21-أكتوبر-2018

الفنّان التونسي سمير التريكي

غالبًا ما نجد صعوبة في التعامل مع الجديّة المفرطة، وغالبًا أيضًا ما تجعلنا الصرامة عاجزين عن اتخاذ ردة فعل عفوية إزاء أي تصرف منظم، إذ يتملكنا خوف غير مبرر من الوقوع في خطأ ما غير مدركين -في نفس الوقت- أين يكمن الصواب. تمامًا كحالة طفل يتعلم خطواته الأولى، والذي لا يعلم من أين أو كيف يبدأ خطوته من جديد، ورغم ذلك يستمر في المحاولة مرارًا وتكرارًا.

 يتحدّث سمير التريكي عن تاريخ البحث في قدسية الجوهر الهندسي، من عمق تاريخ الثقافة الإسلاميّة

تحمل الهندسة في الفن التشكيلي تلك الصرامة الفكريّة العميقة التي لن يدركها كل من يمرّ بسطحية أو بعشوائية على ما يحمله جوهر الشكل الهندسي البسيط. وفي تلك الصرامة ذاتها، يبحث الفنان التونسي سمير التريكي منذ ما يزيد عن أربعة عقود في جلالة شكل "المربع". يقول: "لم أنته إلى الآن من التوغل عميقًا داخل ذلك الشكل. ما زال الكثير منه للبحث فيه وأرجو أن يُسعفني الحظّ أن أتوصل إلى إجابات لكل تساؤلاتي"[1].

اقرأ/ي أيضًا:​ الفنّان عماد جميّل.. كائنات من الهواء

يأخذ سمير التريكي "مربعاته" على محمل شديد الجديّة، فهو يتحدّث عن تاريخ البحث في قدسية الجوهر الهندسي، من عمق تاريخ الثقافة الإسلاميّة، مرورًا بالزخرف المعماري في تونس، وصولًا إلى تجليات المعمار الفوضوي المعاصر.

[[{"fid":"103653","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"سمير التريكي","field_file_image_title_text[und][0][value]":"سمير التريكي"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"سمير التريكي","field_file_image_title_text[und][0][value]":"سمير التريكي"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"سمير التريكي","title":"سمير التريكي","height":713,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

هو لا يترك التفاصيل للصدفة، بل يبحث في جزئياتها اللّغويّة والدلالية والتاريخية، ثم يقدّم روابط خفيّة وطبيعيّة لطالما كانت هناك، في الخطوط المستقيمة وبين الزوايا القائمة والأشكال الهندسية البسيطة والمركبة. يبحث الفنان داخل "مربّعه"، علّه يظفر بطريقة خفيّة لجعل المربّع أكثر تربيعًا، أو لاستخراج أشياء غير مرئيّة تسمح له بالانتشار داخل روحه وفق نظام متغاير وغير قابل للتكرار. "التسطير هو موقفي إزاء فوضوية الحياة –يقول سمير التريكي- نحن لم نختر أن نولد ولكن حياتنا نعيشها وفق نظام ذاتيّ من اختيارنا الصرف. أنا لا أستطيع تغيير كل الفوضى في الخارج، ولكنني على الأقلّ، أحاول الاستمرار في عيش نظامي الداخلي من خلال هذا المربّع السحريّ"[2].

زهدٌ في الهندسة لتجنّب رجس التشخيص

يتحدث سمير التريكي باطراد عن تأثّره، منذ دراسته الثانويّة، بالصناعة اليدويّة للقطع الميكانيكية، وبقواعد الرسم التقنيّ، الشيء الذي جعله مغرمًا بصناعة الأشكال ذات الصيغ الرياضية بيديه، وفق حسابات دقيقة ومعادلات رياضية مضبوطة. هناك علاقات رياضية محدّدة ومُحكمة بصياغة هندسيّة بين المربع والدائرة وسداسي الأضلاع وباقي الأشكال الهندسيّة البسيطة والمركّبة. وتلك العلاقات المعقّدة هي التي أدت لاحقًا، إلى دخوله في عالم البحث في شكل المربّع و"تجلّياته اللانهائيّة" المرتبطة بمفهوم الأحاديّة المطلقة.

يؤكد الفنّان أنّ مضامين ممارسته التصويريّة تنتمي إلى روح الفن الإسلامي، بدءًا من اكتشافه الفريد للزخرفات الهندسيّة التي وجدها على جدران وسقوف المسجد الكبير بصفاقس، مرورًا ببحوثه العديدة حول الأرابيسك في الفنون الإسلاميّة، وصولًا إلى درايته العميقة بعلم الأعداد. ثمّة علاقة وثيقة بين التصوف والهندسة الزخرفيّة، بين الفلسفة وعلم الأعداد، وبين الحكمة والتجريد.

يصف سمير التريكي كلّ ذلك بــ"عالمه الذاتي العميق"[3]، العالم الخلاّق ذو "الوحدة الجمعيّة". عوالم مسطّرة ومستقيمة -شديدة التوغل في الفلسفة- تقف خلف بصرية الفنون الإسلامية ككلّ، بما فيها من تحوير وتكرار وتماثل وترادفيّة.

