08-نوفمبر-2016

من عرض المسألة البدائية لـ ديميتريس بابايوانو ومايكل ديفينيوس

علاقة الوجودية بتنظيم دولة الإسلام

نذكر أولًا أن كاتبًا يهوديًا يُدعى "شموئيل حرليف" كان قد سبقنا في محاولة بائسة للربط بين منهج تفكير التنظيم وبين الوجودية، حيث ادّعى في مقالٍ نشرته "هآرتس"، ونقله عنها موقع "القدس العربي"، أن تنظيم الدولة الإسلامية "يجنّد" أفكار الفيلسوف الألماني الوجودي "مارتن هايدغر" وهو في قبره؛ ومن المعلوم أن "هايدغر" كان يفتخر لعدة أعوام بانتمائه للنازية، لذلك لم أستطع أن آخذ ما قاله "حرليف" على محمل الجد والموضوعية؛ أضِف إلى ذلك أنه كان ساذجًا للغاية.. يقول: "طقوس الموت متشابهة بين هايدغر وتنظيم الدولة، لكن الطريقة التي يجنّد فيها تنظيمُ الدولة هايدغر في قبره، ترضع من مصدر قِيَميٍّ أكثر عمقًا، إذ إن الوجود في كتابات هايدغر هو السعي إلى الوجود الأصلي (غير المرتبط بالمجتمع)، والحياة في الحاضر كأمور ذات مغزى وجودي"، أي على حسب الطريقة التي يؤمن بها عنصر التنظيم في غايته وقضيته الماورائية التي وجد لأجلها.

عمد مارتن هايدغر، كما غيره من الوجوديين، إلى تقديم نموذج عن الشخصية الوجودية الكاملة

ويتابع قوله: "هذا كما يبدو هو سر انجذاب آلاف المتطوعين والمتطوعات لتنظيم الدولة، مسلمين وغير مسلمين، الذين يتدفقون إلى صفوفه من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة… تنظيم الدولة يقترح على متطوعيه وجودية أصلية على نمط هايدغر.. إسلام طاهر، عودة إلى الجذور، وحاضر يعطي مغزى للحياة من خلال الاحتكاك المباشر والمتواصل مع الموت. الإدمان على الموت يبدو مثل المخدرات القوية التي لا يستطيع أن يوفرها أي تاجر مخدرات من جنوب أمريكا".

اقرأ/ي أيضًا: الوجودية وتنظيم دولة الإسلام (1- 3)

أعترف هنا أن الجُمل التي نقلناها عن "حرليف" تحتوي على إيقاع لغوي جيد يحاول أن يحاصِر قارءهُ، ويحشَره في الزاوية؛ إلا أن حلقاتٍ كثيرة لا تزال غير مفهومة، ولا يمكن لها أن تكون مفهومة، لماذا؟

وجودية "هايدغر" أيها السادة كانت مثالية، أي أن الرجل ككثيرين غيره من فلاسفة الوجود، عمد إلى تقديم نموذج عن الشخصية الوجودية الكاملة والمتكاملة، مثل مسيحي كريكغارد، وسوبرمان وزرادشت نيتشه، وغريب كامو، ولامنتمي كولن ويلسون. وجميع من ذكرنا كانت لديهم ماهية للوجودي الكامل أو المثالي، فرضَتها عليهم فلسفتهم المتسمة بالاستقلالية والتفكير الأصيل اللامتأثر بالغير. 

فالأول (كريكغارد) رغم امتداحنا لفكرةٍ جاء بها في بداية المقال، إلا أنه يرى أن الإنسان فاقد لذاته، وأن هناك مراتب للذات مثل الذات الأخلاقية، والتي تتصاعد لتصل إلى سموها في الذات المؤمنة المسيحية. على عكس نيتشه الذي يريدك كائنًا خارقًا تبحث عن الحقيقة من الصفر، وتشكك بكل ما يمكن أن تؤمن به، ولا تصل في نهاية المطاف إلى شيء، وهو القائل لتلاميذه: "انسوني.. انسوا كل ما قلتهُ لكم"؛ بينما يريدك كامو في "الغريب" أن تكون شخصًا صادقًا وبسيطًا ومتحررًا بشكل (مبالغ فيه) من أعراف المجتمع، وأن تعيش حياتك كما ترغب حتى لو تصادمت مع المجتمع الذي يقابل أفعالك بالدهشة والاستنكار أحيانًا، أما في "اللامنتمي" فقد أعتب كولن ويلسون بطل "الجحيم" لـ"هنري باربوس" نموذجًا للامنتمي الأصيل في الأدب الحديث.. حيث كان يسترق النظر من ثقبٍ في جدار غرفته بالفندق إلى سيّدة تتعرّى، ما يُشعل في جسده ثوران الشهوة.. كان يصنع من خلال اختلاس النظر إلى الآخرين عُمقهُ وفحواه.. باربوس كان يريد -حسب كولن ويلسون- أن يقنعنا بأن اللامنتمي إنسان لا يستطيع الحياة في عالم البرجوازيين المريح المنعزل، أو قبول ما يراه ويلمسه في الواقع، لأن البرجوازي يرى العالم مكانًا منظَّمًا تنظيمًا جوهريًا، تمنعه دقائق حياته اليومية من الاهتمام بعنصر القلق المرعب الذي يحيط به؛ أما بطل "الجحيم" فلم يكن يرى العالم معقولًا ولا منظَّمًا، لذلك كان يَقذف بمعانيه الفوضوية في وجه البرجوازي المنغلق من خلال اختلاسه النظر، وهو يحس الكآبة العميقة ويشعر بأن الحقيقة يجب أن تقال مهما كلف الأمر، وإلا فلن يكون الإصلاح ممكنًا. وهنا تبرز وجودية سارتر الأنيق والمهندَم المتصالِح مع الوجود بكل مافيه من غثيانٍ وقرفٍ وعَفَن. دون مثاليات أو طرق محددة للكمال وجوديًا.

