14-نوفمبر-2017

بول أوستر وجي. إم. كوتزي

"هنا والآن" (دار الكتب خان، جمع وترجمة أحمد شافعي) هي الترجمة العربية لبعض رسائل البريد الإلكتروني التي تبادلها الصديقان الروائي الأمريكي بول أوستر والروائي الجنوب أفريقي وجي. إم. كوتزي الذي حصل على نوبل في الأدب. 

هناك شيء واحد يمكننا أن تقوله في حق كتاب جيد وهو أنه لم يكتب من قبل

من الغريب حقًا قراءة كتاب يحمل رسائل أصدقاء حول كل ما يشغلهم من أفكار وتعليقات وهوايات جانبية، وربما لهذا السبب أيضًا حاولنا الكتابة عنه؛ باعتباره فسحة خفيفة وحميمية تشعر خلالها بأنك صديقهما أيضًا، في هذه الجلسة القصيرة المستقطعة بعد يوم عمل شاق، والتي استمرت على مدى سنوات دون كلل أو انقطاع.

اقرأ أيضًا: أحمد شافعي: ما كنت لأحتمل العالم لولا الترجمة

بشكل أو بآخر، يمكننا تصديق الفرضية التي تقول إن كل شيء قد حدث من قبل، وإنه لا جديد تحت الشمس، لا سيما الكتابة في الشعر والأدب، لكن في الوقت ذاته "هناك شيء واحد يمكننا أن نقوله في حق كتاب جيد وهو أنه لم يكتب من قبل"، وذلك بالرغم من أن لكل كاتب حكمًا قاسيًا على نفسه، ولعل ذلك ما يجعلهم يكتبون أكثر لعلهم يكتبون أفضل في المرة القادمة. 

هنا والآن

لكن باستثاء الكتاب وما يمثّله من أهمية ليس في أنه لم يكتب من قبل، ولكن ربما في كتابته المرتبطة كثيرًا بالبساطة والحميمية التي تظهر كثيرًا في عرض الأفكار وسردها، كما لفت نظري العنوان الذي يحمله الكتاب قبل أي شيء "هنا والآن"؛ كأن المترجم يريد استحضار المكان والزمان في كل رسالة يكتبها أحدهما للآخر، فبالرغم من كون الرسائل على فترات متباعدة إلا أنهما حاضران ذهنيًا ربما طوال الوقت؛ الحديث يسرقهما من الزمكان إلى أي كل ما يشعر به أحدهم فينقله للآخر دون تفكير.

أنا بدون أصدقاء.. عدم

يطرح كتاب "هنا والآن" قبل أي شيء الحديث عن الصداقة، ربما ليس بشكل واضح، لكن خلال رسائل يتبادلها كهلان يفصلهما عدد من الدول، ربما يكون للمرء أصدقاء لا يرغب في رؤيتهم لكن هنا، في هذه الحالة بالتحديد، فالبعد اختياري وإجباري في آن؛ فطبيعة عمل وحياة كلاهما تفضّل عدم التجوال كثيرًا ربما شأن معظم الكتّاب والشعراء، إلى جانب أنهما مجبران في الأساس ببعد المسافة، يقول أحدهما للآخر بوضوح "أفكر منذ فترة في الصداقات، كيف تنشأ؟ وكيف تدوم؟ أو يدوم بعضها، لفترات طوال تتجاوز حتى علاقات الارتباط الغرامي التي أحيانًا ما نفترض مخطئين أن الصداقة جزء باهت منها، لقد كنت أوشك أن أكتب رسالة عن كل هذا، تبدأ بملاحظة إنه من المدهش أن كل ما كتب عن الصداقة قليل، في ضوء أهيمتها في الحياة الاجتماعية ومدى ما تعنيه لنا، ولا سيمّا الطفولة إذ تبقى الصداقة لغز كبير"؛ بالتأكيد كانت تشغله صداقتهم تحديدًا التي علينا أيضًا تحديد سواء هويتها التي تظهر مع أحد الرسائل؛ "لأسباب لا أعرفها وربما لأنك بعيد للغاية ولأن لقاءاتنا متباعدة غالبًا ما أجد نفسي راغبًا في إعطائك شيئًا"، أو فضلها عليهما لو جاز التعبير، وعلى كتاباتهما التي ستشهد عليهما لأنهما "لا الرخام ولا ذهب تماثيل الأمراء، سيحيا أكثر مما تحيا القوافي والكلمات"، مثلما كتب وليم شكسبير.

