10-يونيو-2018

ياسين بلحسن/ الجزائر

لا يمكن فصل السؤال النقدي الأدبي عن الأسئلة الجذرية التي تُطرح في مجالات الفكر والسياسية والثقافة عمومًا، بل إنّ تطوّر حقل الممارسة النقدية الأدبية مرهون بالحركية الدؤوبة للنشاط الفكري، وبنضج الحياة السياسية المستوعبة للمختلف الأيديولوجي، والأهم من ذلك، بمدى حضور الوعي النقدي داخل المجتمع أفراد وجماعات ومؤسسات.

لم يعد النقد، معنيًا بالحكم التقليدي ـ التصنيفي، فهذه الوظيفة لم تعد مجدية، لأنها تحوّل الناقد إلى قاض، أو إلى فقيه يجيز ويبيح

لقد شغلني النقد الروائي لسنوات، وفي كلّ مرّة أخطو خطوات في هذا الحقل، إلا وتتصدى لي جملة من الظواهر، على رأسها: صعوبة الانخراط في نقاش نقدي حقيقي حول المنجز الروائي، بل إنّ ما يسمى نقدًا لا يعدو أن يكون أمرًا من الأمرين: مدحًا مجانيًا، أو قدحًا على غير مسؤولية أخلاقية ومعرفية.

اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني

هل نحن أمام أزمة حقيقية؟ حين نتحدث عن النقد الروائي فنحن نقصد به ما ينتج من قراءات حول الأعمال الروائية قديمها وحديثها ومعاصرها، لكن أيضا النقد بوصفه انتباهًا إلى قضايا معرفية واجتماعية وسياسية وفلسفية وجمالية تتفجر داخل تلك الأعمال.

لم يعد النقد، من وجهة نظري معنيًا بالحكم التقليدي ـ التصنيفي، فهذه الوظيفة لم تعد مجدية، لأنها تحوّل الناقد إلى قاض، أو إلى فقيه يجيز ويبيح ويحرّم، فتلك كانت وظيفته في العصور الأولى، حين كان الوعي النقدي مجرد حالة ذوقية. أما اليوم، فالنقد قد أعلن استقلاليته عن تلك التبعية التاريخية والأنطولوجية للأدب؛ لم يعد النقد، إذا ما قرأنا بحذق ما يكتب اليوم عالميًا، ظلًا للأدب، بل أصبح بذاته يمثل شكلًا من أشكال الكتابة.

ما يُعقِّد اليوم من وضعية النقد هو ما منحته الوسائط التكنولوجية اليوم من إحساس بديمقراطية المعرفة، وبحق الجماهير الغفيرة في أن يكون لها الصوت المسموع في قضايا كانت إلى زمن قريب من شأن الأخصائيين؛ واليوم أصبحت النصوص الأدبية عرضة للانتقاد ممن هم بعيدون عن حقلي الأدب والنقد، بل أصبح الشخص العادي يحكم وينقد يصادر.

لو نتابع ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي من مناشير وتعليقات في قضايا الأدب والرواية والنقد والفكر سنصاب بفزع كبير ممّا آلت إليه الأوضاع من تميع حقيقي وخطير، يعلن ولو ضمنيًا عن امحاء الحدود بين أصحاب التخصص وبين العوام، وهذا الامحاء هو الذي أربك المنظومة النقدية، وزحزحها من مكانها الطبيعي، ومن وظيفتها الحقيقية.

قراءة كتاب "موت الناقد" للناقد البريطاني رونان ماكدونالد تكتسي أهمية قصوى في هذا المجال، أقصد مجال انحصار أفق النقد الأدبي في ظل الوسائط التكنولوجية، حيث أدت هذه المواقع والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي إلى الإعلان عن موت الناقد، الذي أزاح مركزه جحافل القراء، الذين استسهلوا النقد، وسطحوا القراءة بحيث فقدت قدرتها على المساءلة، وعلى التحليل، وعلى التفكيك، والأهم من ذلك، قدرتها على الإمساك بالجمالي والفني في الأعمال الأدبية.

النقد الأدبي هو حلقة في سلسلة ممتدة تصل حقول المعرفة والاجتماع والسياسة والدين، وإذا كان ماركس قد قال إن لا نقد دون انتقاد الدين، فإنّ البيئة الاجتماعية والسياسة والثقافية التي ننتمي إليها، تجعل من ممارسة النقد شكلًا من أشكال التمرد، أو فعلًا من أفعال العقوق الاجتماعي.

