19-يناير-2019

يعبر المغاربة من خلال النكات عن واقعهم المتردي (Getty)

الضحك كالبكاء يُفصح دائمًا عن حقيقة ما، وعندما تتداول الشعوب النكات في السياسة فإنها في الحقيقة تعبر عن مكبوتات لم تقو على الإفصاح بها مباشرة، مترجمة ما يعتريها من مخاوف وأفكار وآمال إلى رموز ومعانٍ عديدة.

يمكن اعتبار النكتة مظهرًا من مظاهر الأدب الشعبي، قد تتخذ أشكالًا مختلفة، ربما تُحكى شفاهيًا أو كتابيًا أو عبر الصورة

النكتة مرآة صادقة للمجتمع

يمكن اعتبار النكتة مظهرًا من مظاهر الأدب الشعبي، قد تتخذ أشكالًا مختلفة، ربما تُحكى شفاهيًا أو كتابيًا أو عبر الصورة، كما قد تكون عن طريق الكاريكاتور أوالعرض المسرحي، وفي أيامنا هذه تتلون بقوالب كثيرة ومتنوعة ترتبط بالشبكات الاجتماعية، مثل لقم التدوينات والتعليقات والصور المصممة والصور المتحركة ومقاطع الفيديو وغيرها من القوالب.

وأيًّا كانت الوسيلة المستخدمة، فإنه لا بد أن تتضمن النكتة عنصر المفارقة والمفاجأة والغرابة التي تسبب شعورًا بالدهشة، ما يطلق شحنة إيجابية من المتعة والبسمة.

قد يكون الغرض من معظم النكات هو المزاح والترويح عن النفس، لكن النكتة السياسية بالتحديد تذهب إلى بث رسائل رمزية جادة، كنوع من التعبير والمشاركة السياسية، "إنها هتاف الصامتين والمستضعفين، ونزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه"، كما يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون.

ولذلك، فالنكتة السياسية في الواقع هي مرآة صادقة لقيم ومعتقدات وأسرار المجتمع الذي يُوَلّدها، إنها تكشف من خلال رموزها المشفرة مواقف وتطلعات ومخاوف الجموع. وبالتعبير الفرويدي فهي "زلات لاشعورية"، تخرج مكبوتات المجتمع بعد أن تعب الأخير من كبحها وكبتها داخله.

وتنتعش النكتة السياسية خاصة في البلدان المغلقة سياسيًا، حيث القهر والتفاوت الطبقي الفاحش والقمع والعنف والمنع ومصادرة الحريات والتضييق على الرأي. إذ تعبر النكتة السياسية عن رسالتها بطريقة غير مباشرة، وغير معروفة المصدر، ما يسمح لصاحبها بتفادي الاستهداف، وهذا يجعلها سلاحًا مثاليًا للشعوب المستضعفة في مواجهة الأقلية القوية المستعلية.

كما قد تمثل النكتة السياسية نحيبًا مغلفًا بالضحك على واقع نرفضه، فنقول من خلالها ما نعجز عن الجهر به صراحة، أو قد تظهر تطلعات نروم إليها ولا قدرة لنا على تحقيقها، فنعيد إنتاجها من خلال الخيال الكاريكاتوري، وبذلك يتم تحويل العجز المطلق إلى قوة وتعالٍ. وتوجد النكتة السياسية أيضًا في المجتمعات الديمقراطية، حيث يصبح السياسيون عرضة للسخرية، سواء من قبل الصحافة أو الرأي العام.

النكتة المغربية تزدهر في الموقع الأزرق

وقد استخدم المغاربة سلاح النكتة خلال كل الظروف التي مرت بهم، وجعلوها متنفسًا في أحلك الظروف وأشدها، وهكذا "وجد أفراد الشعب في النكتة والتنكيت وسيلة فعالة للتعبير عن الآراء والمواقف التي لا يقوون على الجهر بها، وطريقة لتفريغ المكبوت المتعلق بالتدبير السياسي والاقتصادي في البلاد"، كما يكتب الباحث المغربي إدريس ولد القابلة.

في حقبة "سنوات الجمر والرصاص"، كانت النكتة السياسية سلاح المغاربة الوحيد ضد السلطوية، حينها لم يكن بالإمكان الجهر بالرأي والأفكار، إلا من خلال الترميز والإيحاء بالكاد، فكان الناس يتداولون النكات مع أقربيهم في ما يشبه الدهاليز والأنفاق المغلّفة بالحيطة والحذر، خوفًا من رعب السلطة، من أجل كسر الصمت والخروج من الضغط السياسي والمعيشي آنذاك ولو لبرهة.

ومع ذلك، فقد ظلت النكتة السياسية في إطار محدود، وكما يقول السوسيولوجي المغربي جمال خليل، فإنه "لطالما كانت النكتة المغربية تحوم حول التابوهات، لكنها لم تتجاوزها حقيقة"، وذلك لأن التندر بالرموز السياسية حينئذ كان محرمًا ولو بالنكتة، واستمر هذا الأمر إلى عهد قريب.

لكن مع قدوم عصر الشبكات الاجتماعية، انفلتت النكتة من كل القيود المفروضة وطفت إلى السطح، حيث أصبحت الوسيلة المفضلة لدى رواد مواقع التواصل الاجتماعي للرصد والتعليق على مختلف الأحداث السياسية التي تشهدها البلاد. وهكذا فكلما وقعت فاجعة، أو انكشفت فضيحة ما، أو تورط مسؤول ما في قضية فساد، انطلقت فورًا المنشورات متلاحقة وهي تعقب بسخرية على الحدث بشتى الطرق.

وبفضل شبكات التواصل الاجتماعي والإمكانات الهائلة التي تتيحها، أصبحت النكتة السياسية بالمغرب في أوج ازدهارها، فبمجرد فتح منصة فيسبوك تباغتك نفحات السخرية من كل جانب، في الصفحات والمنشورات والتعليقات والوسوم والصور ومقاطع الفيديو المرفوعة، حيث يجتهد رواد الموقع الأزرق في تفجير طاقاتهم الفكاهية، وهم ينتقدون الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد.

وتطال موجات السخرية مختلف الفاعلين السياسيين والشخصيات العمومية، خاصة منهم الوزراء والبرلمانيين، الذين لا يفوتون الفرصة لمنح نشطاء الشبكات الاجتماعية في كل مرة هدايا للتندر، بسبب مواقفهم أو تصريحاتهم المثيرة للسخرية.  كما تتناول النكات أوضاع الفقر والغلاء وضبابية المستقبل.

قد يكون الغرض من معظم النكات هو المزاح والترويح عن النفس، لكن النكتة السياسية بالتحديد تذهب إلى بث رسائل رمزية جادة، كنوع من التعبير والمشاركة السياسية

وبالتالي صارت النكتة السياسية في الشبكات الاجتماعية سلاحًا خارق التأثير، تخترق مختلف الفئات الشعبية وتنتشر كالنار في الهشيم، كاشفة الواقع الموبوء أمامها بوجهه القبيح وقتامته، في صيغ بسيطة ومسلية، لكنها  تغني عن عشرات المقالات والخطب والتحليلات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حراك الريف.. انتهاكات الأمن مستمرة بتعذيب المعتقلين داخل السجون

حصاد المغرب في 2017.. فورات شعبية وصحافة مقيدة وتدهور حقوقي