25-فبراير-2017

لا تزال مخلفات الماضي من تعذيب وعنف تخيم على المشهد التونسي (محمد مد الله/الأناضول)

بتاريخ 26 شباط/فبراير 2016، وصلت سيارة شرطة أمام دكان لمروان الجندوبي بحي الزهروني، حي شعبي في العاصمة التونسية، وعلى متنها 5 أعوان أمن، نزل أربعة وتوجهوا إلى المحل مطالبين صاحبه بمغادرته. حصل تلاسن بين صاحب الدكان مروان الجندوبي وعوني أمن، حاولوا السيطرة عليه وافتكاك "ولاعة سجائر" كان يهدد بإحراق نفسه بها، سرعان ما سقط مروان أرضًا وتبين أن النار تلتهم جسمه، ثم توفي. وقد صرح شهود عيان للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب أن اشتعال النار كان بسبب استعمال صاعق كهربائي ضد الجندوبي لما كان مطروحًا أرضًا.

سجلت المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب 153 انتهاكًا بين تعذيب وعنف وسوء معاملة خلال سنة 2016

كانت هذه إحدى حالات الموت المسترابة التي تعرضت لها المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب (منظمة حقوقية غير حكومية بارزة في تونس، ترأسها الحقوقية راضية النصراوي)، خلال عرضها هذا الأسبوع تقريرها السنوي الإحصائي لسنة 2016 والذي سجلت خلاله 153 انتهاكًا بين تعذيب وعنف وسوء معاملة. وكلها حسب المنظمة "حالات موثقة بواسطة استمارات سماع كتابية تلقاها أعضاء المنظمة مباشرة من الضحايا مع ما يؤيدها من ملفات طبية وفيديوهات وشكاوي قدمت للنيابة العمومية أو تظلمات إلى الجهات الإدارية المختصة وصور فوتوغرافية ومحاضر قضائية وغيرها من الوثائق والأوراق التي تؤكد حصول الانتهاكات".

تقرير آخر إذًا يؤكد أن التعذيب والممارسات المخلة بحقوق الإنسان لا تزال متواصلة في تونس الثورة، وهو أمر ليس بجديد فقد تعرضت له عديد المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، ومنها منذ فترة وجيزة منظمة العفو الدولية، التي دعت السلطات التونسية إلى وضع حد لإفلات عدد من موظفيها من العقاب إزاء ممارستهم لضروب من التعذيب خاصة في علاقة بالمتهمين في قضايا الإرهاب.

اقرأ/ي أيضًا: حقوقيون.. وضعية حقوق الإنسان قاتمة في المغرب

ويلجأ المتعرضون لانتهاكات في تونس عادة إلى المنظمات الحقوقية، التي تتكفل بالاستماع إليهم وتقبل ملفاتهم وتقديم الدعم القانوني والنفسي والاجتماعي الممكن. يذكر أن السلطات لا توفر مركزًا طبيًا عموميًا للتأهيل النفسي لضحايا التعذيب في تونس، رغم الوعد بإنشائه بعد الثورة. في الأثناء، كان المعهد الدنماركي لمناهضة التعذيب قد أنشأ مركز "نبراس" لتأهيل ضحايا التعذيب المتخصص في تقديم بعض الخدمات النفسية للضحايا والذي ينسق مع عدد من المنظمات الحقوقية لتقبل البعض منهم.  

وحسب تقرير المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، تتصدر الشرطة قائمة السلطات الأمنية التي ترتكب انتهاكات في حق المحتفظ بهم والمقبوض عليهم  62% ثم السجون 24%، ويليهما سلك الحرس الوطني 14%. وتفسر المنظمة هذه الأرقام في تقريرها بعمل الشرطة في المدن والمناطق الحضرية وهي المناطق الأكثر كثافة سكانية كما أنها مناطق تشهد معدلات تدخل أمني أكثر مع ما يرافق بعضها من عنف وانتهاكات.

