30-نوفمبر-2018

تلاميذ في رحلة مدرسية أمام المكتبة العامة في مطروح

الكتاب، أيًّا كان شكله سواء كان مجلة أوموسوعة أوكتابًا مدرسيًا أورواية أو أي محتوى ثقافي، هو نتاج السياسة الثقافية في البلاد، ولطالما حفل التاريخ المصري بأدلة شتى على ذلك، حيث يذكر كتاب "السياسة الثقافية في مصر ومدى عقلانيتها" عن أن الرسائل السياسية وصلت إلى مجلات الأطفال في عصر عبد الناصر، وقد ظهرت هذه الرسائل في مجلة "ميكي" التي زامنت عهد النكسة عام 1967، وما حوته من حديث عن العروبة والاستعداد للحرب وغيرها.

المكتبات في عالمنا العربي، خاصة في مصر، حلبات للصراع مع السلطة، ذلك أن عملها يرتبط بحرية التعبير

المكتبات في عالمنا العربي، خاصة في مصر، حلبات للصراع مع السلطة، ذلك أن عملها يرتبط بحرية التعبير، لذا كان الكتاب دومًا في مواجهة السلطة، خاصة إذا كان ينادي بفكر مختلف، وكان إنشاء المكتبات العامة يمضي بالتوازي مع مصادرة الكُتب التي لا تُعجب السُلطة حتى وصلنا إلى عهدنا الحالي، حيث يُعتقل مؤلف الكتاب، ويتم إغلاق المكتبات العامة لأغراض سياسية.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. عصر تشميع المكتبات بدأ بـ"الكرامة" أولًا

مصادرة الكتب وإنشاء المكتبات.. تأطير تاريخي

لم يكن في مصر سياسة ثقافية تهتم بإنشاء المكتبات العامة إلا مع وصول محمد علي إلى الحكم، واهتمامه بالتعليم كشكل من أشكال بسط النفوذ والسيطرة على مفاصل دولته، فبعد إرسال البعثات وإنشاء المدارس والكليات المختلفة في مختلف التخصصات، أنشأ عام 1882 المطبعة الأميرية لطبع ونشر الأوراق الحكومية والكتب العلمية والأدبية والترجمات، كما أنشأ جمعية المعارف ودار الكتب. وقتها عرفت مصر لأول مرة مصادرة الكتب، وكان أولها كتاب "ديانة الشرقيين" الذي تمت مصادرته عام 1823 بدعوى أنه يدعو إلى الإلحاد والطعن في الدي الإسلامي، وبناء على ذلك القرار تم منع الأجانب – دون المصريين- من نشر أي كتاب بمطبعة بولاق، دون استصدار تصريح بنشره من الباشا نفسه.

في عام 1881، صدر أول قانون رقابة عرفته مصر، وهو القانون الصادر بعد الثورة العرابية وكان يعطي الحكومة الحق في مصادرة كل الأعمال، مكتوبة أو مرسومة أو معروضة على السواء، التي ترى الحكومة أنها مخالفة لما تم تسميته "النظام العمومي للآداب والدين".

بعد مجيء الاحتلال الإنجليزي إلى مصر، بدأت المقاهي تلعب دورًا شبيهًا بالمكتبات العامة، حث كان المنتج الثقافي نخبويًا إلى حد كبير. كان من أهم أنشطة الرقابة على الكتاب في تلك الفترة مصادرة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للكاتب علي عبد الرازق سنة 1925، أثناء حكم الملك فؤاد لأسباب سياسة، وفي السنة التالية صودر كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين الذي اتهم وقتها بالطعن في القرآن.

سور الأزبكية.. سوق الكتب الشعبي في القاهرة

بعد أن بدأت دولة يوليو ببسط يدها على الحكم، تم تأميم المراكز الثقافية، وسيطرت الدولة على كل القطاعات من خلال بنية تشريعية تسمح لها بفرض رقابتها على كل المؤسسات، فأُمِمت أشكال الثقافة كلها، حتى دور السينما والصحف ودور النشر.

