22-يوليو-2017

الصورة الترويجية لفيلم بشرة خير/حكم قراقوش/الله معنا

على المستوى المصري، مثّلت "ثورة 1952" حالة خاصة من التواجد في جميع الفنون خاصة الغناء والسينما. ولم تتم الإشارة في تاريخ السينما المصرية إلى حدث سياسي بقدر ما حدث للثورة، ليس فقط من خلال مجموعة الأفلام السياسية المعروفة في تاريخ السينما، بل كان على هذا الفن مباركة ما قام به "الضباط الأحرار" من انقلاب على الملك، ثم طرده، وتولّي الحكم، وما عرفته مصر من تموز/يوليو 1952 ولسنوات طويلة لاحقة.

لم تتم الإشارة في تاريخ السينما المصرية إلى حدث سياسي بقدر ما حدث لثورة يوليو

ويعني هذا في المقام الأول أن السينما صارت أداة سياسية لدى القائمين بالثورة، تدافع عن مبادئهم وأفكارهم وقراراتهم السياسية ومواقعهم العامة. وبعد أن كانت تحاول حلّ بعض المشكلات الاجتماعية مثل السوق السوداء ومشكلة العامل في مصنعه، صار لزامًا على السينما أن تناصر الثورة ورجالها ومشاريعها، وتتحدث عن الماضي بصفته صفحة كان يجب محوها "تمامًا ونهائيًا"، وعن الحاضر باعتباره متميزًا بالثورة.

وبتتبع بعض ما ورد في الأفلام المصرية، في سنوات أو شهور الثورة الأولى، فسوف نرى مباركة واضحة للحدث الجديد، وهناك موقف غريب في فيلم "بشرة خير" لحسن رمزي الذي عُرض في نيسان/أبريل 1952، حين يقرأ البطل خبرًا في جريدة عن موافقة الدول الكبرى على رفع الوصاية عن مصر ، ويقول لحبيبته ابنة الأغنياء إن هذه الأحداث ربما تكون بشرة خير عليهما، ومن هذه العبارة أخذ الفيلم عنوانه، فهل كانت نبوءة؟ في الواقع إنه مجرد خبر حدث أثناء تصوير الفيلم، فرأى المخرج إقحامه في السيناريو.

اقرأ/ي أيضًا: عوالم صلاح أبوسيف الواقعية في فيلم "لا تطفئ الشمس"

الأمر نفسه سيحدث ولكن بصورة أكثر مباشرة في فيلم "عفريت عم عبده" لحسين فوزي الذي عُرض في شباط/فبراير 1953، حيث يأتي ذكر الثورة تصريحًا. قصة الفيلم تدور في الماضي، حول صحافي مؤمن بعالم الجن والأرواح، عم عبده، يتحوّل إلى شبح بعد مقتله، ثم يحاول الانتقام من قاتليه. وفي الوقت ذاته، فإن عفريت عم عبده يساعد أصدقاءه في العثور على كنز مالي مخفي في الصحراء.

وباعتبار أن الثورة من وقائع المستقبل، فإن الفيلم يتحدث بتمجيد واضح عن الثورة ورجالها، ويتكلم بكل أمل وإعزاز عن الثورة التي جاءت لتقضي على العهد البائد، عهد الظلم والفساد، وكيف أنها ستطهِّر الوطن، ويتماهى خطاب الفيلم تمامًا مع خطاب الثورة بإعلانه المبادئ الستة التي أعلنتها الثورة، بالقضاء على الاقطاع وأعوانه، والاستعمار، وسيطرة رأس المال، وإقامة جيش وطني سليم، وما إليه من بقية مبادئ الثورة.

هنا نحن أمام فيلم كوميدي قرّر صانعوه تحويله إلى ساحة خطابة باسم الثورة، إيمانًا بها أو تملقًا لها، لكنه مثال توضيحي على أن عددًا من السينمائيين استجاب لنداء رئيس الجمهورية اللواء محمد نجيب الذي وجهه إلى السينمائيين بعد أسابيع قليلة من قيام الثورة، وطالبهم فيه بتقديم فن يقطع مع ما كان يُقدَّم في العهد البائد، حيث "الميوعة" و"الخلاعة" سمات أساسية في السينما والمسرح والغناء.

