11-فبراير-2017

صورة من إحدى المظاهرات المصرية عام 2012 (كارستين كوال/Getty)

شهدت الحقبة الأخيرة من القرن العشرين عددًا من التطورات السياسية والاقصادية والاجتماعية، وكان من أهم مظاهرها بروز مفاهيم مهمة، مثل التنمية البشرية ووجوب احترام حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما أدى إلى السعي إلى إحياء المجتمع المدني بمفهومه الواسع (أحزاب، نقابات، جمعيات أهلية، روابط واتحادات) لا سيما في المجتمعات التي عانت حكم الأنظمة الشمولية، وهو ما أدى إلى تهميش دور المجتمع المدني في عمليات صنع واتخاذ القرار، والإسهام المؤثر في خطط التنمية، فالتنمية الشاملة في المجتمعات المتحضّرة تعتمد على التفاعل المنظم والتأثير المتبادل بين قطاعات ثلاثة، هي: الدولة والقطاع الخاص الهادف للربح، والقطاع الثالث الجمعيات الأهلية التي لا تهدف للربح.

الجمعيات الأهلية في مصر كان لها دور عريق فقد ساهمت في الحركة الوطنية ضد الاحتلال الذي تعرضت له مصر عام 1882

والجمعيات الأهلية في مصر كان لها دور عريق فقد ساهمت في الحركة الوطنية ضد الاحتلال الذي تعرضت له مصر عام 1882 من خلال سعد زغلول وقاسم أمين وهدى شعراوي وسلامة موسى وغيرهم من رموز العمل الوطني ورواد التنوير في مصر، مارسوا أنشطتهم الوطنية من خلال الجمعيات الأهلية وكانت تلك الجمعيات في أوج نشاطها قبل يوليو 1952، وقد قامت الجمعيات الأهلية بتعويض دور غياب الدولة الوطنية الخاضعة للاحتلال، فأنشأت المستشفيات والمدارس ودور الرعاية الاجتماعية والتعليمية، ونشطت الحركة النسائية من خلالها، وأنشأت الجمعيات الخيرية الدينية القبطية والإسلامية التي لم تصطبغ بالطائفية وقدّمت خدمات لأبناء الوطن الواحد دون تفرقة على أساس الدين، ومن خلال مشروعات أهلية حاول المصريون بناء اقتصاد وطني مستقل، ومن رحم النشاط الأهلي تحقق حلم المصريين بإنشاء جامعة لهم، إلى أن انحسر النشاط الأهلي كغيره من أنشطة المجتمع المدني بعد 1952 لأسباب يطول شرحها ولكن في مقدمتها أن الدولة في مصر منذ حركة "الضباط الأحرار" المباركة في 1952 التي نحتفل بذكراها السعيدة كل عام، دولة لا تسمع مواطنيها ولا تعتبرهم أطرافًا يستحقون المشاركة في اتخاذ وصنع القرار ولا تعترف بحقهم في قراءة سريعة للتطور التشريعي المنظم لحق تكوين وتنظيم الجمعيات الأهلية في مصر.

