02-ديسمبر-2018

قارئات في إحدى مكتبات هامبورغ (فيسبوك)

الحديث عن الكتاب في المنفى حديث يتداخل فيه الأسى والرثاء بالنسبة لقارئ اللغة العربية، فالحصول على كتاب جدير بالقراءة يقع في باب اللعنات، إذ إنّ مواقع التسوق الشهيرة مثل "أمازون" و"إيباي" تعرض غالبًا كتبًا استهلاكية، تتوزّع بين الروايات الرائجة والكتب الدينية ومجلدات الطبخ، إلى جانب أنّ الصفحات المتخصّصة في بيع الكتب في مواقع التواصل الاجتماعيّ، لا سيما في ألمانيا إذ باتت تتكاثر مؤخرًا، لا تختلف عما تقدّمه مواقع التسوّق لجهة بؤس الخيارات سوى أنّ كتبها مقرصنة، ومع أنّ الكتاب المقرصن يغدو نوعًا من الحلّ إلّا أن بيعه بأسعار تفوق أسعار الطبعات الأصلية يجعل من الأمر مزحة سمجة.

الحديث عن الكتاب في المنفى حديث يتداخل فيه الأسى والرثاء بالنسبة لقارئ اللغة العربية

علّمتنا حيواتنا كقرّاء أنّنا نصل إلى معرفة الكتب التي سنقرأها من زاويا مختلفة، مثل متابعة الصحف والمواقع، ونصائح الأصدقاء، ومراجع واقتباسات الكتب التي نقرأها. تتسبّب أخبار الإصدارات الجديدة، كوننا بعيدين عن سوقنا، بألمٍ تمتزج فيه الحسرة بالغيرة. نعرف أنّ القراءة ليست المتعة الوحيدة التي تنتظرنا، فمن يعيش في عالم الكتب موعود على الدوام بلذائذ شتى؛ البحث بلا هدف بين رفوف وواجهات المتاجر، وفي دهاليز البسطات وشعابها، واقتناء الكتب لأجل الاقتناء. كل هذا يصبح هباءً منثورًا حين تنتهي إلى بلدٍ لا يتكّلم العربية، فلا تعود لديك الفرصة للعثور على كتب قديمة، أو عناوين شبه مجهولة، أو أعداد مجلات مُحتجبة، ولا تعود لديك فرصة التجوال بصمت في أمكنةٍ تتخذ العلاقة معها شكل الانتماء.

اقرأ/ي أيضًا: خليل صويلح.. بيان ضد المكتبة

هكذا ستكون المكتبات العامة خيارًا وحيدًا، لكن رفوف المكتبات الأوروبية، تشهد ما يشبه الانعدام للكتاب العربيّ، على الرغم من الوفرة الهائلة للمكتبات العامة في مختلف الأحياء، وتوفّر المحلات المتخصصة في الكتب المستعملة، إضافة إلى المشاريع الشعبية لتبادل الكتب بين القرّاء.

مثل كل السوريين، وصلتُ إلى هذه البلاد مُثقلًا بالخسارة، لأجد نفسي بعد زمن من التسليم راضيًا بكل ما جرى على الصعيد العام من خسارات كبرى، لكنني انشغلتُ أكثر بخسائري الصغرى التي تتجلى في الكتب التي جمعتها خلال سنواتي هناك. هذا الانشغال ضاعف الإحساس بالخسارة حينما بدأت أعطي تلك الكتب، أو النسخ التي أمتلكها منها، معاني لا تتصل بمتونها بمقدار ما تتصل بالذكريات الشخصية، التي لم يعد من دليل عليها سوى تلك الأرواح المتراصة على رفوف في بيت العائلة.

في المنفى، أمام الأسئلة التي لا تنفك تفتك بالدماغ، وتحت قسوة المراجعات التي لا تتوقّف؛ بدأت قراءاتي تتخذ شكلًا منظمًّا يعطي الأولوية للبحث في مواضيع ومسائل محدّدة. ولكم تمنيّت لو بقيتُ قارئًا عشوائيًا عابثًا، تتقاذفه أمواج العناوين المتلاطمة فتنقله بين الجغرافيات والخرائط التي تشاء، أو يتعامل مع مكتبته الشخصية كما الخزانة التي يلبس منها ما يقترحه الطقس والمناسبات والمزاج.​