وفي مطلع أيلول/سبتمبر 1952، عرض الفنان الملتزم حسين صدقي فيلمه "يسقط الاستعمار"، ممجدًا وحاثًا الشعب المصري على الكفاح ضد المحتل الإنجليزي، وذلك بعد صدور قرار بعرض فيلمه "مصطفى كامل" بعد منعه من العرض في عهد الملك فاروق. هذه الأفلام كُتبت وصوِّرت قبل الثورة، ولا شك أن الثورة وجدت فيها صدى لأفكارها ومبادئها وحرصت على عرضها، لكن المهم أن الجمهور نفسه لم يشعر بتلك الأفلام، لذلك كان على الدولة الوليدة أن تدخل بنفسها إلى الساحة.

عام 1952، عرض الفنان الملتزم حسين صدقي فيلمه "يسقط  الاستعمار"، ممجدًا وحاثًا الشعب المصري على الكفاح ضد المحتل الإنجليزي

وفي عام 1953 ظهرت مجموعة من الأفلام "الوطنية"، التي تناقش قضايا سياسية ومواجهات بين الحاكم الظالم والثوّار، مثل "أرض الأبطال" لنيازي مصطفى و"حكم قراقوش" لفطين عبد الوهاب. وفي أيار/مايو 1954 عرض أول فيلم عن قوانين الإصلاح الزراعي التي أصدرها مجلس قيادة الثورة بعنوان "الأرض الطيبة" لمحمود ذو الفقار، وفيه توزّع فتاة ريفية الأرض التي ورثتها على الفلاحين.

في الوقت نفسه، بدأ الاهتمام بتمجيد الجيش وأسلحته من خلال استغلال شعبية نجم كوميدي بحجم إسماعيل ياسين وجعله شخصية رئيسية في سلسلة أفلام تحمل اسمه متبوعًا بأحد أفرع أسلحة الجيش المختلفة، وهكذا ظهرت أفلام إسماعيل يس في الجيش والأسطول والبولسي الحربي وغيرها، وكلها أفلام موّلتها الدولة وساعد الجيش في إنتاجها وتصويرها.

لكن كل هذا كان محاولة لتخمُّر فكرة ضخمة عن ميلاد الثورة من خلال فيلم كبير، تُحشد له ميزانية ضخمة وأسماء كبيرة، مثلما يفعل النظام الحالي. هذا الفيلم المنتظر هو "الله معنا"، الذي أخرجه أحمد بدرخان وعُرض في آذار/مارس 1955، وهو أول فيلم يُخرج "الضباط الأحرار" إلى نور السينما.

والفيلم كما هو معروف من تأليف إحسان عبد القدوس واشترك في بطولته وتمثيله عدد كبير من النجوم وممثلي الصف الثاني، بصورة لم يسبق لها مثيل في فيلم سينمائي.

اقرأ/ي أيضًا: مفاجأة 2018: فيلم جديد لسكورسيزي يجمع جو بيشي ودي نيرو وال باتشينو

وفي أحد دعايات الفيلم الكثيرة، نعثر على ملصق إعلاني يمتلئ بعشر صور، على اليمين الصور التي تعكس الماضي، وعلى اليسار الصور التي تصوّر المواجهة، وتحت كل صورة كلمة واحدة مثل "مؤامرات، مجون، تحفز، استهتار، سيطرة"، وعلى الناحية الأخرى "تحكم، لهو ثورة، طرد، انتصار".

أما الكلام الحماسي المنشور مع الإعلان عن عرض الفيلم فقد جاء في بعضه: "هل ينسى مصري واحد كيف كانت تحكم مصر في عهد الملكية؟"، "هل ينسى مصري واحد كيف كان الظلم يرتفع وخيمًا في كل شبر من أراضي مصر؟، "هل ينسى مصري واحد الذل الذي عاشت فيه مصر تحت نير الاستغلال والجشع والأنانية؟"، "لقد كان يحكم مصر حكمًا جائرًا، نفرٌ قليل يتحكم في عدة ملايين من المصريين"، "إن قصة تتناول بصدق وواقعية هذا الموضوع الدقيق الخطير، تعتبر ولا شك قصة وطنية، لأنها غاصت في أعماق مصر وكتبت بالدماء ما كتبه أبناؤها المخلصون البررة بدمائهم الحرة الذكية، من أجل حرية بلادهم"، "إنها قصة سجلت أحداث هذه الفترة الحاسمة من التاريخ، كما سجلها فيلم "الله معنا": كيف تم للثورة طرد فاروق؟ كيف استطاعت أن تهدم نظامًا جائرًا وتقويض دعائم ملك ظل جاثمًا على بلادنا الحرة سنوات هي أشبه بالدهور المظلمة؟".