وجودية هايدغر كانت مثالية، ومثاليتها تكمن في احتكاك بالموت قبل فوات الأوان

اقرأ/ي أيضًا: حداثة الحياة.. تقليدية الموت

نكرر: وجودية هايدغر كانت مثالية، ومثاليتها تكمن في احتكاك بالموت قبل فوات الأوان… تخيّل معي كوبًا فارغًا صُنع من الزجاج الشفاف، ولهُ تلك الأذن التي تستطيع من خلالها حَمله، هذا الكوب قابل لأن تملأهُ بالشاي، النسكافيه، الماء، أو أن تملأه بأحد أنواع المشروبات الكحولية حتى؛ من وجهة نظر "سارتر" غير المثالية: في اللحظة التي يقفز فيها هذا الكوب ليحدّد نوع/ماهيّة المشروبات التي يستطيع تحمّل حرارتها أو برودتها بكل بساطة يُصبح موجودًا بالمعنى الفلسفي للكلمة، وهذه القفزة إلى الوجود فلسفيًا والتي تتطلب منه جهدًا ومسؤولية، هي ذاتها قفزة "كريكغارد" التي أشرتُ إليها في بداية المقال، أما مثالية "هايدغر" فترى أن الوجودي العادي قد حدّد أنواع المشروبات منذ أن فكّر بشكل جدّي بعد أن خرج من العلبة الكارتونية، لكن الأكواب شذّت في تحديد ماهيّاتها حتى تصارعت فيما بينها، وغابت ملامحها وابتعدت عن أصليتها، وعليها أن تستعجل بالعودة من خلال التعلّق بالموت الذي يُعطي من جانبهِ القيمة لضرورة ذاك الاستعجال؛ وفي اللحظة التي يفكر فيها الكوب بالفناء الذي ينتظره، ويقرر العودة (بمفرده) إلى جذوره وفق هذه المنهجية الخاصة يُصبح موجودًا (مثاليًا)، وهذا يتطلَّب صراعًا مع الأكواب الأخرى الرافضة لذلك.. ربما لأن "هايدغر" ببساطة سليل تراكم فلسفي بثّه "هيغل"، ومن بعده "ماركس"، في وقت سابق عن أن قضايا العالَم فحواها الصراع المستمر.. و(جُل فلسفات ألمانيا انبَنَت على قضايا الصراع بين الأفراد والطبقات والحقائق والماهيّات).

أيها السادة، إن المقاربة بين "هايدغر" المُلحد، وتنظيم الدولة الإسلامية حسبما أوردَ حرليف، أمر يدعو للضحك فعلًا. أصلية "هايدغر" ووجوديته المثالية ترتكز كما قلنا على الكينونة المرهونة بزمان ينتهي بالموت؛ ومن السخف بمكان أن يكون الرجل قد طرح فلسفةً متعلّقة بماورائيات، في الوقت الذي يتصارع فيه العالَم على أعتى مستوى، وإلا لكنّا لقّبناه بالشيخ أو الأمير أو المجدِّد مارتن هايدغر، الداعي إلى استخدامنا الحاضر كوسيلة لتحصيل الأصليّة الماوراء طبيعية عبرَ الاحتكاك بالموت، والواعدِ إيّانا بالحور الحِسَان، اللاتي لم يطمثهن إنسٌ قبلنا ولا جان.

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا لو لم يكن ثمة عاهرات؟!

غينسبيرغ وفيرلنغتي.. تحية المسيرة العظيمة