اقرأ/ي أيضًا: السلطات المصرية تغلق أشهر مركز لتأهيل ضحايا العنف

نجد أن دستور 1923 أعطى للمواطنين حق تكوين الجمعيات التي كانت تحكمها مبادئ وأحكام القانون المدني، وكانت تنظّم نشأة الجمعيات وأنشطتها وطرق حلها عن طريق القضاء، وانتعش العمل الأهلي في تلك الفترة في ظل أحكام القانون المدني، حتى صدر القانون 384 لسنة 1956 الذي أعطى الجهة الإدارية حق حل الجمعيات وهنا بدأت مرحلة الانحسار. وصدر القانون 32 لسنة 1964 في مناخ سياسي أصرّ على إقصاء المجتمع المدني وتهميشه فألغى الأحزاب السياسية وأقرّ نظام الحزب الواحد، وسيّس النقابات المهنية واشترط في من ينضم إليها ويترشح وينتخب لمجالس إدارتها أن ينتمي إلى التنظيم السياسي الرسمي للدولة (الاتحاد الاشتراكي)، وقضى على التعددية النقابية العمالية، وفرض التنظيم النقابي الهرمي الرسمي. في هذا المناخ، شُرّع القانون 32 لسنة 1964 ليسمح للسلطة التنفيذية في الدولة فرض سيطرتها والتدخل في العمل الأهلي، وهو ما قضى على النشاط الأهلي في مصر فاقتصر على تقديم خدمات خيرية لمساعدة الفقراء والثكالى واليتامى وإنشاء دور الحضانات، ومع انحسار النشاط السياسي والمدني وزيادة حالة الاحتقان الديني ظهرت الجمعيات الدينية الإسلامية والقبطية لتقديم خدمات خيرية تعويضًا عن انسحاب الدولة تدريجيًا عن ممارسة دورها، وخاصةً بعد سياسة الانفتاح التي اتبعها أنور السادات، وكانت تلك الجمعيات الدينية مفرخًا لجماعات التعصّب الديني والإسلامي والمسيحي.

قانون الجمعيات الأهلية الذي أقره البرلمان المصري عام 2016 هو الأسوأ بين كافة القوانين المطبقة أو المقترحة لتنظيم العمل الأهلي

وفي ثمانينيات القرن الماضي، في أوائل سنوات حكم حسني مبارك، بدأ نوع جديد من النشاط الأهلي، وظهرت جمعيات ومؤسسات حقوقية وتنموية وفي ظل الحرمان التشريعي وإصرار الدولة على عدم الاعتراف بالكيان القانوني لها، ابتدع نشطاء المجتمع المدني شكلًا قانونيًا هو الشركات المدنية التي لا تهدف للربح. ومع استمرار أنشطة تلك المؤسسات وتحقيقها النجاح في كشف ممارسات الدولة في حرمان مواطنيها من الحقوق المدنية والسياسية، وتسليطها الضوء على جرائم التعذيب في مقار الاحتجاز غير القانونية، وكشف تزوير الدولة للانتخابات العامة، وممارستها للتمييز ضد المرأة والأقباط والطوائف الدينية الأخرى، وانسحابها المخجل من تقديم خدمات اقتصادية واجتماعية للمواطنين؛ عملت الدولة على القضاء على هذا الهامش التشريعي الذي ابتدعه النشطاء، فصدر القانون 152 لسنة 1999 والذي سقط بحكم المحكمة الدستورية، لعدم عرضه على مجلس الشورى لكونه أحد القوانين المكملة للدستور، وجاء تسبيب الحكم به إشارة واضحة للعوار الدستوري الذي شاب مواد القانون، وأكد الحكم على حرية العمل الأهلي وحق المواطنين في تنظيم وتكوين جمعيات أهلية دون وصاية إدارية.

وعاقبت الدولة المؤسسات والجمعيات الأهلية بعد سقوط القانون 153 لسنة 1999 بقانون أسوأ، وهو القانون 84 لسنة 2002 الذي قيّد حق تنظيم وتكوين الجمعيات. وتكمن إشكالية هذا القانون وغيره من القوانين التي نظمت العمل الأهلي في مصر أنه ضمن سلسلة من التشريعات المقيدة لحق تنظيم وتكوين المجتمع المدني، من أحزاب ونقابات مهنية وعمالية وروابط واتحادات، ففلسفة المُشرِّع المصري منذ 1952 في إصدار التشريعات والقوانين المنظمة للمجتمع المدني هي فرض جهات تابعة للسلطة التنفيذية للتدخل في شؤون المنظمات المدنية، فتصبح لها اليد العليا في السماح لها بالتكوين وتعيق حقها في إدارة شؤونها، فوزارة التضامن الاجتماعي في قانون الجمعيات الأهلية، تقوم بنفس دور لجنة شؤون الأحزاب السياسية 40 لسنة 1977، واللجنة القضائية في القانون 100 لسنة 1993 للنقابات المهنية، ووزارة الشباب في النوادي الرياضية، وشؤون الطلبة في الجامعات المصرية، ووزارة القوى العاملة في النقابات العمالية، وكلها جهات إدارة يسمح لها القانون بالتدخل لإفشال أي محاولة من مؤسسي تلك المنظمات لتحقيق الاستقلالية لمنظماتهم، بالإضافة إلى فلسفة المُشرِّع في إحداث فراغ تشريعي في مصر حتى لا يسمح لعدد من الجمعيات السلمية بحقهم في التنظيم والتكوين وممارسة الأنشطة، إلا بالانصياع للقوانين المنظمة للأحزاب السياسية السياسية أو النقابات العمالية والمهنية أو الجمعيات الأهلية.