في تلك الفترة ظهرت تجارب عديدة منها "جاليري 68"، وكانت فكرتها تتمثل في إقامة معرض للفنانين التشكيليين الجدد واستخدام العائد الناتج عن بيع اللوحات الفنية في طباعة مجلة، وكان هذا في ظل تشجيع العديد من الأدباء والمثقفين الكبار مثل نجيب محفوظ، وبدأ الكتّاب في استخدام هذه المجلة لكتابة ما كان ممنوعًا من قبل، وانتهت التجربة سنة 1971 ببيان في آخر عدد يقول: "كنا نتمنى لـ 68 أن تكون ساحة مفتوحة، رحبة الهواء، ومتلاطمة، وأن تنأى بنفسها عن الالتزام المتزمت بالعقائد والأيديولوجيات".

أرادت سوزان مبارك الاستثمار السياسي في الكتب، من خلال مشروع "مكتبة الأسرة"، الذي استخدمته واجهة للدعاية

شهد عهد مبارك الطويل صعودًا وهبوطًا فيما يتعلق بالاهتمام بالمكتبات العامة. أما الصعود فكان بافتتاح "مكتبة مبارك العامة" في آذار/مارس في الجيزة عام 1995، وهومشروع قام بالتعاون مع مؤسستين مصريتين ومؤسسة ألمانية، وهما وزارة الثقافة المصرية ممثلة في صندوق التنمية الثقافية وجمعية مصر للثقافة وتنمية المجتمع وهي مؤسسة أهلية مصرية، أما المؤسسة الألمانية فهي برتلسمان، وهي مؤسسة أهلية ألمانية تعمل في مختلف مجالات الخدمة العامة، بما فيها مجال المكتبات العامة.

اقرأ/ي أيضًا: إغلاق "مكتبة البلد" بالشمع الأحمر في القاهرة

مع مرور الوقت باتت مكتبات مبارك من أهم المكتبات العامة في البلاد، ولها أكثر من فرع على مستوى الجمهورية، حيث وصلت فروعها إلى خمسة عشر فرعًا أو يزيد. وقبلها بعام كانت الانطلاقة لواحدة من أهم المشروعات الثقافية في مصر وهو مشروع "مكتبة الأسرة" الذي أرادت سوزان مبارك أن تكون هي ومجموعتها من "سيدات المجتمع السياسي" واجهته الأولى الراعية، لذا كانت تباع كتبه وعليها صورتها في الغلاف الخلفي، فجاءت مكتبات مبارك العامة لتضع الإطار السياسي للمشروع الثقافي بصفته ابنًا شرعيًا لنظام مبارك وحده.

المكتبات العامة بعد 25 يناير.. من تنفس الصعداء إلى الإغلاق

كأنها كانت انفراجة حقيقية للشارع الذي أصبح مقر الفنون المستقلة التي ترتبط بشكل مباشر مع الجمهور، على الرغم من الموازنة  الضعيفة جدًا الذي خُصصت للثقافة والكتب.

إحدى تجليات 25 يناير على المكتبات العامة كان تغيير اسم مكتبة مبارك، ليصبح مكتبة مصر العامة، في محاولة لتحرير المنتج والشكل الثقافيين من براثن السُلطة التي سيطرت لعقود. تجلٍ آخر جاء في التخلص من كتب مكتبة الأسرة التي كانت تضع صورة سوزان مبارك على ظهر غلافها ببيعها، بأقل من نصف ثمنها من المخازن مباشرة في دور الكتب الحكومية، مما أدى إلى إقبال كبير على شرائها، لأن القارئ لا تهمه الصورة بقدر محتوى الكتاب. 

لكن كثيرًا من أشكال الحراك الثقافي وقتها كانت دون رؤية واضحة، وبات الشارع يعتمد على نفسه في خلق أجواء ثقافية شعبية ذات طابع مدني تضامني، يأخذ على عاتقه أن يحاول أن يثقب ثقبًا في جدار التهميش والعجز الذي عانت منه الثقافة في مصر.

إحدى تجليات 25 يناير على المكتبات العامة كان تغيير اسم مكتبة مبارك، ليصبح مكتبة مصر العامة

كانت إحدى المبادرات المهمة هي مبادرة "مكتبات الكرامة"، التي نظرت نظرة أعمق إلى سكان الأحياء العشوائية في مصر، من غير السكان في الأحياء الرسمية، وهي الأحياء التي تعاني عدم المساواة مع غيرها في وصول الخدمات والمرافق.