خطاب دعاية الفيلم يخبرنا الكثير عن الفيلم نفسه. فالفيلم الذي قام ببطولته الفنانون عماد حمدي وفاتن حمامة ومحمود المليجي وحسين رياض وشكري سرحان وماجدة وستيفان روستي وعلوية جميل، يبدأ قصته من حرب فلسطين 1948 وتمتد زمنيًا حتى يوم الأربعاء 23 يوليو 1952، يوم استيلاء "الضباط الأحرار" على حكم مصر.

وفيلم "الله معنا" يؤسس حكايته بالكامل على قصة الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين ويحمّلها مسؤولية هزيمة الجيش المصري، ويعرض دور القصر في توريد هذه الأسلحة إلى جبهة القتال، وعودة الضباط من أرض المعركة وهم في حالة إصرار على محاسبة من تسببوا في هزيمتهم أمام عصابات الصهاينة، وتوصلهم إلى نتيجة مؤداها أن تحرير فلسطين لن يتم قبل تحرير القاهرة من الإنجليز والملك والعائلة المالكة وشبكات الفساد التي تهيمن على الجيش.

استغلت الثورة السينما كأداة لها، وليست هناك فواصل واضحة بين ما كُتب في الكلمات الدعائية للفيلم وبين ما جاء على لسان رجال الثورة، أو أبطال الفيلم، أو حتى النقاد السينمائيين، فكأنما كل الأطراف تتكاتف من أجل إظهار فساد الملك ونقاء الثورة التي صارت بمثابة الأمل.

ويحكي الفيلم قصة عبد العزيز باشا، مورد الأسلحة للجيش، وذكور باشا، الوسيط بينه وبين الملك، موضحًا وقع هزيمة فلسطين على الشارع المصري وكيف كانت الدعاية تقلل من شأن العصابات الصهيونية وتقول للشعب إن الجيش جاهز وإن الحرب سوف تكون مجرد نزهة للجنود والضباط.

فيلم "الله معنا"، الذي أخرجه أحمد بدرخان وعُرض في آذار/مارس 1955، هو أول فيلم يُخرج "الضباط الأحرار" إلى نور السينما

ويعرج فيلم "الله معنا" من خلال حرب فلسطين إلى الطريقة التي تشكّل بها تنظيم "الضباط الأحرار" وتكتلهم واستخدام المنشورات السرية كسلاح في كفاحهم، وفي المقابل يصوِّر الطريقة التي كانت عليها الأوضاع في مصر قبل الثورة، وكيف كان الملك فاروق يدير البلاد من موقعه على طاولة القمار، وكيف كانت "شلة" الخدم المحيطة به هي التي ترسم مستقبل البلاد.

ورغم أن أسماء الضباط الأحرار الحقيقية لم تُذكر هنا، إلا أن الأداء الذي سلكه عماد حمدي يبدو فيه كأنه ينطق بلسان عبد الناصر ويتصرف بطريقته، ابتداءً من شكل شاربه وطريقة تلفظه بالكلمات.

وصحيح أن هناك عدم تشابه تام بين الحكاية التي رأيناها في فيلم "الله معنا" وبين الواقع، ولكن إذا كان الصحفي قد رمز بشكل مباشر إلى إحسان عبد القدوس، فإن الضابط أحمد قد رمز بكل وضوح إلى عبد الناصر الذي اشترك في حرب فلسطين، خاصة حصار الفالوجة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أفضل 10 أفلام لسنة 2017 في رأي النقاد حتى الآن

إعادة نظر: فيلم"تحقيق عن الجنة".. السؤال النسوي حينما يكون لصالح المجتمع