ثم نأتي إلى إشكالية عدم احترام السلطة التنفيذية في مصر للقوانين على الرغم من أنها هي التي تساهم في تفصيلها عن طريق سيطرتها على السلطة التشريعية (البرلمان)، فالسلطة التنفيذية في مصر لا تحترم قاعدة تدرج القواعد القانونية، والتي تعلو فيها سلطة القانون على سلطة الإدارة، ففي مصر تعلو اللوائح والقرارات الإدارية على القوانين، فمثلًا في القانون 84 لسنة 2002 ولائحته المنظمة له لم يعط للسلطات الأمنية حق التدخل في شؤون الجمعيات، كما نظم القانون بصورة واضحة حق تلقي الجمعيات لتمويل بالإخطار دون موافقة الجهة الإدارية ومع ذلك تصدر الجهة الإدارية قرارات إدارية تخالف القانون، وتتدخل السلطات الأمنية في شؤون الجمعيات الأهلية، وهو شيء مخالف للقانون المعيب في الأصل، فالقانون 84 لسنة 2002 يخالف روح المادة 55 من دستور 1977 الذي أعطى للمواطنين حق تنظيم وتكوين الجمعيات السلمية، فقد ألزم القانون مؤسسي الجمعيات في وضع نظام أساسي وأجبرهم على الالتزام ببيانات واردة في القانون، كما اشترط القانون ضرورة موافقة الجهة الإدارية على تكوين الجمعيات كشرط لاكتساب الشخصية الاعتبارية، كما أعطى القانون للجهة الإدارية حقًا في التدخل في إدارة الجمعيات الأهلية.

اقرأ/ي أيضًا: استراتيجيات الأمن المصري لمحاصرة الجمعيات الحقوقية

وأما قانون الجمعيات الأهلية الجديد الذي أقرّه البرلمان المصري يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 فهو الأسوأ بين كافة القوانين المطبقة أو المقترحة لتنظيم العمل الأهلي في مصر وخاتمة العقد في سلسلة القوانين التي تدبّجها الدولة لتفريغ العمل الأهلي من مضمونه وقصره على الجمعيات الخيرية التي تحتل فيها زوجات السادة المسؤولين والجنرالات مناصب قيادية وإدارية. فالقانون المكون من 89 مادة تم تمريره بطريقة مريبة، فلم يستغرق سوى يومين من المناقشات في الجلسات البرلمانية ووصل عدد الحضور في إحدى جلستي المناقشة إلى 100 عضو تقريبًا من أصل 596.

والقانون يفرض قيودًا تنظيمية كثيرة على الجمعيات الأهلية؛ سواء المحلية أو الأجنبية، كما يفرض قيودًا على عملية جمع التبرعات من داخل مصر كإخطار الجهات الإدارية قبل التلقي بـ30 يوم عمل؛ ما سيشكل عائقًا كبيرًا أمام جمع التبرعات في أوقات الأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية. ونددت منظمات حقوقية وشخصيات سياسية بالقانون وما يتضمنه من تعديات واضحة على الدستور وإخلال بكافة تعهدات مصر الدولية بشأن تنظيم العمل الأهلي، وانعكاسات ذلك على المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا. فالقانون يتناقض روحًا ونصًا مع الدستور والتزامات مصر الدولية في إطار اتفاقيات الأمم المتحدة متعددة الأطراف، والثنائية مع الاتحاد الأوروبي، على نحو يعتبر بمثابة تجميد غير معلن للنص الدستوري، وتلاعب فج بإرادة الأغلبية الشعبية التي وافقت عليه. كما يمثل القانون انسحاب غير معلن من اتفاقيات دولية سبق أن وافق عليها البرلمان وصدق عليها رئيس الجمهورية، وتنصلًا من التزامات تعهدت الحكومة المصرية على الملأ بتنفيذها أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في إطار المراجعة الدورية الشاملة لسجلها المشين في احترام حقوق الإنسان منذ عامين. وقد لاقى مشروع القانون، قبل إقراره برلمانيًا، اعتراضات على الصعيدين الدولي والمحلي، فقد وصفه المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في حرية التجمع السلمي والحق في حرية تكون الجمعيات، بأنه "سيطيح بالمجتمع المدني للبلاد على مدى أجيال".