وتقسم ذات المنظمة الانتهاكات المسجلة لديها بين تعذيب 59%، سوء معاملة 33%، موت مستراب 2%، تهديد ومحاولة اغتصاب 2% واعتقال تعسفي4%. وخلال سنة 2016، حسب ذات المنظمة، انخفضت نسبة الوفيات المسترابة وارتفع معدل الإيقافات التعسفية وهي الحالات التي يوقف فيها الشخص دون سبب واضح ثم يطلق سراحه بعد ساعات من الاحتجاز وذلك في نفس اليوم وفي الغالب لا يُعلم الشخص رسميًا بموجب إيقافه.  

ومن حالات التعذيب المختلفة سنة 2016 ما حصل لعادل امشيش، الذي كان يوم 29 آيار/ مايو 2016 على متن دراجته النارية عائدًا من العمل إلى منزله وفي إحدى المناطق اصطدمت به من الخلف سيارة شرطة. تسبب الدهس في سقوط عادل أرضًا وتعرضه إلى أضرار جسيمة على مستوى ساقه اليسرى وكسر ضلعين على الجانب الأيسر من قفصه الصدري كما سلب منه مبلغ مالي وذلك إثر تفتيش ملابسه وهو ملقى أرضًا.

أجريت لعادل عمليتين جراحيتين على مستوى ساقه وظل بغرفة الإنعاش لمدة 3 أيام كما أقام بالمستشفى لـ3 أيام أخرى وظل يستعمل كرسيًا متحركًا لفترة من الزمن نظرًا لعجزه عن الحركة وقد قابل أحد أعوان الأمن الذين اعتدوا عليه وهو على كرسيه المتحرك، فسخر منه حسب شهادة عادل للمنظمة.

وعندما توجه عادل إلى مركز الأمن، مقر عمل الأعوان، لتقديم شكاية ضدهم، امتنع رئيس المركز عن تحرير المحضر أو تمكينه من أسماء الأعوان. ويصر عادل امشيش أن عملية دهسه بالسيارة الأمنية كانت مقصودة وذلك بعد أن تابعه الأعوان لمسافة طويلة، لوجود خلاف سابق بينه وبين أحد الأعوان بسبب عمله حارسًا ليليًا بإحدى الحانات في العاصمة.

ما حصل لعادل امشيش أو لغيره من المواطنين يكون، حسب إحصاءات المنظمة، بدافع خلافات شخصية أي بغية التخويف أو كعقاب للمحتفظ به أو المشتبه فيه أو لاقتلاع اعترافات بغض النظر عن مدى صحتها وعن الطرق المعتمدة. يذكر أن الفصل 101 مكرر من المجلة الجزائية التونسية لا يصنف العنف المرتكب من موظف عمومي على أفراد أثناء آداء عمله تعذيبًا مهما كانت درجة إيلامه وهو أمر مخالف لاتفاقية مناهضة التعذيب، التي صادقت عليها تونس سنة 1988. ويساهم هذا الفراغ القانوني في الإفلات من العقاب.

تتوزع الأماكن التي تحصل فيها الانتهاكات بين الفضاءات المغلقة والمفتوحة. حسب تقرير سنة 2016 للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، تُرتكب خمس الانتهاكات في الشارع، في حين تتوزع البقية بين مراكز الشرطة والحرس الوطني والسجون وفضاءات أخرى مثل سيارات الأمن ومساكن الضحايا وغيرها من الأماكن.

تحتل مراكز الشرطة الترتيب الأول، تليها السجون وتأتي مراكز الحرس الوطني في آخر الترتيب. ويشتكي عدد من المحتفظ بهم من التعذيب وسوء المعاملة داخل أماكن الاحتفاظ أيضًا سواء تلك المخصصة للأبحاث أو الإقامة. ولا يختلف الوضع في السجون عن مراكز الاحتفاظ، حيث تدعو المنظمة للإسراع بإصلاح أوضاع هذه الأماكن أملًا في الحد من الانتهاكات.

