20-يناير-2017

تختلف النكات المنتشرة في الجزائر من فترة إلى أخرى (أنطوان غيوري/Corbis)

ما أشبه النّكتة ببائعة الهوى، المتقزّزون منها هم أنفسهم المقبلون عليها، ذلك أنّ صورة النّكتة في الفضاء العربي مرتبطة بالابتذال، حتى لا نقول إنها مرتبطة بقلّة الأدب. بعض هذا الحكم متأتٍّ من النّظرة العربية إلى الضّحك ذاتِه، بصفته فعلًا يُحيل على التشاؤم والدّعاءِ عقب كلّ ضحكة عميقة: "اللهمّ اجعلو خير".

يتخذ الباحثون في علم الاجتماع والسّلوك، النكتة مدخلًا لدراسة الأمزجة والأفعال والتحولات الخاصة بمجتمع ما

في المقابل، يتخذها الباحثون في علم الاجتماع والسّلوك، مدخلًا لدراسة الأمزجة والأفعال وردود الأفعال والتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسّياسية الخاصّة بمجتمع من المجتمعات، ذلك أنها مجهولة المؤلّف وغير محددّة أفق التلقي، وغير خاضعة للرّقابات المختلفة، ما يجعلها من أكثر المرايا صدقأ وعريًا.

اقرأ/ي أيضًا: ضحكاتنا التي تشبه الرصاص

في الجزائر، انتشرت في العشريتين اللتين تلتا الاستقلال الوطني، 1962، نكتة جحا الفرنسي وجحا الجزائري، والتي تصوّر الأوّل في غاية الغباء، في مقابل ذكاء الثّاني الذي يؤهله لأن يوقع الأوّلَ في الفخّ. كان ذلك توجّهًا منسجمًا مع المشروع الوطني القائم على التحرّر الثقافي من بقايا الاستعمار الفرنسي، في عهد الرّئيس هوّاري بومدين.

لقد ساهمت تلك النّكتة في تعزيز "عقدة تفوّق" لدى الإنسان الجزائري الخارج من تبعية فرنسية دامت 132 عامًا، وتقول الدّراسات إن فرنسا لم تخلّف، وهي تنسحب، إلا 1000 كادر جزائري في المجالات كلّها، ممّا خلق حالة تخوّف عام، من الفشل في تسيير الاستقلال، عكس النجاح في تسيير ثورة التحرير، فتكفّلت النكتة، إلى جانب إجراءات سياسية واقتصادية أخرى، منها مساواة الدّينار الجزائري بالفرنك الفرنسي، وتأميم النفط، بامتصاص تلك الجرعة من الخوف والتردّد.

بعد رحيل بومدين نهاية عام 1978، ومجيئ الشّاذلي بن جديد على حين غفلة من الشعب، ذلك أنه لم يكن معروفًا إلا في نطاق ضيّق جدًّا، وتخلّيه عن الخيار الاشتراكي، وتوجّهه إلى تحرير الاقتصاد، وتخفيفه من الرقابات المختلفة، حتى صار المال العام في مهبّ العبث به، بالموازاة مع طيبته وهدوئه وبساطة خطاباته وتدخلاته، انتقل الغباء الذي كان يوصف به جحا الفرنسي إلى الرئيس بن جديد. فهل كان هذا التحوّل بريئًا؟.

استفحلت النكتة التي تستثمر في "غباء" الرئيس الجديد، على الألسنة جميعها، بما في ذلك رجال الدّولة أنفسهم، وبات السّؤال العفوي الذي يطرحه الجزائريُّ حين يلتقي الجزائريَّ هو: "كاش جديد؟"، أي هل من جديد، وكان المسؤول يفهم عفويًا أن السّائل يقصد الجديد في مجال النكتة، فيتداعى مباشرة في عرض جديده، كأن يقول: "التقى الشاذلي برئيس دولة مالي..".

