08-يناير-2017

الخديوي توفيق وشريف باشا مع قادة الثورة العرابية

إن قصة وضع دستور في مصر هي قصة طويلة بدأت منذ أكثر من قرن ونصف مع إنشاء مجلس شورى النواب في عام 1866، ولقد كان الكفاح الدستوري بين الشعب وزعمائه الوطنيين من جانب وبين الحكم المطلق والاحتلال الإنجليزي الذي جثم على صدر مصر منذ أيلول/سبتمبر عام 1882 من جانب آخر.

بدأت فكرة إنشاء الدستور بعقد اجتماعات سرية في حلوان، وكانت تقود هذه الاجتماعات أسماء لامعة من أمثال شريف باشا، الملقب بـ"أبو الدستور"، وراغب باشا، أول وزير مالية مصري صاحب المشروع الوطني لسداد الديون، وشاهين باشا، واضع استراتيجية الدفاع ضد التدخل الأجنبي. وكان أن تأسس الحزب الوطني نتيجةً لهذه الاجتماعات، وهو أول حزب نشأ في مصر، بل في الشرق كله عام 1879، وكان الزعيم أحمد عرابي والشيخ محمد عبده هما أول من اقترن اسمهما بنشأة هذا الحزب.

بدأت فكرة إنشاء الدستور المصري بعقد اجتماعات سرية في حلوان

وقد نشأت حركة وطنية داخل مجلس شورى النواب كان يتزعّمها عبد السلام المويلحي، وكانت الدورة البرلمانية تنقضي عادة في آذار/مارس من كل عام، وعندما ذهب رياض باشا ليتلو خطاب فضّ الدورة انبرى له زعيم المعارضة في المجلس عبد السلام المويلحي، معلنًا أن المجلس لم يفعل شيئًا بسبب الحكومة، والعنصر الأجنبي فيها الذي كان يرفض الحضور للمجلس لمناقشة الأسئلة والاستجوابات، وهذا الأمر يُبطل شرعية الوزارة في السلطة باسم حكومة دستورية مسؤولة، ولهذه الأسباب، كما قال المويلحي، سوف يظلّ المجلس منعقدًا حتى ينظر في كل المسائل التي رأى أن من حقه النظر فيها.

اقرأ/ي أيضًا: البرلمان المصري..ظل هزيل للسلطة

لقد أوقفت إنجلترا وفرنسا هذه المحاولات الدستورية عن طريق قناصلها المعينين في مصر، وأعدّ وزير المالية، الإنجليزي الجنسية، مشروعًا ماليًا يقضي بإعلان إفلاس مصر فتصدّت لذلك الدوائر الوطنية. وأخطر ما في الأمر أن الخديوي إسماعيل استجاب للموقف الوطني وقام بإعفاء الوزراة التي يرأسها ابنه توفيق وأمر بتكوين وزارة وطنية صرفة (ليس فيها عناصر أجنبية) تكون مسؤولة مسؤولية حقيقية أمام مجلس نوَّاب مُنتخَب انتخابًا حرًّا ووفقًا لقانون جديد للانتخاب، وكانت استجابة الخديوي للصوت الوطني بمثابة تحدٍ صريح لإنجلترا وفرنسا. وتفانت الوزارة الجديدة برئاسة شريف باشا في العمل، وانتهى شريف من إعداد الدستور وقانون الانتخاب، كما أن شاهين باشا استكمل المشروع الوطني لسداد ديون مصر الخارجية.

وعقد مجلس شورى النواب جلسة خاصة في 17 أيار/مايو عام 1880 لمناقشة مشروع الدستور وقانون الانتخاب واختار المجلس لجنة برئاسة المويلحي لبحث مشروع الدستور، وقانون الانتخاب وإعادتهما للمجلس لمناقشتهما، وقدّم المويلحي ملاحظات اللجنة وتعديلاتها التي انصبّت في معظمها على تحديد سلطات الخديوي وأُرسلت المشروعات إلى مجلس الوزارء للتصديق عليها.