اقرأ/ي أيضًا: الدول العربية بعد 68 سنة من ميثاق حقوق الإنسان

تذكر ذات المنظمة، في تقريرها، أنه "لم يتم إلى الآن إصلاح حقيقي وملموس للمؤسستين السجنية والأمنية في تونس" وتؤكد أن "ذات القوانين القديمة التي تنظم عملها لا تزال قائمة، وأن التأخير في الإصلاح يؤدي إلى تواصل ارتفاع معدلات الانتهاكات وتواصل ظاهرة الإفلات من العقاب".

تؤكد منظمات حقوقية تونسية أن لا إصلاح حقيقي وقع في المؤسستين الأمنية والسجنية وأن ذات القوانين القديمة لا تزال قائمة

وتعيش البلاد خلال السنوات الأخيرة وضعًا أمنيًا غير مستقر بسبب تتالي العمليات الإرهابية وأوضاعًا اقتصادية واجتماعية صعبة ساهمت في تواصل التحركات الشعبية والاحتجاجات أيضًا. ونظرًا لأهمية تحدي مكافحة الإرهاب والتركيز السياسي والإعلامي عليه، تظهر تحديات أخرى على علاقة بمدى احترام حقوق الإنسان من قبل الأمنيين والعسكريين وتطور خطابات التحريض ضد المنظمات الحقوقية بين الفينة والأخرى. وفي هذا السياق، يصر البعض أن مقاومة آفة الإرهاب لا تتم إلا عبر قبضة حديدية تبرر كل الاعتداءات الممكنة على حقوق الإنسان وترى في الانتهاكات، على اختلافها، أيسر الطرق للحصول على اعترافات.

كما يلاحظ أيضًا بطء التحقيقات في مزاعم التعذيب وغياب الإحالات أمام القضاء في جل الملفات مما يوحي بغياب إرادة فعلية وجادة لمقاومة التعذيب. وفي هذا الإطار، تقدم المحامون التابعون للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب سنة 2016 بـ45 شكاية جزائية إلى النيابة العمومية في مختلف محاكم البلاد ضد موظفين من الأمن والسجون، يشتبه في ارتكابهم أعمال عنف وتعذيب وسوء معاملة. 82% من هذه الشكاوى ظلت على مستوى البحث الابتدائي/الأولي في حين أن نسبة 18% أحيلت إلى قضاة التحقيق ولم يتم إحالة أي ملف منها إلى طور المحاكمة وهي نسب تكاد تتكرر كل سنة، بحسب ذات المنظمة.

وقد تعددت المطالب من منظمات حقوقية بتعديل أحكام المرسوم 106 الصادر في تشرين الأول/أكتوبر 2011 والمتعلق بتجريم وعقاب جريمة التعذيب بغية ملاءمته مع الاتفاقيات والمعايير الدولية لكن لم تتم الاستجابة بعد. وخلال منتصف سنة 2016 تم انتخاب أعضاء الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب لكنها لليوم لم تنطلق في أعمالها.

في المقابل، وفي ذات السياق، من إيجابيات السنة المنقضية صدور القانون عدد 5، المؤرخ في شباط/ فبراير 2016 والمتعلق بتعديل بعض أحكام مجلة الإجراءات الجزائية والذي أعطى الحق للمحتفظ بهم أمام الشرطة القضائية للاستعانة بمحام. لكن المنظمات الحقوقية تؤكد ضرورة تعديل عديد القوانين ومنها قانون السجون وإصدار قانون ينظم إصلاحيات الأطفال.

تؤكد هذه التقارير الحقوقية للتونسيين أن المشهد لم يتغير جذريًا، وهو لا يزال يحمل مخلفات الماضي القريب من عنف وتعذيب، وهي ممارسات لا تنفيها السلطات التونسية بل تركز على أنها لا تندرج ضمن سياسة دولة مقصودة وتقتصر على تجاوزات فردية معزولة، لكنها في جميع الأحوال تذكر أن طريق التغيير طويل.

اقرأ/ي أيضًا:

تعذيب المثليين في سجون لبنان: انتهاكات برسم الدولة

اليمن.. قصص قتل وتعذيب الأفارقة