لا يمكن أن تنقد رواية إذا كنت أصلًا محرومًا من نقد النظم الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية التي تشكل الفضاء الذي تنتمي إليه، والتجارب تقول إنّ الثقافة التي تشكلنا فيها تميل إلى الثبات والجمود والتكلس أكثر مما هي ثقافة متحركة ومتوترة.

الجهل أيسر الطرق لتشييد إمبراطوريات العبث. لأنه يحوّل الشعوب والحشود البشرية إلى قطعان من العميان

هي ثقافة ترهب من التجديد، وترى أنّ أيّة خطوة في سبيل تحديث الأفكار والرؤى والأذواق هي مساس بالأمن العام. التاريخ العربي هو تاريخ وأد كل محاولات التحديث والتجديد، بل هي بيئة تجد صعوبة في التكيف مع مناخات الحرية، وتجد صعوبة أكبر في السباحة في مياه الديموقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: أشياء على سطح الرواية

أن تتعود على البرك الآسنة هو ما يمثل التجسيد الرمزي لواقعنا الثقافي. إنّ وعينا قد شكلته الأنظمة الشمولية، التي استثمرت في أصعب مناطق الذات توترا وهو التراث، الدين، الهوية، اللغة... إلخ

وما الشمولية إلا تمظهر لغياب التفكير، فعلاقة هذه الأنظمة بالفكر قائمة على العداء الأبدي، وعلى المصادرة، وهذا بسبب أن الفكر والعقل مريبان ومخيفان لأنظمة تفرض هيمنتها من خلال آلية التجهيل.

الجهل أيسر الطرق لتشييد إمبراطوريات العبث. لأنه يحوّل الشعوب والحشود البشرية إلى قطعان من العميان. في هذا السياق تحدث الباحث الجزائري إسماعيل مهنانة عن مفهوم "العمى الايديولوجي" وهو الذي يقف في الطرف المناقض لمفهوم الوعي. وتحديدا الوعي النقدي. هذا الأخير هو ترياق ضد هذا العمى. "إنّ هذا العمى يضرب عصرنا بعمق وتشتد سطوته أكثر في المجتمعات العربية والإسلامية حيث العلاقة بين المعلم والمريد علاقة تبيعة وليست علاقة صداقة، وهذا أيضا وجه مهم من غياب التفكير. فحيث تسود علاقة الصداقة بين المعلم والمريد تتحول المعرفة إلى أفق تفكير مشترك بين الطرفين. " (إسماعيل مهنانة، كتابات على جدار الأزمة)

كل الايديولوجيات هي بطريقة أو بأخرى أسيجة عالية تخلق كثافة بصرية تحول دون النظر بوضوح إلى شفافية العالم، إنها أجهزة لقمع الوعي، ولحجب الأبصار عن الرؤية بوضوح. الايديولوجيات هي ادوات لصناعة كائنات عمياء، يسهل اقتيادها نحو الزنازين الانطولوجية العتيقة.

في منظومات القهر، يكون العقل عدوًا، ويكون الغباء سياسة تنتهجها الأنظمة لفرض وجودها، فما يديم هذا الوجود هو كثير من الغباء، خاصة إذا سُقي بمياه العواطف، أو المشاعر الدينية.

يكفي أن تغلف قضية ما بغلاف الدين لتضمن هذه الانظمة وجودها. لم يكن العقل يومًا حليفا لها، وبقدر نفورها الشديد من العقل، وما ينجم عنه من تفكير وإبداع وتجديد وحرية... إلخ يكون الوجود قد تحول إلى يباب مفتوح على عبث جائع، وتكون الأسئلة التي تتفجر من ذلك الوضع أشبه بصراخات غريق يمد يده بلا جدوى.

كل شيء يرجع إلى نقطة ثابتة واحدة، أي إلى مطلق ما، سواء أكان بشريًا أو أسمى منه، وتلك النقطة هي التي ترسم الحدود الدقيقة بين اللغة والأشياء، بين الحقيقة والعالم، بين العقل واللاعقل... إلخ ستكون تلك النقطة مبدأ إقصاء ومصادرة لما يشكل الرؤى المغايرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مدونة أمبرتو إيكو.. حدود المعرفة وفضاء الخيال

عبد الكريم الجويطي.. في مغرب الأسرار