في التسعينيات، كانت الجماعات الإرهابية متحكمة في المزاج العام، فكان التنكيت من بين الثقوب القليلة التي يتنفس منها الجزائريون

بعد إقرار الدّستور التعدّدي عام 1989، وإلغاء المسار الانتخابي عام 1992، واستقالة/ إقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، اختفت معه النكتة المتعلّقة به مباشرة، من غير أية فترة انتقالية، ما جعل البعض يقول إنها كانت سلاحًا مقصودًا من المخابر الخفية، انتقلت صفة الغباء إلى سكّان مدينة معسكر، 400 كيلومتر غربًا، غير أن ولع الناس بالنكتة الجديدة، كبارًا وصغارًا، مثقفين وعاديين، رجالًا  ونساءً، كان أكبر من الولع الشعبي الذي كانت تحظى به النكات السّابقة.

اقرأ/ي أيضًا: الفرح الغائب عن حياة السوريين

الغريب في الأمر، أن محافظة معسكر، عاصمة الدولة التي أسّسها الأمير عبد القادر الجزائري، كانت تفتكّ المراتب الأولى وطنيًا في المسابقات والامتحانات التربوية، من المرحلة الابتدائية إلى البكالوريا/ الثانوية العامّة، بالموازاة مع إجماع الجزائريين في الجهات الأربع، على جعلها بؤرة الغباء، وكان أكثر الأسئلة التي تطرح يومها بين الناس: "كاش جديد على المعسكري؟". فيقال مثلًا: "اخترع أهل معسكر قنبلة نووية، وطلبت منهم الحكومة تجريبها في بقعة نائية، فأصرّوا على تجريبها في مدينتهم لأنهم هو مكتشفوها".

كانت الجماعات الإرهابية يومها متحكمة في المزاج العام وبرمجته على الخوف الدّائم، بقطع الرؤوس وإزهاق النفوس، وكان التنكيت على "المعسكري" من بين الثقوب القليلة التي يتنفس منها الجزائريون ويعبّرون عن انتصارهم للحياة، وأدرك سكان محافظة معسكر ذلك، فقابلوا الأمر بصدور رحبة، فلم يبدوا امتعاضًا أو احتجاجًا، بل إنهم انخرطوا هم أنفسهم في المسعى، وأعطوه أبعادًا فكاهية أعمق، ذلك أن أكثر النكت المتعلقة بهم إضحاكًا، كانت تلك التي يقولونها هم.

في إحدى خطبه، نوّه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالرّوح العالية لسكّان معسكر، وطالب الجزائريين بأن يشكروهم على أنهم ضحّوا بصورتهم، "من أجل أن يُسعدوا إخوانهم في عزّ الخوف، وآن لنا جميعًا أن نكفّ عن ذلك، بعد انتفاء دواعيه".

كان ذلك فاتحة لاستفحال النكتة الجنسية، فكأن الشّارع الذي خنقت سنواتُ الجمر أنفاسَه، أراد أن يُنفّس/ يتنفس، بالتحلّل من الكلفة والغرق في البذاءة، حتى صار الأخ يتحرّج من أن يسأل أحدًا من أقاربه: "هل من جديد في النكتة"، لعلمه المسبق بأنه بذيء، ذلك أن الجزائري لا يستعمل المفردات الجنسية في حضرة الأهل والأقارب، ولا يشير إلى الأعضاء التناسلية.

اتخذ البعض من انتشار النكتة الجنسية مؤشرًا على حالة الميوعة التي انتشرت في سنوات ما بعد مرحلة الإرهاب، نتيجة غياب مشروع حضاري حقيقي، وفشل الإصلاحات المختلفة، خاصّة التربوية منها، ممّا أدخل الجزائريَّ في حالة استقالة معنوية شاملة، وفتح الرّغبة في الهجرة غير الشرعية، وقد أسّس ذلك لسيادة نكتة جديدة، في السّنوات الثلاث الأخيرة، تستثمر في يوميات وأمزجة الحشّاشين.

هذا المعطى الذي يُحيلنا على السّؤال الذي طرحه، بُعيد الاستقلال، الرّئيس الجزائري محمّد بوضياف المغتال منتصف عام 1992، حيث كانت نكتة جحا الجزائري وغريمه الفرنسي مهيمنة: "الجزائر إلى أين؟"، والذي تعاملت معه الحكومات المتعاقبة بصفته "نكتة"، فصار كلّ من يطرحه يُصنّف في خانة الخونة.

اقرأ/ي أيضًا:

العنصرية والطائفية كـ "نكتة مدرسية"

مجاميع السكس الافتراضية في العراق!