لا يقدّم سمير التريكي مجرّد "مربّع"، كشكل هندسيّ بسيط، بل يكشف عن شبكة خوارزميّة من الإيقاعات المتتالية في أشكال هندسيّة مبسّطة يجمعها المربع

يصوغ هوية مميزة لممارسته التشكيليّة تقوم بالأساس على جماليّة الضوابط الهندسيّة في الرسم، والتي تحمل فلسفة روحية تنمو نحو الوحدانيّة والتجرّد. ذلك التجرّد الذي يجد جذوره في جدلية "الكثرة والوَحدة" للفكر الصوفي، والذي يفسّره ابن عربي في كتابه "فصوص الحكم" بالجمع الواحد، يقول: "لقد أوجد الواحد العدد، وفصّل العدد الواحد، وما ظهر حكم العدد إلاّ المعدود. والمعدود منه عدم ومنه وجود، فقد يعدم الشيء من حيث الحسّ وهو موجود من حيث العقل.. ولا ينفكّ عنها اسم جميع الآحاد"[4]، يعتمد سمير التريكي على علم الأعداد Arithmologie ليتوغّل عميقًا داخل مربّعاته المتعدّدة، المتتالية والمتوالدة. يبحث عن المفهوم الكوني للطبيعة بوصفها "الطبيعة الولاّدة" المسكونة بالرموز والإشارات والتّلويحات والحقائق الغيبيّة التي لا تتناهى.

اقرأ/ي أيضًا:​ فوتوغرافيا جوزيف كوديلكا.. خراب بيروت المضيء

لا يقدّم التريكي مجرّد "مربّع"، كشكل هندسيّ بسيط، بل يكشف عن شبكة خوارزميّة من الإيقاعات المتتالية في أشكال هندسيّة مبسّطة يجمعها المربع. هو يفصح في العديد من المناسبات عن تأثرّه بالتراث الموسيقي كالمقامات ويفسّر ذلك بعلاقة الإيقاع بالرياضيات، وعلاقة كلّ منهما بالتعدد والتكرار والوحدة. يشبه ذلك بحثه المتواصل في لانهائيّة شكل "المربّع" التجريدي "أنا أحاول النظر إلى الطبيعة في باطنها-يقول سمير التركي- الباطن الذي أبحث عنه في كل الزوايا التي أرسمها"، تلك الطبيعة نفسها التي تشكل كلًّا شموليًّا خلاّقًا، أين يحتفظ الكلّ بدوره وبتميزه وتفرّده. "لقد اكتشف فيثاغورس الذي كان ضالعًا في المعرفة الصوفية البابلية والمصرية، أن ذبذبات أوتار الآلة الموسيقية تُنتج أصوات متناغمة عندما تكون أطوال الأوتار أعدادًا صحيحة. وقد عمم هذه النتائج على الكون بأكمله، وهكذا تطور الإيمان الفيثاغورسي بالسلطة المطلقة للرقم الذي يحكم الكون ويديره"[5].

يتحدّث سمير التريكي كثيرًا عن العلاقات الحسابيّة المحدّدة بين كلّ أشكال الطبيعة أين تؤدي كلّ المعادلات الرياضيات إلى نفس النتيجة النهائية وهي العدد المفرد "الواحد"، على سبيل المثال الترابط الموجود بين أحجام الورق المعتمدة في المواصفات العالميّة ISO216 (A4/A3/A2/A1)، إذ يساوي الطول العرض مضروبًا في الجذر التربيعي لـ2، إلى أن يصل إلى الحجم الأخير في السلسلة A0 والذّي تبلغ مساحته مترًا مربّعًا واحدًا، أي الواحد والوحيد، أي الجليل.

تبدو الأمثلة التي يقدّمها الفنّان صعبة الفهم نظرًا لجزئياتها الرياضية الدقيقة، إلاّ أن المستمع لسمير التريكي ينبهر بكميّة المعلومات الرياضية التي يقدّمها لتدعيم نظريته في البحث في ذلك العدد "الواحد" الفريد، والتي لخصها ابن عربي في صفتي "الباطن والظاهر أو الجوهر والعرض"[6]، وأطنب سمير التريكي في البحث عنها شكليًّا عبر معالجة ثنائيّات تصويريّة كثنائيّة السالب والموجب، الفاتح والغامق، الأنثوي والذكري، الملأ والفراغ.

بين التشظي والإدراك.. جوهر الممارسة التريكيّة

يعود بنا سمير التريكي في كلّ مرّة، إلى جوهر الدلالات اللغوية ليبرهن عن ارتباط ممارسته التشكيليّة بفلسفة عميقة ترنو إلى الكشف عن ماهية الالتزام التشكيليّ في آثره الفنيّة. نجد الفنّان إزاء حكمة "الإدراك للباطن" مقابل "تشظي الشكل والبنية"، بين الوعي بكليّة الشكل الهندسي من جهة وبضرورة الانحراف من جهة أخرى. يقول: "يبدو الاطمئنان صعب المنال عندما أتفطن إلى التزامي من جهة بأشكال الهندسة الإقليدية. وبين تلبيتي من جهة أخرى لنزوة داخلية دفينة تدعوني إلى خيانة الالتزام الأول في اتجاه القبول باعتماد قواعد ترتكز على عدم الانتظام والتجزئة"[7].

