12-فبراير-2018

مارسيل بانيول

ماذا يمكن أن تفعل عندما تنتبه في لحظة ما من حياتك لتكتشف أن كل الذي كنت تسميه اكتشافًا عظيمًا، يغيّر مصيرك من أستاذ في الثانوي إلى عالم له مجد يثير الغيرة لم يكن إلا خطأ في خطأ، وأن كل ذلك المجد الذي بنيته على ذلك الاكتشاف ليس إلا تزويرًا للحقيقة وضربًا من العبث؟ هنك أكثر من طريقة للتعامل مع الصدمة: إما الانزواء والجلوس لمراقبة النيران تشتعل في ركام السنوات، وإما الدفاع باستماتة عن مكانتك، وهناك طريقة ثالثة جريئة تتطلب الانقلاب التام على ما جرى طوال سنوات وإعادة اكتشاف النفس والجسد ولذّاتهما. هذه أبرز الخطوط التي تعتمد عليها مسرحية مارسيل بانيول "جاز" (ترجمة إبراهيم صحراوي، دار التنوير الجزائرية، 2016).

تتناول مسرحية "جاز" شيزوفرينيا قاسية عند رجل بدأ حكيمًا ليصل مرة إلى التصابي ثم المرض النفسي والعقلي

تقوم مسرحية "جاز" على شخصية بليز الأستاذ بكلية الآداب في "أيكس أون بروفانس"، جنوب فرنسا، الذي يكتشف مخطوطًا كان في البداية "فرن من الكلمات المتقاطعة" بتعبير باريكان صديق بليز. ويبدأ الأخير في دراسته ليتوصل إلى أنه واحد من كتابات أفلاطون الضائعة ويحمل عنوان "فايتون". يصل هذا الاكتشاف الثمين بصاحبه إلى أعلى سلم المجد، كما كان ينوي، فنال ميدالية جوقة الشرف ورُشِّح لشغلِ كرسي بجامعة السوربون. دراسات كثيرة لبليز عن الاكتشاف، ودراسات كثيرة لباحثين وعلماء تجعل من الموضوع واحدة من الجواهر الخالدة المستخرجة من منجم النسيان، تتويجًا لجهود بليز في "إيقاظ الأميرة النائمة داخل الغابة الموحشة". هذ التعبير الأخير قادم من على لسان بليز نفسه، وله مدلولاته إلى آخر المسرحية، فهو أمير يوقظ الفتاة النائمة من سباتها، وبدوره يتحوّل المخطوط إلى بديل عن تبادل الحب مع الحبيبة.

اقرأ/ي أيضًا: رواية البطء.. رحلة في عالم غير إنساني

البحث يشغل بليز، فيخصص له وقته وجهده، هو عمره وحياته وحبه، للدرجة التي تجعله يصفه بصفات الحبيبة كمثل الجملة السابقة. بليز في كل هذا بعيد عن الحب، وحيد، يعمل ليل نهار، يحقق مجدًا وشهرة كبيرين مما يثير غيرة بعض زملائه في مقدمتهم عميد الكلية الذي لا يرضى أن يرى كل هذ في زميله فيبدأ في محاولة التشكيك في المنجز.

لماذا تم اختيار أفلاطون لتكون المخطوطة منسوبة إليه؟ لا يمكن أن تكون هذه العلامة اللسانية عبثية في ظل توفر آلاف النماذج التي كانت المسرحية قادرة على توظيفها. اختيار أفلاطون ومخطوطه تنسب إليه بهذا المعنى في المسرحية له مسوغه، فبليز يريد الوصول للكلّيات، لجوهر المعرفة، لذلك اشتغل كما يقول على "لغز أعطى للإنسانية أجمل إنتاج لأفلاطون: لغز رائع"، وهو ينهمك في الاشتغال عليه بحب شديد كما يعترف "لا أستطيع فعل شيء دونما رغبة أو هواية". هذه المثالية بقدر ما تصنع للمرء مجدًا، كما في حالة بليز، فإنها تبعده عن تذوق متع كثيرة في الحياة ربما يكون الحب أهمها. الانشغال بالعقل يبعد الانتباه عن القلب ومشاعر القلب لذلك يصبح شعور الحب في تصوره "ليس هواية. إنه مرض"، ويعترف في مقارنة تبدو غير سليمة لكنها صادقة عنده قائلًا عن الحب: "لو دعوته لكان ربما قد أتى. لكنني لم أكن سأكتشف فايتون ولم أكن سأصبح سوى نصف عالم". هذه المقارنة التي رفضها في أوج اشتغاله على المخطوطة تنتصر للعقل على القلب، للبحث الفكري على اختيار الزواج. "أنت الذي تزوجت، ماذا قدّمت للإنسانية؟"، كما يقول لصديقة باريكان.