السنة الأخيرة شهد تصعيدًا من السلطة المصرية ضد الجمعيات الحقوقية، من خلال الملاحقة القانونية وقرارات المنع من السفر وتجميد الأموال

ولا جدال في أن هذا القانون ليس سوى وسيلة الدولة، وذراعها التشريعي، في تدمير بنية المجتمع المدني في مصر، في ارتداد واضح عن أحد أهم مرتكزات الدولة الحديثة، فضلًا عن أنه يقوض الركيزة الأساسية للمجتمع، التي تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، في وقت يعاني فيه المجتمع المصري من أزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة وممتدة، عجزت سياسات الدولة عن مواجهتها، بل فاقمت بقراراتها الخاطئة من تبعاتها على المواطن المصري المطحون، ناهيك عن أن القانون المقترح يؤثر سلبًا على بيئة الاستثمار لرأس المال الوطني والأجنبي وعلى خطط أي إصلاح اقتصادي مستقبلي جاد. وليس مفهومًا على الإطلاق أن يتجاهل القانون، الذي ينصّ في مذكرته الإيضاحية على أنه شُرّع بالأساس من أجل حماية الأمن القومي المصري، الدور المهم الذي تقوم به الجمعيات الأهلية وهي كيانات طوعية غير ربحية قرّرت العمل داخل الإطار القانوني للدولة لتقديم الخدمات التي تعجز الحكومة عن تلبيتها؛ إذ يُفترض أن تحرص الدولة على تعزيز قدرة عمل هذه الجمعيات والمؤسسات بحرية ومرونة لمواجهة هذه المشكلات المستفحلة بفعل الإجراءات الحكومية الرعناء، لكن يبدو أن مفهوم الأمن القومي يعني شيئًا آخر عند من يحكمون الآن.

وبنفس الحجة البليدة، تقود الدولة وأذرعتها الأمنية منذ 2011 حملة مسعورة على عدد من منظمات المجتمع المدني الأكثر مصداقية واستقلالية، تتابعت فصولها طوال 6 سنوات ولا تزال وقائعها دائرة إلى الآن، وينتظر العديد من العاملين المصريين والأجانب في بعض المنظمات الأجنبية أحكامًا غيابية بالسجن لمدد تتراوح بين سنة و5 سنوات، بينما ينتظر البعض الآخر دورهم كلما لوحّت الدولة بقضية التمويل الأجنبي من حين لآخر. غير أن السنة الأخيرة شهد تصعيدًا خطيرًا من خلال الملاحقة القانونية ضد المنظمات الحقوقية باستخدام قرارات المنع من السفر، وتجميد الأموال، والأمر بالإغلاق، والاستدعاء للاستجواب، وهو النهج الذي يؤكد إصرار الدولة على غلق مجال العمل الأهلي بأكمله

أخيرًا، إن حرية العمل الأهلي في مصر وحق تكوين وتنظيم الجمعيات الأهلية هو حق أصيل، ولا ينفصل عن حق المواطنين في تكوين وتنظيم منظمات المجتمع المدني، وهو شأن لا يخصّ نشطاء العمل الأهلي في مصر فقط، بل هو شأن عام لجميع المواطنين وعليهم الدفاع عن حقهم الدستوري في التنظيم من أجل مجتمع مدني حرّ في وطن حرّ كبّلته أغلال الفساد والاستبداد والقهر.

اقرأ/ي أيضًا: 

تجدد موسم الانتقام من الحقوقيين في مصر

مصر..قانون جديد للقضاء على المجتمع المدني