مكتبة "Bücherhalle Harburg" في هامبورغ

خلّصتني مكتبة جامعة هامبورغ نسبيًّا، فوجود عدد جيد من المراجع العربية الأساسية في القسم الآسيوي - الأفريقي جعلني أشعر أنّ الانتماء إلى المكان يبدأ حين يعطيك كتبًا. مشكلة محتويات مكتبة الجامعة هي قدمها، وأنها مطبوعة بطابع مانحيها، وهم مستشرقون من سكّان المدينة يبدو أنّ ذويهم قدّموا تركاتهم الورقية هدية للمكتبة، ولو كانت باللغة الألمانية فقط لانتهت بين أيدي باعة الكتب المستعملة.

تعرض المكتبة أعمالًا تناسب الباحث في الاختصاصات الشرقية المختلفة، من الفقه الإسلامي إلى التاريخ السياسي والاجتماعي إلى التراث الأدبي والفلكلور، لكنّ الغالب عليها هو رؤية الأنظمة ودعاياتها السياسية، فهناك كتب عديدة في مجد آل سعود صادرة عن مؤسسات رسمية في السعودية، كما أنّ هناك كتبًا حول حزب البعث من إصدارات مؤسساته الرسمية في سوريا والعراق. يشبه الأمر نسخةً قديمة من الحضور الجديد البائس للكتاب العربيّ في "معرض فرانكفورت للكتاب"، حيث تصطدم، على سبيل المثال، بكتاب عن السلطان قابوس بعدة لغات.

لا شكّ أن هذه الكتب تكتسب قيمة تاريخية ووثائقية، ومن الضروري أن تتوفر بين أيدي الباحثين كأدبيات أساسية معبّرة عن مراحل مهمة من حياة الأنظمة العربي، لكنّ هل هذا كل ما لدينا؟ أين الكتب التي صدرت في تلك الفترات لتقدم سردًا مناوئًا للروايات الرسمية؟

لا تبدو مكتبة جامعة هامبورغ مهتمة بالأمر، فالزمن فيها متوقّف عند تلك الحقبة، ويندر أن تجد كتابًا في أيٍّ من المجالات المعرفية صادرًا بعد الألفية الجديدة. على الرغم من ذلك، تقدّم هذه المساحة، وهي جزء من مكتبة عظيمة تمتد على عدة أبنية، فرصة نفسيّة للمنفيين ليتخيلوا أنفسهم متجولين في أسواق ومستودعات الكتب القديمة في مدن غادروها مرّةً، وإلى الأبد.

مكتبة عامة أخرى هي "Bücherhalle Harburg"، أو قاعة الكتب. إنها مكتبة المدينة الرسمية، تقع بالقرب من المحطة الرئيسية، ولديها فروع صغيرة في مختلف الأحياء. تختلف محتويات هذه المكتبة عن مكتبة الجامعة من حيث مناسبة محتوياتها للقارئ العام.

على رفوف مكتبة جامعة هامبورغ كتب عربية تغلب عليها رؤية الأنظمة ودعاياتها السياسية

حين سكنتُ المدينة قبل أكثر من عامين سجلّت اشتراكًا في المكتبة، ووجدتُ في القسم العالميّ جزءًا صغيرًا للكتب العربية، غالبية كتبه روايات عربية حديثة أو مترجمة، ونسخة واحدة من رحلات ابن بطوطة، وبعض الكتب التعليمية. الآن صار للغة العربية رفّ كامل يحوي قرابة الألف كتاب، هي تطوير لتك النواة؛ روايات الجوائز (البوكر، كتارا)، روايات مترجمة إلى العربية، خصوصًا من الألمانية، قصص مصورة، كتب أطفال.

اقرأ/ي أيضًا: الأردن.. المكتبة الجامعية للملائكة فقط

اتساع الرفّ العربي تعبير عن ازدياد الطلب على الكتب العربية، لكنّ الخيارات المحددة سلفًا بالكتب الأكثر مبيعًا، تجعل العديد من الكتابات المهمة والضرورية، بما في ذلك الروايات، في غياب مبين، ليبقى الحضور العربيّ ناقصًا مثلنا نحن الحاضرين الغائبين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النهب المعرفي الإسرائيلي.. تاريخ من اغتصاب المؤلفات

4 كتب عن الكتابة والكتب والمكتبات