وليم شكسبير: لا الرخام ولا ذهب تماثيل الأمراء، سيحيا أكثر مما تحيا القوافي والكلمات

ينتقل من فكرة الثقافة إلى فكرة أخرى -وهو ما يحدث على مدار صفحات الكتاب- للحديث عن الرياضة وممارستها؛ ففي الرياضة مثلًا تشعر وكأنك "تمنح نفسك للعبة التي تلعبها فقط والنفع الذي يجنيه الجسم والعقل من جرّاء التركيز المطلق في لحظة معينة، وإحساسك بأنك خارج نفسك وتخففك مؤقتًا من عبء وعيك بذاتك، الفوز والخسارة لازمان لكنهما عاملان ثانويان، لكي يبذل المرء أقصى جهده في إجادة اللعب لأنه بغير بذل أقصى جهد لا يمكن نيل اللذة الحقيقية"، ليعبّر عن فكرة جوهرية في علاقتنا بالرياضة؛ في الرياضة والمنافسة كثيرًا ما نعود للمنزل خاسرين، لكن لأن فكرتها ليست في الفوز والخسارة بخلاف الحياة العادية ولكن في تجاوز كل ذلك، تعني لنا الرياضة شيئًا كبيرًا سواء وعينا بذلك أو لم نع.

اقرأ أيضًا: ياسر خنجر: جائزة مان بوكر 2017 للأمريكي جورج ساندرز

فلسطين في "رأسهما"

إذا كان التأويل لا يصل إلى كل شيء "وأنه عاجلًا أو آجلًا سوف تنتهي إلى سؤال لا جواب له ولو كنت مجبر على الإجابة فستكون اعتباطية أي شخصية، أو هي نتاج لماهيتك أنت وكينونتك، وانعكاس لمعتقداتك الخاصة عن الكيفية التي يجب أن يدار بها العالم"، كما يقول أحدهما للآخر على خلفية الحديث عن القضية الفلسطينية، وأنه "هناك شيء اسمه الهزيمة، والفلسطينيون مهزومون، وبرغم مرارة هذا المصير فعليهم أن يتذوقوه ويسمّوه باسمه الحقيقي، ويبتلعوه ابتلاعًا، ويتقبلوه تقبلًا بناءً، وليس بطريقة هدّامة، أي يجب ألّا يواصلوا تغذية أحلام الانتقام بغدٍ تحدث فيه معجزة، لكن عليهم تقبل الأمر والنظر لألمانيا 1945 كمثال"؛ ربما نفهم من كل ذلك حكم رجل كهل يصدر أحكامه "الشخصية" على قضية لم ير منها أو من واقعها شيئًا، ربما عليه أن يعي قبل كل شيء إنه ضرب مثالًا غير منطقي ولا يناسب قضية كفلسطين؛ أي قضية أناس أُغتصبت أرضهم على مسمع ومرأى من العالم، بينما لم يقوموا بأي اعتداء على هؤلاء المحتلين، بالتالي ليست ألمانيا التي كانت تسعى وتحارب قبل هزيمتها؛ الاعتراف بالهزيمة في حالة ألمانيا دعوة للبناء "والحياة" مرة أخرى، بينما لفلسطين يعني الموت وضياع حق من ماتوا. 

كهلان وحكايات لا تنتهي

"الحقيقة أن التذمّر قد يكون ظريفًا، وبوصفنا رجلين محترمين يشيخان بسرعة ومراقبين معتقين للكوميديا الإنسانية، وبرأسين شائبين رأيا كل شيء ولا يندهشان من شيء، أعتقد أن من واجبنا أن نتذمّر ونقرع، ونهاجم النفاق والظلم والغباء في العالم الذي نعيش فيه، وليقلب الشباب أعينهم كيف يشاؤون ونحن نتكلم، وليتجاهل غير الشباب تمامًا ما نقول، علينا أن نستمر ونحن نتكلم، وليتجاهل الشباب تمامًا ما نقول، علينا أن نستمر ونحن نتحرى أقصى درجات الحذر، نتبين متذمّرين يصيحان في البرية، لأننا نعلم علم اليقين أننا نخوض معركة خاسرة، لكن ذلك لا يعني أن نتخلى عن القتال".

يأخذنا كتاب "الآن وهنا" في رحلة داخل رأس شيخين، بكل ما تحمله من خبرة

على هامش كل تلك الأفكار يكتب بول أوستر في آخر الصفحات تلك الحقيقة الواضحة التي ربما حملها الكتاب، باعتبار أن كل ذلك السرد مبني بشكل أساسي على خبرات حياتية "تجمّل" مواقف ومشاهد بعينها وتجعلها أكثر حميمية، ولا تحتاج إلى للحديث عن قضايا كان من الأفضل معايشتها أولًا "كفلسطين")، لكن كما يقول أحدهما " الدنيا لا تتوقف عن المفاجأة ونحن لا نتوقف عن التعلم".

"الآن وهنا" كتاب يأخذنا في رحلة داخل رأس شيخين، بكل ما تحمله من خبرة وانطباع يمكن أن يتعلم منه الشباب أو يسخروا منه!

 

اقرأ أيضًا:

ألان باديو متحدثًا عن الثورة الروسية 1917

تشارلز بوكوفسكي.. الشعر بلا جمالياته