شيئًا. لكن، أرجو أنّي أثرتُ إعجاب واحدة من "هنّ"... وإن كان كذلك فيا عزيزتي كائنة من تكونين، مرحبًا بك في أي وقت، فعندي نصف زجاجة خمر، وشيء من السجائر، وانتظارٌ بحرارة صيف!

اقرأ/ي أيضًا: 

فيسوافا شيمبورسكا: القليل عن الروح

أطفال للبيع!