مارسيل بانيول - جاز

هكذا نجد بليز بعد تهاوي مجده ليكتشف الوهم الذي عاش فيه طويلًا. لقد هرب إلى العمل والبحث ليبتعد عن الحب. لذلك سنجده يجثو أمام طالبته سيسيل لتقبل به زوجًا بعدما يكتشف بما يشبه المفاجأة أنه يحبها. الانقلاب الحاصل عند بليز يحدث لنا جميعًا. يمكننا في لحظة ما أن نقف في آخر الطريق الذي قطعناه لنلتفت إلى الرحلة ومعانيها، ومن منا لم يلعن كل تلك الأيام وينتفض ضدها ليبدأ من جديد في قطيعة عقلية تحاول أن تنهض لتزهر من قلب الخراب وردًا، لكنه قد يكون وردًا ذابلًا.

الوقوف لممارسة القطيعة مع كل ما سبق ومحاولة ملاحقة الحب، الحب الذي ظل كامنًا دون أن يكتشفه أثناء اللهث وراء المجد، قابلته معاداة جديدة. ضروب من الصدّ ومحاولة المنع والاعتراض. عميد الكلية الذي يغار من بليز يرى في بقاء الرجل مع طالبته في بيت واحد قبل الزواج وحديث الناس، إساءة كبيرة للكلية. يقول له "شهرتك تتهاوى ولا تريد أن تهلك لوحدك مثل شمشون تريد أن تهزّ أعمدة المعبد ليواري سقوطه". وإذا كان هذا الحديث ينتهي بطرد العميد من البيت، فإن الأمر لا يكون ذاته مع طالبه ستيبانوفيتش الذي يأتي إليه فيلتقي سيسيل خطيبة بليز وصديقته. لقاء الطالب مع الفتاة يشجعه بعده لأن يكاشف الأستاذ بأن خطيبته لا تحبه حب المرأة للرجل ولكنه حب بنت لأب، تمتزج فيه المحبة مع الشفقة واللطف مع العطف. تنتهي هذه المعركة بين العقل والقلب، بين الطبيعة التي لا يمكن أن تخفي آثارها على عجوز وبين أمل استعادة ما ضاع. والنهاية تكون بخروج الشابين مع بعض وبقاء بليز يخاطب ماضيه الذي يتراءى له كشاب.

"جاز" مسرحية كتبها مارسيل بانيول في 1925 ولا تزال طازجة ككل الأعمال الإنسانية إشراقًا وانفتاحًا على الحياة

الحزن والألم جبلة إنسانية، لا يمكن لأحد أن لا يمرّ بهما. مفردات الألم والشيخوخة والانكسار والضعف والرغبة والمجد والهوس والجسد والعقل والطمأنينة والقلق التي تعج بها المسرحية هي ذاتها ما تعج به حياتنا اليومية. في ذات كل منا بليز يتطابق مع معه كليًا أو جزئيًا، والإنسان إذا كان لا يرجو لنفسه أن ينتهي بهذه الخسارات الكبيرة، فإنه لا يمكن أن يمنعها مهما كان حريصًا وذكيًا وعاقلًا. بكاء بليز بعد خروج خطيبته مع الشاب من بيته وبقائه لوحده يتماثل أمامه شبابه، هو تلخيص لكل تلك الخسارات. تضيّع ما تعتقد أنه آخر فرصة للنجاة بعد ما ضيّعت فرصًا سابقة في السعادة.

اقرأ/ي أيضًا: 7 حقائق لا تعرفها عن ألبير كامو

آخر مشاهد المسرحية مهم جدًا ولافت، ويكسر تمامًا سيرورة الأحداث، أو أفق نهاياتها. الشاب الذي تمثل لبليز على أنه لم يعش فترة الشباب كما يعيشه الجميع "لو كنت سمحت لي بأن أعيش! لكنت الآن محتفظًا بكثير من الذكريات. لكن ليست لي ذكريات. لا أعرف حكايات. محروم من كل شيء. جائع. متوحش. تلتهمني الرغبات القديمة". بعد انهيار مجده، أصبح بليز يتمثل شبابه واقفًا صلبًا أمامه،يناقشه ويسائله ويحاكمه بل ويصل به إلى أن يتبادل معه إطلاق النار الذي ينتهي بمقتل بليز واختفاء الشاب. إنها شيزوفرينيا قاسية عند رجل بدأ حكيمًا ليصل مرة إلى التصابي ثم المرض النفسي والعقلي وأخيرًا إلى قتل نفسه بالرصاص.

"جاز" المسرحية التي استهلمت عنوانها من الحفلات التي جُرّ بليز إليها من قبل الشاب، كتبها مارسيل بانيول في 1925 ولا تزال طازجة ككل الأعمال الإنسانية إشراقًا وانفتاحًا على الحياة، في ضوضائها وغلاستها ولامنطقية أحداثها بالنسبة لكثيرين. مسرحية فلسفية إنسانية روحية تستحق القراءة نصًا والمشاهدة عرضًا.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "مانديل بائع الكتب القديمة".. التحوّل العنيف في أوروبّا

كيف تصبح كاتبًا مشهورًا؟ (1-2)