29-أغسطس-2018

من الفيلم

يقول جوزيف كونراد: "إن مهمتي التي أحاول تحقيقها هي أن أجعلك تسمع، أن أجعلك تشعر، إنها قبل ذلك كله، أن أجعلك ترى".

عدت الإضاءة جزءًا مهمًا في فن الفيلم، فهي تظل ملازمة للفيلم طوال عملية التصوير، ومن خلالها يتم إلقاء الضوء على العناصر التي تدخل في تكوين اللقطة/المشهد. ويستخدم الأثر الفني للإضاءة في التأكيدات الدرامية في احداث الفيلم من ناحية، ومن أخرى يعبّر به عن الحالة النفسية لشخصيات الفيلم. وتتباين درجة الإضاءة في الفيلم طبقًا لمكان وزمن التصوير، وطبقًا للتغير الذي يحدث في الجو العام للفيلم، على أن يتم استخدام التباين في خلق أثر فني يدعم الحوار الدرامي، والحالة النفسية للفيلم. كما أن التعبيرات الناتجة عن الأثر الفني للإضاءة لا نهائية وغير خاضعة لقانون، إنما المناط الوحيد لاستخدامها هو حرفية المخرج ومدير التصوير.

تدور أحداث فيلم "المومياء" بمنطقة وادي الملوك - الأقصر. وذلك بعد العثور على بردية تتعلق بإحدى مقابر الأُسر الفرعونية

تعد الصورة السينمائية في فيلم "المومياء"، أهم ما ميّزه، إضافة إلى عنصر الإضاءة الذي قام كُل من شادي عبد السلام وعبد العزيز فهمي من خلال الأثر الفني للإضاءة في خلق شكل وبناء رئيسي للفيلم؛ حيث جعلا من الصورة السينمائية للفيلم نموذجًا تشكيليًا يشتمل على قوانين خاصة مما يسهم بخلق مسافة زمنية فاصلة بين المشاهد والفيلم، وهو ما يعرف بالبعد الرابع للصورة الذي يمكن المشاهد بالإحساس بالزمن في الفيلم، نتيجة تأثره بالمرئيات. وقد عبر الناقد الفرنسي جون راسل تايلور عن جماليات الصورة في الفيلم؛ في إحدى مقالاته النقدية: "أن أول ما يخرج به المتفرج من صالة عرض الفيلم؛ هو التأثر بروعة المرئيات إلى حد الخيال".

اقرأ/ي أيضًا: داوود عبد السيد بين "يوسف" الكيت كات و"يحيى" رسائل البحر

تدور أحداث فيلم "المومياء" بمنطقة وادي الملوك - الأقصر. وذلك بعد العثور على بردية تتعلق بإحدى مقابر الأُسر الفرعونية، يتبيّن ذلك من خلال المشهد الافتتاحي للفيلم الذي كشف عن صورة سينمائية جديدة لا تتناسب كليًا مع الأجواء التسجيلية التي خيمت على الحوار في المشهد.

حتى تبدأ الأحداث الدرامية للفيلم من خلال المأساة التي يتعرض لها الأخوان حيال كشف عمهم لهم عن سر القبيلة، ومن ثم اغتيال الأخ الأكبر أثناء هروبه، بينما ظل الأخ الأصغر ونيس متنقلًا بين مشاهد الفيلم، مضطربًا بين هواجسه تجاه حياة أهل القبيلة والعبث بمقابر المومياوات.

استخدم عبد السلام وفهمي الأدوات الفنية وأثرها لخلق نوع من التغريب المقصود لعين المشاهد، من خلال تقديم صورة سينمائية بمرئيات لم يعتد المشاهد عليها، وبحوار يغلب عليه اللغة العربية الفصحى المبسطة؛ فاستطاع الثنائي من خلال الأثر الفني للصوت والصورة بخلق الفاصل الزمني.

ظهر هذا في استخدام تباين الإضاءة في إطار الالتزام بصورة سينمائية متناغمة، دون تشويش بصري، ودون انتقالات مفتعلة بالإضاءة؛ فقد تباينت للتناسب مع أماكن التصوير في جوف الجبل مسكن إيواء القبيلة، المقبرة الفرعونية، الجدران والمعابد الفرعونية نهارًا.

استخدمت الإضاءة غير المباشرة في مشاهد متفاوتة كما في تصوير مشهد ونيس وهو على السلم المؤدي للفناء، خالقًا من الأثر الفني لضوء النهار غير المباشر عبر نقل الصورة البصرية للمكان بواقعية، من أجل تحقيق ذلك البعد الرابع، ومن ناحية درامية يستخدم الظلال في التعبير عن الانفعال النفسي الذي انتابه بعد معرفته لسر القبلية.

من خلال استخدام التباين المزدوج للإضاءة المباشرة وغير المباشرة؛ في مشهد بهو المعبد حيث يجتمع ونيس ومراد- خادم أيوب، يقف مراد في منطقة الإضاءة المباشرة تحت وهج الشمس، بينما يقف ونيس في منطقة الانعكاس الضوئي، مستخدمًا الأثر الفني الناتج عن تباين الإضاءة المزدوجة في التأكيد الدرامي على الفجوة الأخلاقية بينهما، حيث قام من خلال التباين والتغيرات التي لحقت بالصورة من خلال الإضاءة بمضاعفة قوة التأثير المرئي.

يعبّر عبد السلام من خلال الإضاءة عن العقل الجمعي لكل من أهل القبيلة، في استمرارية استخدامهم لمشاعل النيران، فيقوم بالتعبير عن تخلفهم من الناحية الحضارية، أما من الناحية السيكولوجية فيعبر عن توترهم النفسي جراء أفعالهم في تصوير لهيب النيران المتراقص بفعل الهواء.

عبر ألوان ملابس الشخصيات وتقنيات الإضاءة، استطاع المخرج شادي عبد السام أن يظهر البعد الرابع في "المومياء"

بينما يظهر رجال البعثة الحكومية في شكل أكثر تحضرًا واتزانًا نفسيًا، وذلك في استخدامهم وسائل الإضاءة الحديثة زمنيًا معبرًا عن وضوحهم ودقتهم جراء شعورهم بالواجب الوطني.

اقرأ/ي أيضًا: رضوان الكاشف.. قصة "فيلسوف" السينما المصرية

تأكيدًا على ظهور البعد الرابع بين محتويات الشاشة، من خلال أسلوب التنميط الذي استخدمه عبد السلام في اختيار ألوان ملابس الشخصيات، حيث ظهرت بزي أشبه بالرسمي، واتسمت ألوان ملابس أهل القبيلة بالسواد الداكن حد القتامة، بينما تنحو ملابس رجال البعثة إلى الألوان الفاتحة، فيما جاءت ملابس "حراس الجبل" تعبيرًا عن هويتهم، بكونهم ينتمون للكل، فالقميص لونه أبيض والبنطلون باللون الأسود. وبذلك التنسيق النمطي لألوان الملابس الذي اتسق مع الأثر الفني للإضاءة المستخدمة وأكّد على المدلول الدرامي العام للفيلم، ظهر البعد الرابع جليًا في مجموعة من المرئيات التي تعد الأهم في تاريخ السينما المصرية.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "البداية".. مجتمع صغير وإسقاطات كبيرة

أرض يوسف شاهين.. أين ذهب الرجّالة؟