10-يوليو-2018

غرافيتي في برلين

تخيّلت نفسي خطيبًا في لقاء اجتماعي شهري يدعو إليه مركز الاندماج في مدينتي الألمانية الصغيرة فقلت:

أيها الإخوة، لا أملك مادة الفلسفة لكني أملك روحها. لا أعرف الفلسفة لكني أدعي أنني رجل يحاول التفلسف. لقد حوّلني الألم من سوري إلى نصف ألماني، لكني قبل ذلك أنا المسلم صرت بالألم مسيحيًا، فكل ألم مسيح.

أيها الألمان، لقد خدعكم هيدغر حينما قال لكم ابتعدوا عن المجتمع، انعزلوا كي تشعروا بكينونتكم

هل يجعلنا الألم مندمجين فيسرع في تحولنا الوجداني الوجودي؟ هل الألم برزخ ضروري للعبور إلى المجتمع الجديد؟

اقرأ/ي أيضًا: هايدغر في الفكر العربي

أستطيع القول نعم. لقد نجح الكامب الألماني في جعلنا مندمجين في المجتمع الجديد، جعل بعضنا الأكثر معاناة راضخين على الأقل، متقبلين لمفاهيمه وأنماط عيشه. لقد جعلنا الكامب نندمج أولًا مع بعضنا البعض كلاجئين، ثم حينما وصلنا إلى مرحلة اندماج مشبع انقذفنا بقوة خارج مجتمعنا الصغير المغلق فوجدنا أنفسنا نطير في قفزة كيركغاردية مشهودة، لنقع داخل المجتمع الألماني الكبير لكن المغلق بدوره للأسف. فكيف وجدت انا السوري الألماني، أو السوري مشروع الألماني، هذا المجتمع؟ للأسف وجدت مجتمعنا الجديد مؤتمتًا لدرجة تحسبنا نحن، مشاريع الألمان، مجرد أفكار تدور في عقل كبير ليس هو الله كما في الهرمسية، وليس هو الشيطان لكن هو شيء آخر جديد، إنه المصنع أو الآلة التي هي رب أرباب العمل، وإله آلهة الغرب.

كأنما نحن أفكار هائمة يجمعها ويفرقها المال، تفتقد فطرتها إلى العاطفة إلى الحب إلى الفرح إلى الرقص والموسيقى، رغم أن المؤسسات في المانيا تحرص على الدعوة إلى نشاطات فنية وتصرف بسخاء في سبيل ذلك. ليس غياب الشمس هو السبب في غياب العاطفة المحبة والتفاعل اللاغائي، بل حضور المال كقيمة وإله وغاية ومبدأ مطلق.

صار المال مبدأ ميتافيزيقيًا كما المبادئ القديمة: الحرية، الوجود، الله. بل لقد التهم مبدأ المال كل مفاهيم الميتافيزيقيا ليصبح هو المبدأ الميتافيزيقيا الأول والأخير. أصبح المال هو الله. ونحن له عبيد وخدم وحشم. لأجل ذلك المال ترتب حياتنا كلها وتدور.

وحين نتحدث عن المال لا بد أن نتحدث عن الوسيلة إلى المال، أي العمل. سأحمد الله أن نظام العمل والتأمين والضرائب في ألمانيا لا يجعلنا أغنياء عابثين لا مبالين غير مدركين لكينونتنا كبشر. إنه نظام يجعلنا نعيش بالحد الأدنى وحسب، حين نكون عاطلين عن العمل ويجعلنا نعيش وحسب، أيضًا حين نعمل وندفع ثلث أجورنا كضرائب.

من يريد جمع المال عليه أن يهاجر إلى كندا أو أمريكا أو الخليج العربي. مع ذلك يوجد في ألمانيا مليون مليونير، أي مليونير لكل ثمانين شخصًا. ورغم أن أعداد المليونيرات تزداد فإن الفقراء لا ينقصون، بل يزدادون ليصبحوا أربعة ملايين فقير.