تبدو الانحرافات التي يتحدّث عنها سمير التريكي غير واضحة للعيان لأنّها مرتبطة بالقراءة الباطنيّة للعمل

تبدو الانحرافات التي يتحدّث عنها سمير التريكي غير واضحة للعيان لأنّها مرتبطة بالقراءة الباطنيّة للعمل. عند التمعّن في العمل يتبيّن لنا أنّ لا مجال للصدفة أو المزاح داخل فضاءاته التصويريّة، كلّ شكل سُطِّر في مكانه ولكلّ مساحة وظيفتها الدقيقة في التركيب وأيّ انحراف هو ترجمان لهندسة أكثر تعقيدًا من الاستقامة الظاهرة، بدليل أننا حين نتوغّل في لوحته "إدراك أ في ثلاثيّة" أو "إدراك ج في ثلاثيّة"، سندرك التنوّع في التكوين الهندسي "البسيط في الظاهر"، حيث تُخلق ثغرة بين قوانين الطبيعة الصوريّة وبين التنوع غير المحدود للظواهر الهندسيّة الدقيقة. هناك تجانس بين الشكل المرسوم وعدد تكراره، فهو هو نفسه أينما تذهب العين، وهو آخر في اللون، وهو أيضًا المتغاير في الانعكاس، لكن العجيب في كلّ ذلك أنّه لا وجود لشكل دون نقيضه ودون النظام الكليّ لتركيبه. "الفراغات التي توجد في اللوحة محسوبة بدقة متناهية. لا يمكن تعديل قياساتها. لا يمكن زيادة أو إنقاص ملميتر واحد وإلاّ لا معنى للعمل برمّته"[8].

[[{"fid":"103654","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"سمير التريكي","field_file_image_title_text[und][0][value]":"سمير التريكي"},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"سمير التريكي","field_file_image_title_text[und][0][value]":"سمير التريكي"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"سمير التريكي","title":"سمير التريكي","height":530,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

يجمع سمير التريكي في أعماله قدرته على التخييل ومعارفه في الرياضيات، الأولى من أجل الحدس وإنشاء التنوّع والثانية من أجل التصوّر كتمثّل لوحدة الإدراك. بالنسبة إليه لا يمكن الوثوق في التناول الأفقي للطبيعة بل لابدّ من مقدرة أرفع بكثير من العين، يجب على الفنّان أن ينجز أثره بــ"استقامة" تامة ليحقّق ما أسماه "البناء التصاعدي للأثر".

اقرأ/ي أيضًا:​ معرض صدّام الجميلي عن اسمه: أنا الدكتاتور في أسوأ أوقاته

يقول: "يجب أن يمُد الفنّان جُذوره في محيطه الضيق وينطلق نحو الأعلى باستقامة واثقة نحو الآخر"[9]. والهندسة تسمح بدفع الرؤية نحو السماء في حين أنّ الواقع يجعل الحقائق تتأرجح نحو الأسفل. يشبّه أحد الروائيين كلّ ذلك بجذع الشجرة الذي يكون في المنتصف ويوحّد كلّ شيء "الجذور والأغصان". المربّع هو الشجرة التي تصب في السماء والمتجذّر في الأرض "المسألة كلّها أنّني لا أتفرّع عن البحث في هذا الشكل، التفرّع يمنع الفكرة من النموّ –يقول سمير التريكي متحدثًا عن المربّع- المربّع كالشجرة يحتاج إلى الخطوط المستقيمة ليكون واضحا، أعتقد أنّه لم يُستنفذ وأنّني لم أستنفذه إلى حدّ الآن. إنّه مازال ينمو"[10].

 

المراجع

[1] - حوار مع سمير التريكي في مرسمه 12-10-2018.

[2] - حوار مع سمير التريكي في مرسمه 12-10-2018.

[3] -نفسه.

[4] - ابن عربي، "فصوص الحكم"، دار الكاتب العربي، بيروت، ص77.

[5] - مقال إلكتروني بعنوان "لا توجد صدفة في علم الأرقام.. فالإنسان رقم وحرف"، بمجلة إرم نيوز بتاريخ 14/05/2016. 

[6] - ابن عربي، مرجع سابق، ص36.

[7] - سمير التريكي، كاتالوغ معرض الفنّان "بين التشظي والإدراك" بغاليري المرسى 2018، ص23.

[8] - حوار مع سمير التريكي في مرسمه 12-10-2018.

[9] - نفسه.

[10] - حوار مع سمير التريكي في مرسمه 12-10-2018.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

الجيل اليتيم في البلاد التي اختارها المهرّبون

شربل داغر.. تأصيل شامل للوحة العربية وسياقاتها