اقرأ/ي أيضًا: إغلاق مكتبات "الكرامة" و"ألف".. موسم هتك الثقافة المصرية

مبادرة مكتبات الكرامة أطلقتها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان "لتحسين المصادر التعليمية والثقافية للمناطق غير الرسمية، من خلال إنشاء مكتبات عامة صغيرة وإدارتها، والتفاعل مع المجتمعات المحلية لنشر ثقافة القراءة بين الشباب والكبار على حد سواء". وكانت أولى مكتبات المبادرة هي "مكتبة خطوة" بمنطقة دار السلام،  افتتحت في 14 أيار/ مايو 2012.

منطقة دار السلام، جنوبي القاهرة، منطقة تعاني بطبيعة الحال انعدام وجود مكتبات عامة محلية، رغم الكثافة السكانية العالية، بالإضافة إلى انعدام المساحات العامة القابلة لأنشطة ثقافية وترفيهية، حيث إن معظم المساحات مقتصرة على الأغراض التجارية.

كانت الخدمة الثقافية الوحيدة المتاحة تقدمها مكتبة متنقلة تأتي مرة واحدة في الأسبوع، لتقف بجوار محطة مترو دار السلام، الأمر الذي كان يسمح للسكان بشراء الكتب واستعارتها، لكن منذ ثورة 25 يناير لم يعد سكان المنطقة يشاهدون المكتبة المتنقلة، لذا باتت "خطوة" المكان الوحيد الذي يقدم خدماته بصورة يومية بالمنطقة دون أي رسوم.

مكتبة مصر الجديدة

لا بد من الإشارة إلى أن القائم على مبادرة مكتبات الكرامة العامة هو المدير لتنفيذي للشبكة العربية لحقوق الإنسان، التي يجري تمويلها من أموال جائزة حصل عليها، "جائزة رولاند بيرجر للكرامة الإنسانية"، لنشاطه في مجال حقوق الإنسان، وهي الجائزة التي تبرع بقيمتها بالكامل من أجل المبادرة. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد أعلن النظام حربًا رسمية على كل ما هو ثقافي ومدني في إطار حرب يقودها لممارسة تضييق ممنهج على كل المبادرات الشعبية والمدنية، في ظل حرب أكبر على مؤسسات المجتمع المدني بكل أطيافه، حيث قامت الأجهزة الأمنية في 2016 بإغلاق مكتبات المبادرة، على الرغم من تأكيد مؤسسها جمال عيد أنه ليس لها أي توجه سياسي.

كانت إحدى المبادرات المصرية المهمة هي "مكتبات الكرامة"، التي نظرت نظرة أعمق إلى سكان الأحياء العشوائية في مصر

كما قامت الأجهزة الأمنية أيضًا بشن حملات أخرى لإغلاق مكتبات عامة مثل "مكتبة البلد"، في شارع محمد محمود في وسط القاهرة،  وتم إغلاقها بالشمع الأحمر واحتجاز اثنين من العاملين فيها، ومصادرة الكتب والكراسي والطاولات فيها. ومن المعروف أن مكتبات "البلد" مملوكة لرئيس الحزب المصري الديمقراطي  فريد زهران، افتتحها في أعقاب ثورة 25 يناير، وكانت تقدم أنشطة ثقافية وفنية،  وتنظم ندوات أدبية وحفلات توقيع كتب، ودورات في الشعر والرسم والموسيقى والخط والتمثيل.

اقرأ/ي أيضًا: حرب الدولة المصرية على الكتب.. إلى متى سيخنق السيسي معارضيه؟

بهذه التطورات بدا أن النظام يعادي أي مساحات ثقافية غير حكومية ويصادرها، بل يفصل قوانين لمصادرتها وجعلها تحت سطوته،  لأنه بات يعتقد أن وصول الثقافة والمنتج الثقافي الرخيص إلى عموم الناس هو سبيل للوعي الذي قد يقود إلى فهمه، وبالتالي مواجهته، أما الجديد فهو تحول المكتبات العامة إلى ساحة لهذا الصراع وترك ساحات أخرى أجدر بالمعركة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 معرض دمشق الدولي.. تجميل إجرام الأسد بفنانين انتهت صلاحيتهم

مصر الانقلاب.. كوكتيل المنع والفقد