أيها الإخوة المفتقدين للعاطفة الاجتماعية، إن العاطفة الاجتماعية هي التي تجعلنا بشرًا ومجتمعًا وأمة، فإذا لم توجد روح الجماعة ينقرض المجتمع، فلا يخدعنكم ثمانون مليونًا هو تعداد الألمان، فلقد توقفوا عن كونهم أمة منذ عقود، منذ الانتهاء من مشروع استعادة النهضة الصناعية في السبعينيات.

نحن ثمانون مليون فرد فحسب، لا يجمعهم شيء آخر سوى المال ومكتب العمل "الجوب سنتر". إن الفرد الواحد لا يمكن أن يكون إنسانًا بلا آخرين، فالآخرون هم سبب معرفتنا وفرحنا وتكوّن خبراتنا وإنسانيتنا، دون آخرين نحن ناقصو إنسانية، دون آخرين نحن مجموعة من المرضى النفسيين.

لقد خدعكم هايدغر أيها الاصدقاء حينما قال لكم ابتعدوا عن المجتمع، انعزلوا كي تشعروا بكينونتكم، ابتعدوا عن الثرثرة كي تفكروا بالموت، كفوا عن الهرب من العدم. لكن لو طبّقنا تعاليم هايدغر فهذا يعني أن نستحضر الموت في الحياة ونقارب العدم قبل أن ندخله.

الحياة بطبيعة الحال لم تخلق من أجل العزلة، أو من أجل الهرب من الحياة، ولا من أجل مغازلة العدم كما يريدنا هايدغر أن نفعل، لذا بدلًا من أن نتجول في المقابر وقتًا أطول كما يوصي فيلسوفنا أن نفعل ماذا لو نتجول في الحدائق والطرقات، وعوضًا عن ممارسة العزلة أفرادًا للتفكير في الكينونة ماذا لو ننعزل كمجموعات لنفكر معًا في كينونتنا الجديدة، كينونة الـ"نحن"، كينونة الجماعة!

أيها الإخوة الألمان والمهاجرون، لنخلق رأسمال جديدًا هو الفرح بالـ"نحن"، لننقذف من جديد بعيدًا عن سجون ذواتنا المنفردة إلى الحياة- المجتمع التي أوجدها الله لنا، لننوجد بالفعل.

صار المال مبدأً ميتافيزيقيًا كما المبادئ القديمة: الحرية، الوجود، الله

فهذه البلاد رغم الانتقاد الأساسي الذي يوجه لها من قبل الألمان المتدينين هي بلاد الدين لا تبخس دينًا حقه رغم أن اللادينيين يشكلون ثلث الألمان. هذه بلاد الله لأنها سارت على نهج هايدغر في طلب العزلة والاقتراب من المقابر والصمت، فليس من عبادة تقربك من الله أكثر من الصمت، كما يقول فيلسوف مصري قديم.

يا إخوتي اللاجئين، هذه المانيا بلاد العلم والعقل، فتمتعوا يا طلاب العلم والروح معًا، هذه بلاد العمل فلا تيأس أيها العاطل، هذه بلاد العدالة فلا تخشَ أيها المظلوم.

اقرأ/ي أيضًا: هل الفلسفة الغربية عنصرية وكارهة للأجانب؟

تعالوا معًا نواصل بناء هذه البلاد التي استقبلتنا بفرح، وحضنتنا بمحبة، واسكنتنا قلبها، حمتنا وأطعمتنا دون منية، تعالوا نتعلم من جديد معنى الإيمان والأخلاق والنظام والنبل والوفاء والنقاء، تعالوا نرد شيئًا من جميل هذه البلاد كبيرة القلب والعقل، البلاد التي يصح أن نطلق عليها اسمًا آخر سوى اسمها، لنسمها: "البلاد النبيلة "

وشكرًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عشق الشرق الشرير.. أو الغرب المغرم بالإسلام السلبي

التحول من الإنسان إلى الفرد