تحرّكت دولتا إنجلترا وفرنسا وسلّمتا للخديوي إسماعيل رسالة ترفضان فيها استقالة الوزارة السابقة، وهدّدتا الخديوي إذا أصرّ على بقاء الوزارة الجديدة. رفض إسماعيل الرسالة وما تضمنته من إنذار ومطالب، وعلى إثر ذلك قامت إنجلترا وفرنسا بعزله ونفيه من مصر وتنصيب ابنه توفيق في مكانه، وكانت مؤامرة الدولتين تهدف بالأساس للقضاء على التجربة الوطنية والقضاء على محاولات وضع نظام دستوري حقيقي، وهكذا قضى التدخل الأجنبي على أول تجربة دستورية في تاريخ مصر الحديث، وانتهى الأمر باحتلال مصر في عام 1882. ولا يفوتنا أن نذكر الصراع الدستوري الذي احتدم بين عرابي والخديوي توفيق عقب عزل والد الأخير وقبل وقوع الاحتلال.

كانت الحركة العرابية حركة شعبية في أصلها استمدّت وجودها من الحزب الوطني الذي تكوّن من سياسيين مدنيين، وكان شريف باشا مطلق الإرادة في التعبير عن إرادة الشعب فبعث إلى القنصل البريطاني قائلًا: "إنني آسف أشد الأسف كمصري للعودة إلى نظام الحكم المطلق، وربما كان هناك كثيرون داخل السراي وخارجها يفيضون طربًا لما حدث"، ويقصد بذلك تولي وزارة جديدة من أنصار التدخل الأجنبي وضد الحركة الوطنية وذلك بعد استقالة شريف من رئاسة الوزارة. وعندما واجه عرابي الخديوي توفيق على رأس الجيش والشعب في ميدان عابدين لم يقم نفسه زعيمًا عسكريًا ولا مُخلّصًا حانيًا على شعب لم يجد من يحنو عليه، ولكنه كان يدافع عن إرادة الشعب، أو نخبته الوطنية بالأحرى، في اختيار شريف باشا ليكمل مسيرته الإصلاحية وإلعاء شأن الدستور وتكوين مجلس النواب.

الحرّيات هي أساس تقدُّم العمران ولا يؤدي إلى خراب هذا العمران سوى الحكم الاستبدادي

إنني أضرب هذه الأمثلة التاريخية لتوضيح أن المعركة الحقيقية بجانب إبعاد النفوذ الأجنبي عن مصر كانت هي معركة الدستور وانتصار الإرادة الشعبية في مواجهة الحكم المطلق. لقد اشتعلت هذه المعركة بين الإرادة الشعبية التي كان يمثّلها زعماء وطنيون مخلصون وبين الإرادة الفردية في الحكم.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. قروض كبيرة وبرلمان غائب وأزمة دستورية

ولقد أصبح واضحًا الآن وفي الزمن الرديء الذي نعيشه أن الأوضاع في بلادنا لن تتغيّر وويلات الحكم المطلق الاستبدادي هي السائدة. وكما قال ابن خلدون في مقدمته، فإن الحرّيات هي أساس تقدُّم العمران ولا يؤدي إلى خراب هذا العمران سوى الحكم الاستبدادي. لقد أفلح النظام الفردي الذي يسود حياتنا، نتيجة الاختصار المخلّ الذي يقوم به عادةً الرئيس عبد الفتاح السيسي حين يختزل مصر في شخصه فقط، في تحقيق النتائج التي يرسمها لنفسه من خلال التدخل في كل شيء، والتعامل مع مجلس النواب كأداة لتنفيذ أجندة سياسية أقل ما تُوصف به هو الغرابة وقلة الحنكة.

إن طموحات المصريين في برلمان حقيقي يقوم بوظيفته ليست خيالًا، ولكنها تنبع من واقع تاريخي سياسي شهد برلمانات ارتقى فيها الأداء النيابي إلى أعلى مستوى من المسؤولية، ومن أمثال هذه البرلمانات فوق ما ألمحنا سابقًا برلمان عام 1924 وهو أول برلمان ينتخب بعد صدور دستور عام 1923، كذلك برلمان عام 50/52 الذي جاء بحكومة الوفد قبل أن يقوم "الضباط الأحرار" بحركتهم في صيف 1952 لتدخل مصر خريفًا طويًلا لم تستطع نسائم 25 يناير 2011 في التقليل من مواته وسيطرة أجوائه على مناحي الحياة السياسية المصرية، أما الآن فنحن في محراب برلمان السيسي-عبد العال الذي يدشّن المرحلة الأكثر سوادًا وخبالًا في تاريخ مصر البرلماني الحديث.



اقرأ/ي أيضًا:

الأزهر التاريخيّ في دورانه

أبو نضاره.. حكاية الساخر المصري الذي ألهم ثورة